|
بين فكي القلق
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6988 - 2021 / 8 / 14 - 14:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم ٦٣ - الإنسان بين فكي القلق
. هايجينوس Hyginus، هو نحوي وشاعر لاتيني، ولد سنة ٦٧ قبل الميلاد في الإسكندرية والبعض يقول أنه ولد في إسبانيا، كان في البداية عبدًا ليوليوس قيصر، وحرره أغسطس Augustus فيما بعد، وعهد إليه برعاية مكتبة القصر Palatine library. علق على أعمال الشاعر الإيطالي الكبير فيرجيل Virgil وكان مرتبطًا بأوفيد، الذي اختلف معه لاحقًا. كتب عدة أعمال تتعلق بالأساطير اليونانية واللاتينية، وتوفى سنة ١٧ بعد الميلاد في حالة فقر مدقع. يُنسب إليه هذه الأسطورة اليونانية المتعلقة بأصل الإنسان والموجودة في كتابه Fabulae. يخبرنا أنه في بداية صناعة الإنسان، نشأ شجار بين الأرض la Terre - Gaia، والتي قدمت قطعة من نفسها، وبين القلق le Souci، الذي عجن هذه القطعة من الأرض وصنع منها نموذجًا في شكل بشري، وجوبيتر Jupiter أو المشتري، الذي نفخ فيه الروح وأصبح الطين بشرا : حيث طالب كل منهم بإعطاء اسمه الخاص إلى الكائن الجديد وأن يكون تحت إمرته وسلطته. تم التوسط لفك الشجار من قبل زحل Saturne، الذي قرر حلا يرضي الجميع، أنه عند وفاة هذا الكائن الجديد، سيحصل كوكب المشتري على روحه، أما جسده فسيعود إلى الأرض، ولكن خلال حياته كلها سيكون "القلق" هو الذي سيمتلكه جسدا وروحا. أما إسمه فسيسمى بالإنسان Homme لأنه صنع من الـ Humus وهو الدبال بالعربية أو الطبقة العليا والسطحية من الأرض. يورد مارتن هايدجر هذه الحكاية القديمة في كتابه الوجود والزمان، معتبرا أنها حكاية رمزية ومبسطة للتعبير عن بعض الأطروحات المعقدة التي يطورها في كتابه الكبير. النقطة الأساسية في نظره والتي تهمه في تحليل الوضع البشري، هي قرار "زحل" بجعل مصير هذا الكائن الجديد في يد "القلق"، وأنه سيشعر بالقلق طوال حياته. يبدو مثل هذا التأكيد، في أول وهلة مبالغًا فيه : ألسنا، في حياتنا اليومية قلقين أحيانًا وأحيانًا غير مبالين، نقلق ونخاف في بعض الأحيان وفي بعض الظروف، ولكن نادرا ما يكون ذلك بصورة دائمة. ولكن ربما يكون هذا هو بالضبط ما يكون عليه سيطرة وإستحواد القلق على الإنسان من خلال لا مبالاة الإنسان والتهور البشري الذي يجعل القلق حاضرا على الدوام في مكان ما متربصا بنا في كل ركن وفي كل لحظة. وبالتالي الإنسان يختلف تمامًا عن الكائنات التي لا تعرف معنى القلق وبالتالي لا يمكنها الشعور بغياب أو بحضور هذه الآفة والعاطفية. ما يقرره زحل، وفقًا للأسطورة، هو أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش بدون أن تظهر له حياته كمهمة يجب أن يتحمل أو لا يتحمل مسؤوليتها : ومن هنا فإن تناوب القلق والتهور واللامبالاة insouciance هو الذي يشكل "قلقًا" بالمعنى الواسع. