|
الله والقلق
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6974 - 2021 / 7 / 30 - 00:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم ٥٨ - الله ومصدر القلق
كما لاحظ شوبنهاور ، فإن أي فيلسوف ألماني، بعد كانط، يتم التعامل معه وفقًا لوضعه ووفقا للمكان الذي يشغله بخصوص قبول أو رفض القطيعة التي أسسها "نقد العقل الخالص" بين "ما يظهر" le phénomène أي الظاهرة - وما هو في حد ذاته en soi. يحتفظ شوبنهاور نفسه، وفيما بعد نيتشه، بهذه الحدود ويزيدونها تعقيدا في إضافة تعارضات وتناقضات جديدة، مثل التناقض بين التمثيل والإرادة والتفسير والصيرورة، ثم بين أبوللون Apollon وديونيسوس Dionysos في ميلاد التراجيديا، ومن ناحية أخرى، تبدو "المثالية الألمانية" ككل جهدًا هائلا، يفوق طاقة العقل، ينعته هولديرلين بـ"الوحشي"، لمحو وإجتياز هذه المسافة والربط بين الكينونة والظاهرة، وبين الحقيقة واليقين، وبين الكائن في ذاته l en-soi والكائن من أجل ذاته le pour-soi، بإختصار بين المادة والعقل. وقد أفترضت عدة حلول ونظريات ومحاولات لحل هذه المفارقة. فيخته Fichte، أقترح اختزال الكائن في ذاته ومجمل الكينونة إلى الكائن من أجل ذاته، أي الوعي الإنساني المتجسد في "الأنا"، وطرح النشاط المثالي والعقلي للموضوع باعتباره المادة الحقيقية الوحيدة. أو إتخاذ وجهة نظر شيلنج والذي يرى على العكس من فيخته بأن الواقع المادي و"الطبيعة" هي "جذر-racine" (بالمعنى الرياضي للمصطلح) للمثالية والوعي؛ أو أخيرًا، مثل هيجل، من خلال رفض تحيز أي اختزال من أي نوع، ورفض غموض وعماء الكائن في ذاته من جهة، ورفض الكائن من أجل ذاته الفارغ من كل محتوى، وذلك ليؤكد الحقيقة الوحيدة لما هو كائن وهي الروح المطلقة l esprit absolu. لكن شيلينغ هو أكثر من مجرد مرحلة بين قوسين أو مغامرة عابرة مرت بسرعة في مسار هذه الرحلة للمثالية الألمانية. بل إنه يتعاطف مع هذه المغامرة بالذات، فقد تحملها بالكامل؛ وبعد وفاة هيجل المفاجئة في 14 نوفمبر 1831 نتيجة إصابته بمرض الكوليرا، أصبح الأمر بالنسبة له أمر مسؤولية تاريخية لمواصلة المغامرة، وساهم في تطوير المثالية بتأسيس ما سيسمى فيما بعد بالمثالية الموضوعية. حيث يردّ كافّة الظواهر المتعلّقة بالوعي إلى نظامٍ مطلق يسبق الوجود الإنساني، حيث النظام المطلق السابق للفكر موجود أولا وأداته للظهور هي الوجود الإنساني، فيعي وينتقل الفرد بكل الظواهر والموجودات في الطبيعة إلى هذا النظام المطلق الفكري السابق. فلقد أكد شيلنج أنه إذا وجدت معرفة، فلا بد من أنّ هناك شيء لا بد من معرفته، أي أنه إذا كانت هناك معرفة فلا بد من وجود، وقام بوضع فيخته على قدميه إن صح القول وذلك باستبدال ما صاغه فيخته ” الأنا هي كل شيء ” إلى المبدأ الأوسع والأشمل ” كل شيء هو الأنا “، وهنا يريد أن يوصلنا شيلنج إلى أنّ العالم الطبيعي والعالم الروحي موجودان على حد سواء، ” الطبيعة هي روح مرئية، والروح هي طبيعة غير مرئية”، وسنرى فيما بعد العلاقة بين مثالية شيلنج وبين التصوف اليهودي وبعض عناصر القبالة أو الكابالا. في كتابه الكبير، البحث عن جوهر الحرية الإنسانية Recherches sur l’essence de la liberté humaine الصادر عام 1809، حاول شيلينغ ، من بين أمور أخرى، أن يصف ولادة وتاريخ "المطلق - l’Absolu ". على عكس فينومينولوجيا الروح عند هيجل، فإن المطلق يؤخذ هنا كنقطة البداية، كبداية "سابقة" على الزمان. من خلال مشكلة احتمالية وجود الشر، يتخيل شيلنج قصة ولادة "المطلق" خارج ذاته، وظهور