|
المقال الثاني : العنف وتخطيط المدن
ياسين النصير
الحوار المتمدن-العدد: 1642 - 2006 / 8 / 14 - 10:36
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
2 المقال الثاني : العنف وتخطيط المدن 1
قبل تحديد السياسة الأمنية لأي مدينة يجب ان نأخذ بالأعتبار أربع مسائل جوهرية فيها: 1- تحديد مراكز الوحدات الصلبة في المدينة،"كما يشير رولاند بارت لمفهوم الوحدة الصلبة ونعني بالوحدات الصلبة المواقع التي كانت تصدر القرارات المفصلية في حياة الشعب:مراكز الحكم،مراكز المال والاقتصاد،مراكز القرار القضائي، مراكز القرار السياسي...الخ.وفي بغداد يمكن تحديدها بوضوح:القصرالجمهوري،وزارة الدفاع والداخلية ومقرات القيادات الحزبية،البيوتات في المناطق كالمنصور والرضوانية وشارع البنوك والشورجة وغيرها، وكل هذه الوحدات ترتبط بطرق توصيل سهلة مع المركز. وقراءة بسيطة نجد أن هذه الوحدات تغيرت في اكثر من مرة. كانت في العهد الملكي في الكرخ؛ قصرالزهوروالمعسكر الميط بها، وفي الرصافة الباب المعظم. ثم تعمقت في عهد عبد الكريم قاسم فاصبحت كلها في الرصافة وبالتحديد في الباب المعظم : وزارة الدفاع والداخلية والمحاكم والشورجة والبنوك والمقاهي والجوامع المهمة كالحيدرخانة وغيرها.ثم تغيرت في عهد صدام حسين لتنتشر في بغداد وتتركز في صوب الكرخ امتداد إلى صلاح الدين. ثم جرت بعد التغيير في 9 نيسان 2003 تغيرات دراماتيكية على المواقع الصلبة فتغيرت إلى مدن الضواحي بعد أنهيار مؤسسات الدولة. وهو أمر يعيد إلينا أن اضطراب قيم الأمكنة القرار يؤدي إلى اضطراب القيم السياسية كلها وهو ما شكل الوضع الأمني المتردي حالياً. 2- تحديد مراكز الوحدات الحيادية في المدينة. ونعني بالوحدات الحيادية المناطق الشعبية التي تطبق فيها قرارات الوحدات الصلبة وهي غالبا ما تكون المدن الضواحي وما يحيط بالمركزكمدينة الثورة والبياع والدورة والعامل والشعلة وغيرها من مدن بغداد الضواحي. وشهدت هذه المدن تغييرات دراماتيكة أخرى عندما حاولت أن تصبح وحدات صلبة في حياة المدينة، وان تصدر القرارات وان تتصرف كما لو أنها مركزا للسلطة وهي بسكان خليط وبمبادئ معارضة وبوضع اقتصادي متردي وباسلوب عيش متخلف وبعمارة سكن عادية ومتدهورة وبخدمات لا حد لردائتها. فكيف لها ان تكون مصدر قرار وأدة تغيير؟تحولت مدينة الثورة في الخطاب السياسي إلى مدينة الصدر " المقدسة"!!من أعطاها القدسية لا تدر غير أن تكون بديلا عن النجف أو وحدة صلبة في المدينة المهشمة بالاحتلال والمليشيات. 3-تحديد كيفية الحركة التي انتقلت قيادة القرارات من الوحدات الصلبة إلى الوحدات الحيادية، ولهذا الانتقال عملية تاريخية قد تكون ثمة ثورة زحف بموجبها ناس الضواحي على المركز، فغيروا مناطق الحكم، وهو غالبا ما يحدث في الثورات الشعبية،- كان من الممكن أن تؤسس انتفاظة آذار 1990 وحدات صلبة كما أسست كردستان وهذا موضوع طويل ليس مجال الحديث به الآن- ثم بعد أن يستقر الوضع تعود لتلك الوحدات الصلبة هيبتها ولكن بعد تبديل الوجوه والسياقات.