|
ذهنيةُ (مارتن هيدغر) المتوقدة أبداً
محمد الأحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1642 - 2006 / 8 / 14 - 07:37
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
على المرء منا ان يأتي بافكار كثيرة، ومقنعة ليصبح فيلسوفا مثيرا للجدل، كالالماني مارتن هيدغر(1889-1976)، والذي كان معروفاً بفيلسوف (الكينونة والزمن)، حيث انتقد الكثير الكثير مما خلفه الفلاسفة الذين سبقوه، وعمل على اعادة تنظيم الكثير من الافكار الذهنية، وخاصة ما يعرف بـ(الانطونولوجيا الظواهرتية)، اذ كان مؤمناً بان تلاقح الافكار هو المنتج الحقيقي من فكرتين احداهما تكمل الاخرى من جراء تضادهما، ناقش مدافعا عن كينونته الفكرية، بجلد، كل الافكار المجايلة له كالظواهرتية (مارلو بونتي)، والوجودية (جان بول سارتر)، والتأويلية (بول ريكور)، ومدرسة فرانكفورت اليسارية (ارندت وهربرت ماركوز)، وما بعد الحداثة (خصوصاً جاك دريدا وجيل دولوز). وطالب بان تكون الافكار بشرح دقيق وان لا تعتمد اللغة المزدوجة التي من الممكن ان تحتمل تأولين. فقد حظر (مارتن هيدغر) الى عصره في قول موجز متنه فكرة أساسية هي التفكير بالوجود نفسه، أي التفكير في معنى ان يكون الانسان موجوداً، ككائن حي منتج، وليس في ما ينجم عن وجوده، الا اشكاليات متعلقة بالتطور عبر مسيرة الزمن وتراكم الخبرة بذات الوجود. كانت اضاءآته تحمل معان لكائن يعرف اكتناه محسوساته بالعالم الذي يحويه لانها أساس لانطولوجيا قوية، حيث الاولوية هي للتفكير بالانسان باعتباره (وجوداً)، في الكون والزمان. ووعيه في محتوياته قابل للوصف في شكل غير متحيّز، أي في طريقة استدلال، الفاعل بفعله، وطالب باعادة التفكير في المسائل التي طرحها الفكر الانساني على نفسه، منذ نشأة الفلسفة، أي بمراجعة الفكر الفلسفي كلاًّ. اذ سعي الى تجديد الفلسفة عبر نقد جذري للاسئلة العقيمة، وصار متناقضاً مع مقولة ماركس الشهيرة: (ان الانسانية لا تطرح على نفسها سوى المسائل التي تستطيع حلّها)، وتلك الفكرة تجلت في مؤلفه الذائع الصيت (الوجود والزمن) ؛ مؤكدا على حرية فكر الانسان، ولا ان يحبس ضمن قوام خطابات متكررة (يجدر بالذكر بان هايدغر كان متورطاً بالنازية)، وقد وجه نقداً قوياً الى المجتمع الغربي، المأخوذ بحمى الانتاج التكنولوجي، والذي يُقاد الانسان فيه كما تقاد الآلة، (اتكاء ذلك المجتمع على خطاب مضمر قوامه إعطاء مكانة مركزية العلم والتكنولوجيا). وتلك قيودا لا تستطيع حل معضلات الحضارة الانسانية، بل على العكس. (لا يصلح كأساس للفكر الانساني، لان جوهر التقنية لا يكمن في التقنية، بل في المحمولات المضمرة فيها)، وذهب الى القول إنّ جوهر ما يُسمى بالخطاب العلمي للغرب (لا ينبع من العلم، ولا يستطيع ذلك، بل يعبر عن موقف ميتافيزيقي للعقل الانساني يقدم العلم بصفته وعداً بسيطرة الانسان على العالم)، وكانت طروحاته مجلجلة في زمن شهد تغييرات كبرى عبر الثورة الصناعية الميكانيكية، ثم الالكترونية، اذا قلب أحوال العمران فيها، وتوسعت المدن وتصيرت الطرق الرابطة من أشياء بدت كأنها أحلام اسطورية، مثل الطيران وصنع