التاريخ وبداية الزمن، والانتشار التدريجي للطبيعة وبزوغ فجر البشرية بظهور الإنسان، هذا الكائن الواعي بذاته والوحيد الذي توجد بالنسبة له إمكانية الشر. يطرح شيلينج، الذي يحرص على الحفاظ على شكل من أشكال وحدة الوجود panthéisme، مسألة حرية الإنسان وإمكانية وجود الشر وأصله وعلاقته بالطبيعة. شيلنج يستعمل كلمة "Angst" للإشارة إلى القلق، وهو العاطفة أوالتأثير l’affect الأساسي الذي يميز من خلاله "الحياة الأبدية "vie éternelle" للمطلق قبل ولادته أو خروجه خارج ذاته. يجب في البداية التمييز المهم الذي افترضه شيلينج بين الجوهر أو الخلفية أو الأساس أو السبب (Grund) والتي يمكن ترجمتها باللوغوس اليونانية Λόγος وبين الوجود (Existenz). فكيف، في سياق ما بعد كانط، يمكننا الإحتفاظ بمثل هذه الفرضية القائلة بأن أساس مقولة الله "المطلق" هو الله ذاته؟ أي كيف ترسي أسسها وإمكانية وجودها وشرعيتها دون اللجوء إلى بعض "المعرفة" التحليلية، من خلال التأكيد على سبيل المثال على أن مفهوم الله يحتوي بالفعل وفي ذاته على مفهوم الوجود ؟ أي أن مقولة الله تستدعي وجوده بالضرورة. في مواجهة هذا التحدي، يتخيل شيلينغ صورة غريبة لإله منفصم ومنقسم في جوهره ليتمكن من الخروج من ذاته للوجود. فيفترض أن الله له أساسه في ما - فيه - والذي ليس هو الله نفسه (بمعنى أن أساس الله يوجد فيما هو ليس الله، في الله نفسه)، مثلما أقول لدي جسد دون أن أكون هذا الجسد. إن نقطة القرب هذه من قلب الله هي التي ستجعل من الممكن خروجه من نفسه ليوجد مستقلا عن نفسه بشكل واضح (ومن هنا التعبير الذي استعمله شيلنج Ek-sistenz). أي أنه حاول خلق شرخ في ذات الله ليتمكن من خلق ذاته. المادة الإلهية أو الأساس أو اللوغوس تسبق الوجود إذا، لكن شيلينغ يحدد على الفور أن هذه الأسبقية لا ينبغي اعتبارها "أسبقية زمنية" ولا "كأولوية أساسية" من أجل "إضفاء الإنسانية" أو نوع من المادية على وجود الله، الذي يُفهم على أنه توتر بين هذا الأساس وداوم إرادته والرغبة القلقة Sehnsucht للوجود. يؤكد شيلينغ أنه يجب على المرء أولاً معرفة ماهية الله من أجل تقرير ما إذا كان يمكن تطبيق أي مفهوم نظري عليه أم لا : "أن الله مدرك لذاته، حي، شخصي، باختصار الله مجسم، فهل سيكون عارًا آخر أن ننقل مفاهيمنا البشرية إليه ؟"». من الواضح أن الخصائص المنسوبة إلى الله "قريبة مما هو إنساني". وبالمثل، يمكننا صياغة مثل هذا السؤال عن القلق : هل القلق الذي ينخر البشرية يفسر من خلال القلق الكامن في الله في بداية الزمان وله جذوره في هذه الرغبة للوجود المستحيلة التحقق ؟ (ومن ثم نشاركه بالضرورة في هذا القلق) أن تركيز شيلينج على إرادة الله، وأنه من المستحيل بالنسبة لنا أن نتنبأ بقابلية تطبيق مفاهيمنا على الله حتى نعرفه، لأن "الله هو ما يريد أن يكون"، وبالتالي، يجب أن يبدأ التحقيق في طبيعة الله بالضرورة بمحاولة فهم "الإرادة الإلهية" والتي تبدو كأنها هي الكائن الأصلي أو المطلق.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلتحترق الملائكة
-
شيلنج وقلق الله
-
ونجرجر هزيمتنا
-
ذوبان الملل
-
القلق الفردي
-
الحروف المسطولة
-
الوقت من ذهب
-
السقوط الحضاري
-
الله والفراغ والذرة
-
عيون الكلاب
-
ظاهرة الوحي والهلوسة
-
الفكر بين العقل والإيمان
-
إشكالية الحرية والموت
-
نيوتن والجاذبية الغائبة
-
مجون وإنحلال
-
زندقة
-
القاطعة
-
الحكم بإسم الله
-
ديالكتيك السيد والعبد
-
الصندوق الزجاجي
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|