وهو ما حدث في كل مراحل تغيير الحكم في العراق، إلا إن التغيير الأخير الذي احدثته قوى الاحتلال قبل قوى الشعب غير قادر على احداث وحدات صلبة بالسرعة التي ظهرت فيها هتافات البسطاء. فوجدت مدينة الثورة نفسها مدينة مسماة بقائد وطني اعدم وأصبحت مدينة الدورة مهمشة بعد أن انهدمت قيمها السياسية وتحولت الاعظمية إلى ممر لزيارات الكاظميين فقط،- حادثة جسر الأئمة شاهد على ذلك- بينما همشت مدينة المنصور لوجود قوى مضادة فيها، وتحول سوق مريدي إلى بديل للشورجة، وضواحي المدن إلى معسكرات للمتطرفين بدلا من مؤسسة الجيش في معسكر الرشيد والتاجي، وتحولت الصالحية إلى بناء مهدم، وإذاعة مهمشة وتلفزيون لا يقوى على البث، ثم اصبحت ساحة الفردوس مقرا للدولة بعد أن الغيت ساحة باب المعظم والقصر الجمهوري وغيرها. هذا التغيير المفاجي من اكبر أخطاء المحتل فكيف يؤسس لديمقراطية وليدةوهو لا يعرف جغرافية المواقع الصلبة والحيادية ، المستقرة والمتحولة؟
4- ثمة حركة رابعة وهي الحركة الأكثر اضطرابا هي أن تقوم الوحدات الصلبة بشن حملات تصفية ومداهمات للوحدات الحيادية، وهو ما لجأت إليه السلطات الحاكمة لأسكات المعارضين على طول فترات القمع الدموية. اليوم يجري العكس عندما بادرت الوحدات الحيادية الضعيفة إلى شن حملات تصفية ضد الوحدات الصالبة، وهو مايسبب حربا أهلية قد لا نعرف نهايتها ، وشارع حيفا شاهد على مثل هذا التصور، لابد إذن من أعادة المكانة لما كانت عليه أمكنة القرار للاصدار والتقرير والتنفيذ، وهو أمر قد لا يبدو للسياسيين مهما، لكنه يؤشر إلى أن القيمة الاستراتجية لاي قرارلابد وأن يعتمد على العمق السلطوي للمكان. كيف يعاد لتلك الوحدات الصلبة هيبتها وحضورها وقيمتها والجميع محصورون في المنطقة الخضراء؟ إن انتقالهم لمراز القرار السابقة اهم عنصر في نجاح أي خطة أمنية تتخذ الآن. ثمة سايكولوجية تفرضها طبيعة مكان اصدار القرار على التنفيذ، شخصيا لا اطيع أي قرار يصدر في اربيل لأطبقه على العمارة مثلا،ولا اطيع اي قرار يفرض علي من خارج الحدود وأطبقه في الرمادي ، من هنا فاي مدينة لها مواقع ومواضع، الموضع هو جغرافيتها بينما الموقع هو قرارها.وكلا الموقعين لغة في أي قرار يصدر عنهما. إذن نحن في مفهوم جغرافي / سياسي وعلينا أن نولي تضاريس المدينة اهتماما خاصاً، وندرس وبوضوح كيفية انتقال الحركة الثورية من الامكنة الحيادية إلى الامكنة الصلبة، وما هي الفلسفة التي جرت بموجبها حركية هذا الانتقال؟ وعلينا كي ندرك أن اي فعل لابد أن يواجه برد فعل، لذا لابد من فهم آلية الحركة الجدلية بين الوحدات الصلبة والوحدات الحيادية في فهم اي مدينة واي قرار يتخذ بشأنها. وبدءا لا يعني التغيير بين مراكز القوى في الوحدات الصلبة والوحدات الحيادية لمجرد أن قرارا صدر بهذا الخصوص، إنما لابد من أن يكون ثمة دال على ذلك، حاولت مدينة النجف الشريف ان تكون بديلا لبغداد لوجود المرجعية الدينية فيها حتى أنها نوديت بعاصمة اقليم الجنوب المنوي تأسيسه، لكن النجف وبحكم تاريخها وموقعها الديني والثقافي تكتفي بالموقع القديم لانه الأكثر ملائمة لموقعها وموضعها في آن معا.كما حاولت مرجعيات صغيرة أن تكون مدينة قم بديلا لمرجعبة النجف فانكفأت على اعقابها خاسرة الموضع والموقع. 