الآلات الميكانيكية والنظر الى اعماق الكواكب وفي دواخل الخلايا الحيّة والمركبات الآلية الفائقة السرعة، وتوليد طاقة جبارة لم تعهدها البشرية قبلاً، هي الكهرباء، وكذلك تطورت الى قوى هائلة مثل (النووية)، اضافة الى قفزات الطب في التلاعب الجيني اذ تصير الإنسان بمعرفية مكانته الحقة في اصل تشكّل الحياة الكونية. بدا العلم كالسحر الفتان، وسرعان ما ارتبطت الافكار المنطيقة ببعضها، وصار الربط ضرورة وجود يتسيد فيه الانسان العارف على الانسان غير العارف، ومال التفكير الفلسفي حيال العلم الى اعتباره خلاصاً غنوصياً، متخلصا من اذيال تلك الاسئلة الغريبة التي اثارها (كارل ماركس)، الذي لم يرَ للفلسفة شأناً سوى محاولة استخلاص قواعد عمل من العلوم، و(تطبيقها على الفكر والتاريخ والمجتمع)، وينطبق أيضاً على نقيضيه الرأسماليين من المدرسة البراغماتية (هنري برغسون) و(جون ديوي). وقد خالفهم استنتاجا؛ (السيطرة على الاشياء من حوله، وان ذلك يؤول على انه سيطرة للانسان على العالم)، لانه كان مؤمنا بتجديد الاسئلة، فكل عصر اسئلة معاصرة عليه الاجابة عليها، وقد كرر الفلاسفة اللذين سبقوه اغلبهم الاسئلة المتعلقة بالوجود، وصار بعده لاحقاً الذين يصنفون (ثقافة ما بعد الحداثة)، الى تبني منهج (مارتن هيدغر)، بإعادة النظر في اشكاليات الفلسفة تاريخياً. كما فعل (جيل دولوز)، الذي توفي بعد (مارتن هيدغر) بعشرين سنة، أعاد النظر في مجمل الارث الفلسفي الانساني، فكتب (دولوز) كتب عدة أعاد فيها النظر فيمن سبقه، بدءاً من (ارسطو) حتى (نيتشه)، ومؤكداً بأن (مهمة الفيلسوف تكمن في إعادة صوغ المفاهيم، وعلى نحو مستمر). بواسطة لغة حية كونها الأداة التي تُمكّن الفكر من بلوغ غاياته. وقد تبينت آثار جلية على المدرسة الفرويدية التي شددت النبرة أيضاً على اللغة، باعتبارها محتوى وأداة متلامسة مع اللاوعي (الفردي والجماعي)، وهو ما عبّرت عنه افكار (هربرت ماركوز) عن قوة أفكار (مارتن هيدغر)، والأثر الهائل الذي أحدثته في الفلسفة الحديثة. حيث بقي يوصف (مارتن هيدغر) غالباً بانه فيلسوف للفينومينولوجيا الانطولوجية، ايضا. حيث فسر العلاقات الملتبسة بين الصوت البشري وتصاعد اللغة التي صارت حاوية الافكار، وبالكتابة صار الافكار تبادلية بين الاجيال، فما من فكرة بريئة، الا وانها مبنية من فكرة ام.. تكون البذرة التي اختلف عليها متجادلون اراد كل منهم ان يفرض فكرته على الاخر. فقد وُلد (مارتن هيدغر) في بلدة (ميسكيرتش) في جنوب غربي المانيا، لعائلة كاثوليكية متزمتة. وقد أعدت العائلة ابنها، ليكون قساً في الكنيسة. ويقول (ارنست شلير) احد تلامذته وكتاب سيرته (بلد شهد الانشقاق البروتستانتي، فأن الاعداد الديني المُبكر لفته الى الصراع حول هوية السيد المسيح، أي هوية الانسان نفسه في علاقته مع البارئ عزّ وجل). انتقل الى مدينة (فريبورغ) ليكمل المرحلة الثانوية، وسرعان ما دخل جامعتها التي ارتبط بها ارتباطاً وثيقاً. وعُيّن استاذاً للفلسفة الارسطية، المنحدرة اساسا من الكاثوليكية، في تلك الجامعة. وجعلته تلك الجامعة يرتبط مع الفليسوف الشهير(ادموند هوسرل)، الذي