كان العامل الكردستاني, دائماً, شديد التأثير على مختلف جوانب القضية الكردية في سوريا, وعندما كان هذا العامل يختلُّ لغير صالح هذه القضية ـ مثلما كان الحال بشكل خاصٍ في العقدين الأخيرين من القرن الماضي ـ كانت الحركة الكردية وقضيتها في سوريا تعاني لوقت طويل من هذا العامل. ولهذه المعاناة بعدٌ مركَّب؛ فمن جهة أولى, أتت نتيجة للدوافع الذاتية للشعب الكردي في سوريا , سواء كان ذلك على المستوى الفردي, أيْ تطوُّع أفراد بقرار شخصي ذاتي في العمل النضالي في الأجزاء الأخرى من كرستان, بدوافع قومية تضامنية. أو من قبل فصائل الحركة الوطنية الكردية, وها هنا تضاف عوامل أخرى, تتصل بالرؤية السياسية لهذه الأطراف, وطبيعة العلاقة بين هذه الفصائل والقوى الكردستانية, وأساليب النضال المعتمدة, بل والموقف من النظام وسبل مواجهة سياساته. ولذلك لا يمكن توصيف هذه الحالة متطابقة مع سابقتها من حيث الدوافع التي كانت محض قومية تضامنية. أو من قبل فئات إجتماعية ارتبطت مصالحها الآنية بالنظام القائم, فابتعدت عن العمل الوطني الكردي في سوريا, واستعاضت عن ذلك بالتستُّر وراء ستائر قوموية كلَّفتها, في أبعد الحدود, مساهمات مالية.
من جهة ثانية, تمثَّلت المعاناة في العلاقة بين الأطراف الكردستانية والنظام في سوريا في غضون الفترات المديدة التي تميَّزت فيها علاقات النظام بالتوتر , بل والعداء مع كلٍّ من تركيا والعراق, البلدان المعنيان مباشرة بالموضوع الذي نطرحه. فالواقع أنَّ هذه العلاقات قد نُسِجت ومرَّت بأطوار مختلفة من جراء طبيعة العلاقة المتردية بين سوريا وهاتين الدولتين, وسعياً من سوريا لامتلاك أوراق تُستثمر في عملية الصراع معهما, وليس انطلاقاً لموقف سوري داعم للقضية الكردية لاعتبارات مبدأية, يختبر مصداقيتها الموقف من القضية الكردية في سوريا, التي تشكِّل الشأن السوري الأوَّل كردياً, في حين أنِّ الأطراف الكردستانية احتاجت إلى هذه العلاقات لضرورات لوجستية, أملتها طبيعة الكفاح المسلح الذي خاضته . وهنا نحن لا نحتجّ على إقامة العلاقات, وإنَّما نعني تلك العلاقات التي مُنحت الأولية على العلاقة السَّوية مع الحركة الكردية, وألحقت, تالياً, الضرر بالقضية الكردية في سوريا.
ونخصُّ هاتين الدولتين بالذكر, لأنَّ سوريا تجاورهما, الأمر الذي ينتفي في حالة إيران, إضافة إلى العلاقة المتينة التي تربط سوريا بإيران منذ وصول آيات الله إلى السلطة, في شباط .1979
أمَّا الأطراف الكردستانية المعنية مباشرة بهذا الموضوع, فهي الثلاثي المعروف: ب.د.ك وي.ن.ك وب.ك.ك ( سابقاً ), كادَك ( الآن ). وذلك لأنَّ بقية القوى والأطراف الكردستانية, وبغض النظر عن علاقتها مع سوريا, لم تكن ذات دور رئيسيٍ في المشهد السياسي الكردستاني.
واختلفت درجة حميمية هذه العلاقات تبعاً لوضع كلِّ طرف. ففي حين ولِدَ الاتحاد الوطني في مشفى سوري, وصلُبَ عوده في حاضنة سورية ـ ولا يفوِّت مام جلال فرصة, إلَّا و يذكر هذا الجميل لسورياـ , وفي حين بلغت العلاقة بين ب.ك.ك وسوريا مرحلة جعلتنا نعتقد بأنَّ الأول قد أصبح جزءاً من استراتيجية سوريا الإقليمية, لدرجة تسيء حتى إلى العمال الكردستاني نفسه, اعتقد الديمقراطي الكردستاني بأنَّ الإرث التاريخي الذي يعتليه يمنحه الحق بأن ينكر على أي ( أخٍ صغير ) من أن ينتقد طبيعة علاقاته التي لا يخطئ فيها.
وعلى الرغم من الاختلاف بين الحالتين, إلَّا أنَّ النتائج كانت سلبية على القضية الكردية في سوريا, من حيث أنَّها شكَّلت عاملاً سلبياً ضاغطاً على الحركة الكردية في سوريا, حرمها من حقِّها في, وحاجتها إلى علاقة متكافئة مع الأطراف الكردستانية, تقوم على الاحترام والتعاون المتبادلين, تعزيزاً للنضال القومي المشترك. ـ وحق وحاجة الأطراف الكردستانية أيضاً ـ.
أكثر من هذا, فقد أساء الكثير من المواقف والتصريحات, التي جاءت تحت تأثير هذه العلاقات غير المتكافئة, إلى الشعب الكردي وخصوصية قضيته في سوريا.