2 من يتصفح ورقة بغداد يجد أنها مدينة غير مستقرة تمتد طولا، وتمتد عرضا، تبعا لأهواء الحكام،فقد غيب الحكام مهندسوا الحياة المدنية وانشأوا مدنا حسب أهواءهم ورغباتهم فتغير المركز وتعددت الاطراف وتحركت القوى الاقتصادية الفاعلة بين مناطق بغداد، مورثةً حالةً من الفوضى والإرباك. كنا في القريب نرى بغداد هي باب المعظم ومدخل شارع الرشيد وساحة التحرير ثم امتدادا في شارع السعدون والاعظمية والوزيرية حيث تتركز السلطات في الرصافة : وزارة الدفاع والداخلية والعدل،وسوق الشورجة،والبنوك، وشارع الرشيد، وشارع النهر، والمقاهي التراثية وجوامع ثورة العشرين. وهو ما يشكل الوحدات الصلبة في حياة المدينة. ثم تحركت لاحقا باتجاه الكرخ،عودة إلى مدورة المنصور، حيث بدت محاطة بالنهر كل القوى المتنفذة، تاركة باب المعظم و شارع الرشيد وقواه الفعلية لحركة غير متجانسة،ناقلة مفهوم الوحدات الصلبة إلى مناطق أخرى بدت تاريخيا أنها غير صلبة لكثرة ما يحيطها من حرس وقوات وممنوعات على العكس من وحدات الرصافة القديمة، حيث كانت محروسة بقوتها المعنوية وتاريخها المرتبط بحياة الناس والموانع الطبيعية التي تحرسها من الشرق، مسندة بحركة المدينة تجارة واقتصادا وثقافة وحضورا وعمارة ولغة تتشكل يوميا بأوجه من فعل الممارسة.- شرحت ذلك تفصيلا في كتابي شارع الرشيد عين المدينة وناظم النص –دار المدى عام 2003 - وحينها تغيرت سياقات السوق بطبيعة تغيير مراكز القرار، اصبحت التجارة واصنافها، مفهوما غائما، واصبح الأمن شرطة وجيشا قبل ان يكون صلة بين الحاكم والمحكوم. فارتكن السوق خاصة الشورجة لتجارمن كل المدن العراقية، وبدت الوحدة الاقتصادية مسندة بأشخاص من خارج بنية البنوك ومؤسساتها، في حين بدت أطراف بغداد متجهة امتدادا عمرانيا للمركز: حي زيونة والبياع وشارع فلسطين ومدينة الشعلة ومدينة الشعب وغيرها ومن حولها تتوحد كل الاتجاهات. ومن يتتبع طرق بغداد الكبيرة يجد أن طرق صوب الكرخ عمودية على نهر دجلة آتية من الغرب لتصب جريانها في دجلة دون أن يوصلها غير الجسرإلا القفف والماطورات وباصات النقل،وهي طريقة لاواعية تدل على احتواء المدينة وتقسيمها، بينما كانت طرق جانب الرصافة افقية ومتوازية مع مجرى نهر دجلة: شارع الجمهورية وشارع النضال وشارع فلسطين وشارع القناة أتية من الشمال إلى الجنوب ومتفرعة للغرب وللشرق تغذي المدينة بجريان نهري شعري، الأمر الذي جعل من الكرخ سيطرة، ومن الرصافة تطبيقا. كما اسهمت المدن الملحقة بالرصافة في زيادة الاضطراب في سياقات البنية المكانية المضطربة فوسعتها ومددت اطرافها،وهلهلت ثوبها السكاني، في حين أن المدن في جانب الكرخ، مضمرة ومعزولة ومحاطة بالبساتين ومدن الغربية ومنشئات التصنيع العسكري. ثمة متغيرات جذرية حدثت في مناطق بغداد غيرت من سياقات الناس اليومية، وهو أمر لابد وان يؤخذ بعين الاعتبار في كل فعل أمني وعمراني. أنت لا تستطيع ان تتحرك في الكرخ بحرية، بيمنا تتجول على طول القامة في الرصافة فتركيب وحدات الكرخ الصلبة والحيادية متقارب إلى الحد تصبح السيدية مثل العامرية والدورة مثل الفلوجة،والرضوانية مثل المنصور، حاضنة للإنغلاق وقوة ضد الأضطراب والخلخلة. لاتجد دائرة للأمن مركزية في الكرخ، بينما السجون تتوسد الرصافة ابو غريب والرضوانية.. كانت بغداد في زمن الملكية بقعة متطورة عن بستان كبير يمتد من الدورة إلى الباب الشرقي، ومن الخالص إلى الأعظمية، ومن غرب الفرات إلى الكرخ، ومن بعقوبة إلى دجلة. وللبستان ثقافته وطرق حمايته؛ حارس