يعتبر احد اهم مؤسسي المدرسة الفينومينولوجية (الظواهرتية). والتي تملكت تلك الفلسفة (مارتن هيدغر)، وبرزت لاحقاً قوة تأثيره فيها أيضاً، فالفكرة الاساسية (الفينومينولوجيا) هي علم الوعي وأشيائه. بمعنى النظرة الشمولية (التي تركز على ان اشياء العالم تحمل قابلية لان تُفهم بحد ذاتها، ويتطابق خطاب وعيها مع وجودها نفسه، من دون ضرورة ردها الى ايدلوجية سابقة، و لكي تعطي تفسيراً لمتضمناتها واشاراتها). كما عند (كانط)، الكائن الانساني الذي يتعامل فكره مع الظواهر، في شكل منعزل (او مجرد)، ما يجعل امكان وصف محتوى الوعي في شكل مجرد، أمراً ممكناً. واعجب هيدغر اعجابا شديدا بما كان يطرحه (هوسرل) المستمد من منهج (ارسطو) بذهن متوقد، اذا كان يعرف ماذا يقرأ وممَّ يستنتجْ، ويعرف ايضاً كيفية ما كان الاصل الذي يقرأه، فصار شارحاً لافكار (هوسرل) الاصل، وما اعتمدت عليه من مراجع فكرية هي كانت الاصل فيما استنتج، فالفلسفة هي درس الاستنتاج وفن الاحكام بالفكرة على الفكرة. وقد أعاد صوغ فلسفة (أرسطو) انطلاقاً من (رؤية فينومونولوجية).. حيث ما بين عامي (1923- 1925)، انتقل الى تدريس الفلسفة في جامعة (ماربورغ). وفي العام (1927) ظهرت الطبعة الأولى من مؤلفه (الكينونة والزمن) الذي اعتُبر سريعاً النص الفلسفي الاهم للقرن العشرين. فقد وضع فيه جدلا كبيرا حول ثبوت الثقافة وتحركها، واشر بان المقدس الثقافي عليه ان يكون متابعا للعصر الذي فيه، ومتغيرا لما يخترعه البشر، وضرب مثالا مقنعا باختراع العدسات الجبارة التي نظربها الانسان الى المجرات وكواكبها، ووضعا حدا منطقيا بان الارض ليست محورا للعالم، وتطرق الى غايات (غاليلو) العبقرية، والأسباب الحقيقية التي دفعت بالكنيسة القديمة على الاصرار على حرقه. وقد ضمن ذلك الكتاب ل(مارتن هيدغر) العودة الى جامعة (فريبورغ)، وشهد العام (1933) بداية المآخذ التي لمت به، وقد قللت من شعبيته في العالم حيث علاقته المُلتبسة مع النازية. حيث جُل اصدقائه من الضباط الكبار، وكانوا همُ ايضا يطمحون الى نيل رضا (الفوهرر) الالماني القوي، حيث دعموا (هيدغر) كثيرا - اذ رشحوه بمنصب الأمين العام للجامعة التي امتازت بميلها الى النازية المتشددة، ليس لشيء الا لكونه علما فكريا تكسب به النازية فخرا لن يؤول الا اليها، وخاصة بعد اشهر قليلة من تسلم (أدولف هتلر) منصب المستشارية في المانيا. ((وفي مقابله اجريت له مع مجلة (المجلة) الالمانية، بيّن (مارتن هيدغر)، الذي نأى بنفسه غالباً عن النشاط السياسي، انه قبل بمنصب المُشرف على الجامعة لكي يضع حداً لتغلغل النفوذ السياسي فيها، بما في ذلك النفوذ النازي. وزاد في الالتباس، انه القى خطاباً لقبول منصب المشرف، حمل عنوان (التأكيد الذاتي للجامعة في المانيا). واعلن فيه انتسابه الى الحزب النازي، راحت جامعة (فريبورغ) تتبنى الافكار الاساسية للنازية، خاصة ما يتعلق منها بالقومية الاشتراكية، والاعتزاز بالعرقية. وبعد سنة، استقال من منصبه، لانه تحول الى دمية من القش تتحكم فية المركزية الحزبية. واعلن مستاءاً بانه ترك الشأن السياسي. وراح النازيون يصفون