أمَّا المعطيات التي يسَّرت تشكُّلَ هذا العامل بهذا النحو, والتي أفضت بمجملها إلى أن تُلبَس الحركة الكردية, وتتلبَّس دور ( أصغر الأخوة ) بالمفهوم الأسروي التقليدي, فهي عديدة , ولن نخوض في تفصيلها, وإنما هي تتَّصل, في بعضٍ منها, إيجازاً, بالتقسيم المتفاوت ,حجماً, لكردستان, والمساهمة الطرفية للمناطق الكردية في سوريا, في الأحداث الكردستانية تاريخياً ( الثورات, الإنتفاضات...), وشكل الكفاح المُمارس ووقعه في نفوس الأكراد.
الآن هناك عنصران جديدان يحضران بوضوح في المعادلة الإقليمية الخاصَّة بالقضية الكردية في المنطقة, بشكل عام, يُرجَّح بأنَّهما سيؤثران عميقاً لصالح تغيير إيجابي في العامل الكردستاني حيال الحركة في سوريا بشكلٍ خاص.
ويتمثَّل هذان العاملان بالتغيير الذي جرى في العراق, وانعكاس هذا التغيير على الوضع الكردستاني هناك أولاً, والتَّحول ( الكبير ) في العلاقة بين مؤتمر الحرية والديمقراطية لكردستان ـ كادَك ـ ( العمال الكردستاني سابقاً ) ثانياً .
فالتغيير الذي حصل في العراق, وما سينجم عن ذلك من استقرار الوضع في إقليم كردستان, ينتفي معه مبررات الكفاح المسلح, وما كان يتطلَّب ذلك من علاقات وصلات, كانت تفرض معادلات غير متكافئة في معظم الأحيان, والإنتقال إلى مرحلة المؤسسات الفيدرالية, سيحرِّر الحركة الكردستانية هناك من عبء هكذا علاقات, واستبدالها بعلاقات ذات طبيعة مغايرة تنسجم مع الوضع الجديد من جهة, وستنتفي حاجة تلك الحركة إلى علاقات غير متكافئة وغير مثمرة, تعتمد التصفيق الأحادي الجانب مع الحركة الكردية في سوريا, وتتوفَّر الفرصة لعلاقات أكثر توازناً ومردودية, خاصَّة وأنَّ الحركة الكردستانية تعرف جيداً حجم التضحيات التي قدَّمها الكرد في سوريا, بصمتٍ, من أجل القضايا الكردستانية, من جهة ثانية.
أمًَّا فيما يخصُّ التحوُّل في علاقة كادَك مع سوريا, فيستمد هذا التَّحول جذوره من عملية إخراج زعيم الحزب من سوريا, ومن التحسُّن الملحوظ في العلاقات السورية ـ التركية, التي يبدو أنَّها تشكِّل جزءاً من رهانات سوريا, في دورها الإقليمي, في ظلِّ المعطيات المستَجدة, يضاف إلى ذلك الخيار السلمي المعتمد من قبل كادَك, والذي يخفِّض مستوى الحاجة إلى علاقات كتلك التي سادت في المرحلة السابقة. وهذا التَّحول أفرز خطاباً سياسياً جديداً لـ كادك, يُشكِّل بمفرداته, ومحتواه, توجُّهاً يقارب توصيف الحركة الكردية في سوريا لوضع الشعب الكردي ومعاناته, وتقييمها, في الإطار العام, لسياسات السلطة حيال الشعب الكردي وقضيته. ويدعو هذا الخطاب إلى ضرورة أن يحشد الشعب الكردي في سوريا وقواه السياسية ـ بما في ذلك أنصار كادَك ـ طاقاته في سبيل نيل حقوقه في سوريا. وكان رفض حزب العمال الكردستاني لهذا المبدأ في السابق, جوهر الخلاف بينه وبين الحركة الكردية في سوريا, وكانت معظم أوجه الخلافات الأخرى تتصل بهذا الجوهر.
وإذا ما تحوَّل هذا الخطاب الجديد إلى استراتيجية سياسية مؤطَّرة في وعاء تنظيمي, يتوافق مع ما هو مشترك في الحركة الكردية, فإنَّ ذلك سيشكِّل عنصراً هاماً, يقوِّي العامل الذاتي لهذه الحركة التي ينبغي عليها إزالة مخلَّفات الماضي التي كانت تشوب المواقف المتبادلة بينها, وألَّا تسمح بأنَّ يشكِّل ذلك جداراً فاصلاً من الأحقاد, يتحمَّل المستقبل ثقله.
حتى وإن كانت الحركة الكردية تتناقش فيما بينها حول هذه المعطيات المستجدة, فلست متيقيناً من استجابتها لها بالديناميكية المطلوبة, واستثمارها لصالح العامل الذاتي الذي, بتداعيه وتهالكه, أحوج ما يكون إلى هكذا استثمار ـ ليس بالمعنى التجاري طبعاً ـ. أكثر من هذا سيساهم هذا في خلق مناخ ملائم لإقامة علاقات قومية حقيقية بالمعنى التاريخي, تضع المصالح القومية في المقدمة, وهذه هي العلاقات التي نفتقدها ويجب أن نسعى إليها.
هنا لا ندعو أحداً ليتَّكئَ على وسادة من حرير, وإنَّما نبرز معطيات نفترض بأنَّها ستكون إيجابية.
جوان آشتي. كاتب كردي ـ سوريا ـ