وبندقية وصفارة، ومعسكر صغير. وبعد تحولاتها الدارماتيكية تغير مفهوم الحراسة فيها، من طلقة تنير إلى طلقة تكتم، فوجد الناس أنفسهم بين ثقافتين: ثقافة البستان الرخية والمطمئنة،وهي امتداد لمدينة هارون الرشيد وثقافة السلطة المتحكمة. وهو ما جعلهم يغيرون من وسائل الدفاع والحماية؛ سكنة مدن الضواحي أكثر حرصا على تشتيت الأرض وتفتيتها، لانهم كسبوها بقرار وهي ارض صغيرة لا تنمو بنمو اسرهم ومطامحهم ورغباتهم، فقد كانوا جنودا صغارا في عجلة آلة عسكرية كبيرة تسحقهم وطموحاتهم بالمعاش القليل، بينما مناطق المركز أكثر تشبثا بالارض لانهم ورثوها، وتسيدوا بالقرار فيها وقادوا الناس للحروب واغتنوا بالعطايا والمنح والهدايا والاكراميات. وهو ما جعل الكثير ممن يدافعون ويصبحون إرهابيين هم من أولئك الذين أثروا بالقرارات، بينما سكنة الضواحي هم ممن حرموا من الإثراء فالتجأوا إلى التهريب والسرقة والفساد، وهذه فارزة أمنية يجب ان لا تغفل عندما يراد تحديد الحركة الأمنية وسيطرتها في مدينة تخضع في كل شهر إلى متغيرات سكانية.
3
يرتبط مفهوم الامن الوطني في العراق بمدينة بغداد بوصفها العاصمة أو المكان البؤرة الذي يكون الفعل فيه منتشرا على المركز والمدن الضواحي. وهو ما حاولت الأنظمة كلها أن توحد بين الوحدات المتناقضة فيها لكنها دائما كانت تفشل بسبب السياسات التي جعلت التفريق بين ابناء العراق طريقة للحكم. ويشكل سكان بغداد قرابة ستة ملايين ونصف المليون نسمة عامل ديموغرافي /سياسي مهم في نجاح أو فشل اي خطة أمنية. وعلينا أن نفهم أن تركيبة سكان العاصمة هم خارج تركيبة الأحزاب السياسية، وهذه نقطة مهمة في سياق فهم الديموغرافية المتغيرة،- شهدنا فعلا دارماتيكيا في الانتخابات الأخيرة عندما قسموا بغداد إلى مناطق سنية واخرى شيعية تمهيدا لتقسيمها الإداري- فليس كل ما يحدث في بغداد من عنف هو من سكنة بغداد،وليس من السهل احداث تغييرات سريعة في تركيبة السكان لمجرد أن أمنا جديدا سيطبق، ولكن من الصعب أن تبقى المدينة عرضة للإختراق الدائم دون أن يحدد سبل وكيفية هذا الاختراق، فالمتغيرات السكانية سمحت لأن تكون بعض المواضع فيها ملجأ أمنا لمن يمارس العنف، وغالبا ما تكون مثل هذه المواضع عرضة للتغيير ضمن الثبات. لذا يجب اولا تحديد المواضع المتغيرة باستمرار، وهو ما يجعل التفكير السياسي يضفي على التفكير الأمني طاقة من الرصد الميداني. ويعني ذلك ان المدينة البؤرة تستقطب لأهمية الفعل فيها عناصر من مدن أخرى، وهو ما يؤشر ضمنا إلى أن اي خطة لابد وان تستتبعها دراسة لمتغيرات السكان، وإلا سنجعل الفعل الأمني عرضة للإختراق كلما قطعنا مرحلة ما لم يكن ثمة تحديد مبرمج لحركة السكان، فكيف إذا كان من يدخل بغداد يوميا بحدود الملونين شخص؟. إضافة إلى أن تركيز السلطات فيها كان وما يزال عامل جذب لقوى التدمير، باعتبار أن واقعة الفعل الانتحاري في الموقع الصلب تكون مضاعفة. - ضرب تنظيم القاعدة في 11 سبتمبرالمركز التجاري الامريكي، ووزراة الدفاع – البنتاغون- وحاولت ضرب البيت الأبيض، لمجرد أن هذه الأماكان أماكن القرار، فهي الوحدات الصلبة التي يجري تدميرها- وفي بغداد ايضا وجدت كل نماذج الحداثة ليصبح تخريبها وتدميرها عاملا دعائيا مضاعفاً: المتحف الوطني ، المكتبة الوطنية، مراكز