خطابه التشريفي بانه ليس نازياً ما فيه الكفاية إذ لم يتضمن خطاب التفوق العرقي للالمان (أي دمج البيولوجيا مع خصائص تاريخية ثابتة للكائن الانساني) ولا العداء لليهود. واعتبر الحزب النازي ان كتاباته، التي جُمعت لاحقاً في (اسهامات في الفلسفة)، تتضمن نقداً للفكر النازي، فأبقى (الغوستابو) عينه مفتوحة على نشاطات (مارتن هيدغر) الجامعية. ثم عبروا عن سخطهم بان ارسلوه مهاناً ليحفر الخنادق في جبهة نهر (الراين)، باعتباره فائضاً عن حاجة الجامعة، ولم يحل ذلك دون منعه من التدريس مدة ثلاث سنوات، بعد سقوط النازية ))، وبالرغم من ذلك كله فان فكره بقي مقرونا بمفكري القومية النازية، حيث بقي (موضع سجال حار، خصوصاً أفكار الثلاثينات والاربعينات من القرن المنصرم، وقد ابدى فيها افتتاناً بفلسفة نيتشة، الذي اعتبر من المراجع الاساسية في الفكر النازي. وينطبق الوصف نفسه على افكاره حيال الشاعر هولدرلن. وما ساهم في رسمه فيلسوفاً نازياً، يتمثّل في هجرانه تقاليد الفلسفة الغربية كلها، وتشديده على الفلسفة الماقبل سقراطية أو ما قبل ظهور سقراط: المرجع –الاسطوري- للفلسفة اليونانية، بل للفلسفة الغربية كافة، بما في ذلك إرثها الميتافيزيقي. بدت تلك الفجوة متناغمةً مع افكار النازية النرجسية المُحتقرة للفكر الغربي، والتي راج عنها أيضاً انها تسعى الى تقاليد جديدة في الفلسفة )، وهكذا بقي (هيدغر) مرميا بالحجر ذاته كلما حدثت خطيئة ارادوا اعداؤه ان يرموه بها، اذ ليس بالأمر السهل عبور مثل ذلك الالتباس المشين، والذي سجله التاريخ دون نسيان؛ لكن محبيه كانوا دائما معه، لانه الفليسوف الذي غير مسار الفلسفة نحو الاتجاه الأصح.
#محمد_الأحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نصفُ إغماضه من اجل احتمال ضجيج العالم
-
لزوميات خمسميل
-
قراءة في رواية (عباس عبد جاسم) الموسومة ب - مربع المواجهة
-
مطر (كاظم حسوني) وظمأهُ القديم
-
حلمٌ عراقي قد يتحقق
-
مساحةُ الثقافة والنشر في الصحف العراقية
-
جدلية (يورغن هابرماس) الصارمة
-
شفافيةُ السرد في قصص ضوء العشب
-
الضحك
-
ما ذنب العراقي؟
-
عبقريةُ (ماريو بارغاس يوسا) المذهلة
-
رواية تحت سماء الكلاب
-
رواية العطر لباتريك زوسكند، واقعية كضربٍ من الخيال
-
نص وقراءة
-
الحكواتي
-
الدروب التي لا تصل بطريق
-
رواية غايب لبتول الخضيري
-
الفكر العربي في محيطه الأسود
-
أجوبة الحوار المتمدن للملف
-
قراءة في رواية وردة لصنع الله ابراهيم
المزيد.....
-
شاهد لحظة قصف مقاتلات إسرائيلية ضاحية بيروت.. وحزب الله يضرب
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير ا
...
-
جامعة قازان الروسية تفتتح فرعا لها في الإمارات العربية
-
زالوجني يقضي على حلم زيلينسكي
-
كيف ستكون سياسة ترامب شرق الأوسطية في ولايته الثانية؟
-
مراسلتنا: تواصل الاشتباكات في جنوب لبنان
-
ابتكار عدسة فريدة لأكثر أنواع الصرع انتشارا
-
مقتل مرتزق فنلندي سادس في صفوف قوات كييف (صورة)
-
جنرال أمريكي: -الصينيون هنا. الحرب العالمية الثالثة بدأت-!
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|