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجب أن يهتم بما هو عليه، أي أن يقلق على مصيره، وهذه بالضبط هي أطروحة هايدجر وإهتمامه الأساسي. إذا كانت خاصية الإنسان الأساسية لا تتمثل في "ما هو عليه"، ولكن في الاهتمام بوجوب أن يكون "ما هو عليه"، فإن كلمتي "الإنسان" و الإنساني" تتعرضان لخطر تضليلنا، لأن هذه التعابير تستحضر "طبيعة بشرية مكتسبة" قبليا. من وجهة النظر هذه ، فإن الجانب الآخر الرائع للأسطورة هو غموض وإلتباس الحكم الصادر عن زحل. من ناحية ، يتفق مع إله "القلق" ضد جوبيتر والأرض : إن القلق هو الذي يمتلك الإنسان خلال حياته، من ناحية أخرى، لا يعطيه حق إسناد الاسم إليه : يُدعى الكائن الجديد "الإنسان - homme" لأنه مصنوع من الأرض "الدبال - humus". وهكذا فإن اسم "الإنسان" يشير إلى المادة التي هو مصنوع منها. ولكن إذا كان القلق هو الذي يمتلك الإنسان، فمنطقيا، لا ينبغي أن تكون السمة المميزة له هي ما صنع منه، ولكن ما يدعوه ليقرر شخصيًا ماهيته بنفسه. هذه المفارقة تشير إلى أن الإنسان، على عكس كل الأشياء والكائنات التي تقتصر على كونها ما هي عليه، يمكن أن يقلق بشأن كينونته، وعليه يجب أن يكون واضحًا منذ البداية معنى الكينونة ومعنى "أن يكون - être". الإنسان إذا، هو المكان الذي تنكشف فيه حقيقة الكينونة: هذا ما يسميه هايدجر بالدازاين Dasein الكلمة التي ركبها من الألمانية Da وتعني هناك there، وكلمة Sein أي الكائن والتي يمكن ترجمتها بالواقع الإنساني أو بالإنسان. المشروع العام لكتاب هيدغر الكينونة والزمان Etre et Temps هو تفصيل وتحليل مسألة معنى "الكينونة - être"، ومسائلة الكائن من أجل محاولة الإجابة على مثل هذا التساؤل، الذي وقع في النسيان حسب رأيه، منذ الإرهاصات الأولى غير المُرضية من قبل المفكرين اليونانيين. إنها إذن مسألة استجواب هذا الكائن المميز والذي يسميه الدازاين le Dasein، في صميم كينونته. الأنطولوجيا الأساسية التي يهدف إليها هايدجر هي تحليل وجودي للدازاين والذي يجب أن يسمح بالوصول إلى مفهوم معين لكينونة الكائن. وهكذا يتم توضيح الوجود في العالم باعتباره وجوديًا أوليا existential primordial، والذي من خلاله يكون الدازاين دائمًا في علاقة أولية بعالم قُذف فيه، إذا جاز التعبير، وبالتالي في حالة قلق مزمن.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صلاة لهُبل
-
مقدمة لمفهوم القلق عند هايدغر
-
بين الفلسفة والعلم
-
الرسم بالحروف المنتحرة
-
كييركجارد ومفهوم القلق
-
مرة هي قهوة الصباح
-
كييركجارد .. القسيس الكئيب
-
الكلمات فقدت سطورها
-
الشرخ في ذات الله
-
السفر مع أليس
-
الكلمات الغائبة
-
عن الفن والدولار والرأسمالية
-
تمتمة الشفاه المعقمة
-
الله والقلق
-
فلتحترق الملائكة
-
شيلنج وقلق الله
-
ونجرجر هزيمتنا
-
ذوبان الملل
-
القلق الفردي
-
الحروف المسطولة
المزيد.....
-
الحزب الحاكم في كوريا الجنوبية: إعلان الأحكام العرفية وحالة
...
-
عقوبات أميركية على 35 كيانا لمساعدة إيران في نقل -النفط غير
...
-
كيف أدت الحروب في المنطقة العربية إلى زيادة أعداد ذوي الإعاق
...
-
لماذا تمثل سيطرة المعارضة على حلب -نكسة كبيرة- للأسد وإيران؟
...
-
مام شليمون رابما (قائد المئة)
-
مؤتمــر، وحفـل، عراقيان، في العاصمة التشيكية
-
مصادر ميدانية: استقرار الوضع في دير الزور بعد اشتباكات عنيفة
...
-
إعلام: الولايات المتحدة وألمانيا تخشيان دعوة أوكرانيا إلى -ا
...
-
نتنياهو: نحن في وقف لاطلاق النار وليس وقف للحرب في لبنان ونن
...
-
وزير لبناني يحدد هدف إسرائيل من خروقاتها لاتفاق وقف النار وي
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|