الشرطة، وزارة الدفاع، وزارات الدولة الاخرى – عدا وزارة النفط- ،وفي بغداد توجد كل نماذج الاضطراب العمراني حيث تباين السكن أحد أهم عوامل خلخلة الأمن الداخلي، وفيها نهضت الحريات في الخمسينات والسبعينات وقمعت،فكانت مظهرا يؤكد فاعلية العنف، وفيها صعد الثانويون للحكومات وتأخر المتقدمون وهو ما يؤكد انعدام المعايير الوطنية في المناصب، وفيها تغيرت الطبقات الأجتماعية، فصعد العسكريون وتخلفت الطبقة الوسطى وذابت في القرارات العسكرية، وتنعّم الطفيليون وتأخر العاملون، وفيها تغيرت ثقافة الناس،بحيث اصبحت التواريخ مرتبطة بمحلات زيارات الحكام،وثمة أعياد كثيرة اضفيت لعيدي الاضحى ةالفطر، وتحولت الممارسات العشوائية في زمن الاستبداد إلى أعياد على الناس ممارستها زيارات القائد الضرورة للمناطق!!، واصبح فعل قتل زعيم سياسي في شارع الرشيد بادرة لاحتذئها في قتل المعارضين السياسيين، وتحولت حديقة كانت تخفي الافعال المشينة إلى مزارات بوصفها ملاذا للاجتماعات الثورية، وأصبحت نصب الشهداء مزارا يعوض الزوار الاجانب عن زيارة العتبات المقدسة، وفيها رأى الناس صعود الملكيين على المشانق بعد أن صعد التقدميون والشيوعيون قبلهم،ثم شهدوا بعد 9 نيسان 2003 غياب الحكام في حفر خارج العاصمة، والقادة العسكريون احتموا بظل العشيرة، والسادة النجفيون والكربلائيون والكظماويون والسامرائيون بظل دول الجوار، وفيها رأوا القيادات المجهولة وهي تتربع وتعلّم شارات النصر بالدماء، وتؤسس " ساحة الفردوس" بدلا من باب المعظم وساحة التحرير. وليس مثل ما اعتمد نابليون بعد قدومة من مصر منتصرا على جثث ألاف الضحيا من الجنود الفرنسيين ليحتفل في ساحات وقصور ومواكب قديمة. وفي بغداد يتقدم الدكتاتور"السيد الرئيس" بعربة ملكية في احتفالات يومية بلباس ابيض، بعد نهاية الحرب مع إيران وكأنه المخلص الجديد الأتى من بطون التاريخ ليعيد بابل الدماء من جديد مرسومة بقبضة يدة في نصب مبني على جماجم الإيرانيين، كما فعل نابليون ولكن بالمقلوب قبل مائتي سنة وهو يهيء خطبة النصر في المركز العلمي بباريس الذي اصر على زيارته لتأكيد أنه أيضا من فصيلة العلماء كما يشير كتاب عصر نابليون لذلك. كل هذا، وغيره، حدث، ويحدث في بغداد المضطربة الأمن. ترى لماذا لا يحدث هذا الذي نراه في مدن عراقية أخرى؟. ومع ذلك كتبت أجمل القصائد عن بغداد، واجمل المسرحيات تحدث عنها، واجمل اللوحات الفنية رسمت لها،واجمل القصص حكيت عنها، واجمل النصب وضعت في ساحاتها، واجمل الكازينوات نشأت فيها، واجمل ابا نؤاس عالميا علمّها،واجمل النساء يمتخطرن فيها، وجامعاتها الكبرى دالة، وكاليرهاتها ومسارحها دالة أخرى، وشوارعها مراح لحرية القدمين قبل حرية العربات،وسكانها خليط من مدن الجنوب والوسط والشمال.أما تجارتها، اقتصادها، مؤسساتها، بنوكها،اسواقها، وثقافتها، شواهد على ازمنة متداخلة،فيها الوفرة وفيها الشحة، تحركها الشورجة ويفعّلها شارع الرشيد. تضخ إليها مدن الشمال الخيرات، وتصرفها في مدن الجنوب. تحيط بها اكثر من ثلاثين مدينة صغيرة، تضخ إليها وتأخذ منها. الحركة الواسعة فيها عمران وخراب في آن معا، المستقر منها عرضة للمتغير، والمتغير عرضة للمحو والزوال. وبغداد ليست مدينة فقط، بل هي عمق حضارة، وتاريخ مايزال حيا في الجامعات والمجالس، ولغتها مزيج من لهجات مدن العراق وسلطة مركزية تنظر في كل اتجاه، وقرار محوري لا يبلغه فرمان.كانت تصدر اضطراباتها للخارج فتحصل على نتائجها في الداخل. يمكنك أن تقول أن لغة البصرة ثقافة وقواميس وحكايات وبحار وسندباد وحداثة الشعر، ويكمن أن تقول ان لغة الموصل زرع وربيع وأنبياء وحصار وعسكر وأديرة واتصال بالعلم محيط، ويكمن أن تقول أن لغة النجف مرجعية ودين وائمة وحوزات وثقافة ومكتبات، وهكذا بقية المدن العراقية. بينما لغة بغداد : سلطة واقتصاد وقوة وعين تنظر للخارج واخرى تتسع للداخل، لغة في الجيش ولغة في العلم ومركز لا يهدم له جدار ومدينة حديثة ترى فيها نوى التقدم في العالم. وقد يستطيل بنا المقام فنقول أن يوم نشأت بغداد في عهد ابي جعفر المنصور انتقلت فجأة من المدينة " الموضع إلى المدينة الموقع" من تلك البقعة الدائرية إلى الموقع العالمي المحرك للسياسة والعلم والاقتصاد، وهو الأمر الذي ما كانت مدينة الحيرة قادرة عليه. فكانت بغداد" خاصرة العراق وملتقى الطرق" على حد قول المفكر المرحوم جمال حمدان. ولم تمر ببغداد فترات نمو متصاعدة مثلما مرت بها البصرة أو الكوفة أونينوى أو النجف، بل وجدت نفسها هكذا: المدينة العاصمة والمدينة المركز.المدينة التي تمتلك " الوحدات الصلبة على حسب تعبير رونالد بارت والوحدات المحايدة" . مثلت الوحدات الصلبة مكامن ومراكز القرار السياسي بينما مثلت الوحدات الحيادية مكامن تنفيذ القرار. في حين كانت نهايات بغداد يومذاك خراسان ودمشق واسطنبول والقيروان والقاهرة وسمرقند والحجاز والبحار الشرقية والجبال الغربية ومحيط الكرة الارضية الأدنى، وكلها وحدات حيادية تأخذ قرارها من بغداد وتصرفه في نواحيها. ولما كانت بمثل هذا الموضع الجغرافي المستقطب أنشأت بغداد هويتها الشاملة وتحولت إلى مدينة كوسموبوليتية جامعة للعلوم وللشعوب. 4 لسنا هنا في مجال الحديث عن تاريخ بغداد وتطورها ومكانتها فالكل يعرفها والكتب مليئة بما لها وما عليها. ما يهمني في هذه العجالة التركيز على الخطة الأمنية التي تطبقها الآن القوات المتعددة الجنسيات والقوات العراقية، وهو موضوع كما يبدو ليس من مناحي قولنا نحن الأدباء والمثقفين كما يتصورنا الساسة، بل هو في صلب مهمات رجال يتخصصون بالأمن وستراتيجية الدفاع والهجوم، كما هو في صلب اي تفكير بالحداثة التي تنطلق من أفواه المثقفين وممارساتهم. ولكن لندلُ بدلونا الصغير الذي غرفنا به ماء بحيرتنا الصغيرة في بستان انشأناه لنقطف ثماره كلما عنّت لنا مشكلة، أو أصابنا الدوار من خطط الساسة الذين لا يفقهون في ستراتيجية الأمن الوطني إلا بعد أن تقع الفاس بالراس كما يقولون. اليوم عادت بغداد منكفئة لاحضان تتوسل بدجلة المجرى والنهر والمدن الحواف. اضطراب في السياق العام للتخطيط واضطراب في بنية السكان المتعددي المشارب جعل من بغداد عرضة للأختراق. ومن تتبع دخول قوات المحتلين لبغداد في 9 نيسان 2003يجد السهولة القصوى للوصول إلى المركز التي مهدت لها طبيعة المدينة وتقسيماتها الإدارية العشوائية وانهيار وحداتها الصلبة.-عدد قليل من الدبابات اسقط بغداد!!- والامن لا يستقر ما لم يكن على بينّة بالمضطرب فيها والمستقر. لذا فالأمن يتطلب أول ما يتطلب معرفة تقسيمات المدينة الإدارية وعاداتها وبنيتها التراثية وكيفية التعامل مع مفرداتها الاقتصادية. الامن ليس بندقية تنصب في الشوارع وعلى السطوح، بل لغة في فهم آليات حركة الناس وطبائعهم،وهو ما كان الدكتاتور السابق صدام على دراية به إلى الحد الذي جعل في كل بيت حارسا له. وبغداد السلطة هي المقر وهي الفعل في أي محور أمني، لذا لا تُعامل وحداتها الصلبة والحيادية بالمعاملة نفسها، ثمة تباين بين السكان والعمران يفرض تباينا بين التعامل أمنيا، فالوحدات الصلبة في عهد صدام حسين تعددت وتوسعت، كان نصيب الكرخ منها الكثير : الدورة وحي الجهاد والعامرية والمنصور والسيدية والوزيرية والرضوانية وكل ما يمتد بين محافظات الشمال الغربي وبغداد، لذا ليس العنف في هذه المناطق يعود لوجود السنة فيها كما يشيع رجال الداخلية والفضائيات، بل لوجود قوى فاعلة كانت تتحكم بالقرار وتصدّره وتمعن في تطبيقة بالقوة. هذا التكوين الحضري- السياسي فرض نوعا من صياغة مبدأ الانتقال بالقرار من المنطقة الصلبة إلى المنطقة الحيادية. لا تجد حركة لقرارات القوى المضادة والمسلحة في مناطق الرصافة الرخوة وغير الصلبة، بل أن ما يحرك بغداد الآن هو مناطق بالكرخ سلبت منها هوية السلطة ووحدتها الصلبة وقررت المضي بتغييرها بعد ان اصبحت المنطقة الخضراء صلبة بدلا عنها. إن فهما جدليا لطبيعة جغرافية بغداد وتقسيماتها يسهل عمل تفكيك تلك الوحدات والسيطرة عليها. لذا لا تجد الأمان في المناطق الرخوة الحيادية التي تتغير مسالكها في كل فترة، همها أن يوفر سكنتها لقمة عيشها حتى إن حماستهم الدينية لم تكن مستقرة أو ثابتة بل عرضة للتغيير تبعا لمتغيرات اقتصادية وسياسية وهو ما نشهده الآن من تزمت فيها لم يكن موجودا بمثل هذه الضخامة والحضور.و" كل ما هو صلب كما يقول ماركس سيذوب ويتلاشى؟ فالتفجيرات تكثر في المناطق الرخوة والحيادية: مدينة الثورة وحي العامل والاسواق وحواف السيدية وبغداد الجديدة وغيرها،وغرضها هو تذويب صلابتها المستعارة، بينما تجد الأمن أكثر وضوحا في المناطق الصلبة السابقة التي استقرت على تنظيم وتخطيط وعمران شبه ثابت. الامن لغة في العمارة قبل أن يكون لغة بيد قناص أو مدفع، ولذا لا ترى بغداد بمنظار واحد وهي التي شهدت مئات التغييرات في بنيتها وفي حركة العمران فيها وفي تغيير مركز نشاطها الاقتصادي والأمني. لا تعاين بغداد بعين مصوبة من منظار، بقدر ما تعاين بعين راسية على الارض، ترصد حركة المدينة بتوجهات سكانها المتغيرين غير الثابتين والطارئين غبر المستقرين واصحاب العمارة غير اصحاب الاكواخ، واصحاب الأسواق التجارية غير اصحاب الجمبرات والأكشاك.
#ياسين_النصير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العنف وتحطيط المدن
-
الطائفية مصطلح بغيض
-
مرايا المقهى
-
الثقافة والمرحلة العراقية
-
الصين وافق الحداثة في العراق
-
سوق هرج
-
الرؤى السردية
-
كتاب شعرية الماء
-
حوار مع الدكتور كاظم الحبيب
-
عن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
-
مكونات الطبقة الوسطى العراق نموذجاً
-
قراءة في رواية الضالان
-
أدباء عراقيون - الشاعر سعدي يوسف
-
أدباء عراقيون -ابو كاطع: شمران الياسري
-
أدباء عراقيون- غائب طعمة فرمان
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|