|
نقض الأحكام القبلية لدى كانط
هيبت بافي حلبجة
الحوار المتمدن-العدد: 6971 - 2021 / 7 / 27 - 17:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بعدما إنتقدناه في ، فلسفة كانط مابين السقوط والتساقط ، ونقض منطوق فلسفة القانون لدى هيجل وكانط ، نود أن ننتقده في مايسمى بالأحكام القبلية ، أو المقولات ـ كاتيغوري ـ تلك الأحكام التي أشكلت على النسق الفلسفي برمته ، وأربكت الباحثين والمفكرين حول فهم حقيقة ذلك النسق . ولأجل أن تتضح المعالم الفعلية لتلك الأحكام ولذلك النسق ، وقبل أن نتعرض لذكر المقدمات ، من الضروري أن ندقق ونحدج النظر في الملاحظات الستة التالية : الملاحظة الأولى : حينما يطرح كانط أسئلته الثلاثة الجوهرية ، ماذا بمقدورنا أن نعرف ، ماذا بطاقتنا أن نعمل ، ماذا بإستطاعتنا أن نتأمل أن نحقق أن نعتقد أن نبلغ ، فهو ، في الحقيقة ، لايتساءل إنما يطرح الأبعاد الفعلية لنسقه ، والإطار العام لمشروعه ، والحركة الترانسندنتالية التي هي جوهرها . والتي من خلالها ، أي من خلال تلك الأسئلة ، يحدد المفارقة الأصيلة مابين فلسفته ، كفلسفة نقدية ، ومابين روح الفلسفة التي سبقته ، كفلسفة تأملية ، وهذا يفضي إلى نقطة في غاية الأهمية وهي إن فلسفة كانط النقدية لاتبحث عن ذاتها إنما تبحث عن تلك الخواص التي تؤلفها وتأتلف معها ، بعكس الفلسفة التقليدية التي أرهقت نفسها في البحث عن ذاتها بصورة ميكانيكية . الملاحظة الثانية : حينما يطرح كانط تلك الأسئلة الثلاثة ، فإنه يزعم إن الإنسان هو المركز ، نقطة التمركز ، بنياد الكون والوجود والإله والعالم ، أي أناب الإنسان ، في فلسفة كانط النقدية ، الإله والعالم والوجود ، وبتعبير آخر غدا الكون يدور حول الإنسان ، وفي الفعل ألغى كانط موضوعة الإله والعالم والوجود لصالح نقطة التمركز التي هي الإنسان . ومن هنا إعتبر كانط فلسفته بمثابة ثورة فعلية في الفكر البشري تتماثل مع الثورة التي قام بها كوبرنيكوس في عالم الفلك حين أطاح بتصور بطليموس في إن الأرض هي المركز وإن الشمس تدور حولها ، من خلال نموذجه ، هو ، إن الأرض ليست إلا كوكباٌ ، مثل بقية الكواكب ، تدور في فلك الشمس وبصورة دائرية الأمر الذي صححه كبلر في نموذجه إن الكواكب تدور حول الشمس بشكل إهليلجي وليس بشكل دائري، حينما إعتمد على إختلاف سرعة الكوكب نفسه ، السرعة العظمى والسرعة الصغرى ، ووضع قوانينه الثلاثة المعروفة بأسمه . الملاحظة الثالثة : في تأصيل الملاحظتين السابقتين ، كان التساؤل المحوري والراديكالي هو ماذا يستطيع العقل ، أي ماهي العلاقة الجوهرية مابين العقل والمعرفة البشرية ، وماهي المحددات مابين ماهو حد التعقل ومابين ماهو حد موضوع التعقل ، لتغدو تلك الأسئلة الثلاثة الأولية على الصيغة التالية ، ماذا يستطيع العقل أن يعرف ، ماذا يستطيع العقل أن يفعل ، ماذا يستطيع العقل أن يعتقد ، أن يبلغ ، أن يحقق ، وستتضح معالم هذه الملاحظة حين نتحدث عن طبيعة العقل . الملاحظة الرابعة : في أس العلاقة مابين العقل والمعرفة يؤكد كانط إن الفلسفة الكلاسيكية التأملية إحتسبت العقل كشيء من الأشياء ، وإستخدمته كأداة من الآدوات ، مثل الجبل والنهر والشجرة والقمر ، في حين كان من المفروض ، وهذه هي الفلسفة النقدية ، أن تدرس العقل ، أن يكون العقل موضوع دراسة لها ، أي أن يكون العقل جزءاٌ من سيالة تلك الفلسفة . وهذا يفضي إلى نتيجة في غاية الدقة ، لدى كانط ، إن العقل في تلك الفلسفة كانت تحوم حول الأشياء وتمعن في كنهها ، في أصولها ، في حين إن الأشياء في فلسفته هي التي تحوم حول العقل . الملاحظة الخامسة : لابد هنا أن نمايز مابين حرية الإرادة والإرادة الحرة ، وحرية الإرادة ، لدى كانط ، لها دلالات خاصة بها تتعارض من حيث التأصيل مع روح القوانين الفيزيائية التي بدت له كقوانين صارمة جامدة ، ويتجلى التعارض إذا أدركنا إن حرية الإرادة مرهونة بالعقل ، وكذلك بالواجب والمسؤولية ، أي في الفعل إذا خضعت حرية الإرادة لأي شرط خارجي فإنها تفقد حقيقتها ، وبالتالي يفقد العقل مصداقيته ، وبالنتيجة تصبح المسؤولية والواجب من القضايا مزيفة . الملاحظة السادسة : إن العقل هو شرط الضرورة المعرفية ، لكنه في المبنى شرط ناقص ، يقول كانط إن معرفتنا تبدأ بالحواس ثم تعود إلى الفهم والذهن وتنتهي بالعقل ولايوجد ماهو أفضل من العقل . وهذا القول وأقوال عديدة أخرى تؤكد ثلاثة أمور . الأول إن الشرط الناقص قد يلحق بنقصان النسق الفلسفي نفسه . الثاني شيء ما يتحرك مابين الذهن والعقل لدى كانط الذي مثل هيجل يبتعد عن التحديد التام كي يتسنى له ألا يكون أسير عبارة غير ناضجة . الثالث كيف تبدو العلاقة الحقيقية مابين العقل والإله والوجود ومن ثم العالم . والآن لنذهب إلى المقدمات : المقدمة الأولى : يؤكد كانط إن موضوعة المكان وموضوعة الزمان ليستا ، في الوجود ، إلا لاشيء . فلايوجد شيء أسمه المكان ولايوجد شيء أسمه الزمان ، إنما هما مقولتان ـ كاتيغوري ـ من الأحكام القبلية ـ عددها 12 ، كالعلة والعنصر والكم والكيف والجوهر ألخ ـ وهذه الأحكام كقوالب للفكر هي مزروعة مغروسة مسكونة في العقل ، وهذه القوالب ليست للفكر إنما هي لعملية الفكر . أي إن المكان ، وكذلك الزمان ، ليس موضوعاٌ للعقل ، وليس فكرة ، وليس شيء ، الأمر الذي يحذر كانط منه كيلا نقع في مصيدة : لماذا لاندرك المكان ، أو الزمان ، أو العلة ، ولاندركها لإنها ليست فكرة إنما هي قوالب للفكر ، وهذا هو عيب الفلسفات القديمة حسب كانط . وهذا يفضي إلى نتيجة خاصة جداٌ وعلى مبناها نعي النسق الكانطي أوضح وهي إننا ، كبشر كصاحب للعقل ، لايمكن أن نكون على هذه الشاكلة ، التي نحن عليها بطبيعتنا ، بدون هذه القوالب ، بدون القالب المكاني ، بدون القالب الزماني . وبتعبير أدق ، نحن زمانيون مكانيون ، بحكم الضرورة ، ، بحكم إننا إننا ، وهذا هو الشرط الوجودي لضرورتنا ، لضرورة معرفتنا . المقدمة الثانية : لنعرف كانط كما ينبغي ، من المفروض أن نميز مابين نقده للمذهب التجريبي ، أمثال جون لوك وديفيد هيوم ، في موضوع إن المعرفة تبدأ من الأحاسيس والتجربة وتنتهي لديهم بهما ، لكنها لاتنتهي ، لدى كانط ، بهما بل تتعدى ذلك إلى حدود الفهم والذهن ، والعقل ، ولولا العقل ، وفي الحقيقة لولا تلك الأحكام القبلية ، ماكنا نحن نحن ، وكانت معرفتنا ، وماكان للأحساس والتجربة أية قيمة . ومابين نقده للعقلانيين ، أمثال ديكارت ولايبنتز ، في موضوع إن العقل يحتوي على أفكار فطرية قبلية مسبقة ، فينفي كانط فكرة الأفكار الفطرية ويؤكد إنها عديمة المعنى عاقرة الفعل فهي لاتنتج المعرفة ، إنما العقل يحتوي ، وبالضرورة ، على الأحكام القبلية التي بها تنتج وتتولد المعرفة الإنسانية ، فعن طريق مفهوم المكان ومفهوم الزمان نستدل على طبيعة المعرفة في كونها موضوع أدراك ، موضوع إدراك معرفي ، موضوع إدراكي . وفي التمييز مابين نقده لهؤلاء ونقده لأولئك ، خلق كانط ، لاكما توهم الكثيرون أنه وفق مابين المذهب العقلاني والمذهب التجريبي ، إنما لقد خلق نسقاٌ فكرياٌ جديداٌ ، نسق فكري لايقبل برأي لوك وهيوم حول التجربة ، ولايقبل ، وبنفس الدرجة ، برأي ديكارت ولايبنتز حول الأفكار الفطرية المسبقة . المقدمة الثالثة : لنرجع إلى إطروحة كانط حول فكرة ، الشيء قي ذاته ، وعلاقة ذلك يالأحكام القبلية ، وبالعقل ، هنا لامناص من أن نعي ثلاثة نقاط . النقطة الأولى من الضروري التمايز مابين أمرين ، مابين ماهو ظاهراتي في الشيء ، أي الفينومين ، ومابين ما لا نستطيع ، نحن ، أن ندركه من هذا الفينومين ، أي وبالرغم من ظاهريات الشيء فإن إدراكنا ، كونها محدودة بتلك الأحكام القبلية ، ربما لايستطيع أن يدركها كما ينبغي ، مع إعتراضنا الكامل على عبارة ـ كما ينبغي ـ أو ربما يستطيع إدراكها على نحو ما ، مع إعتراضنا ، من جديد ، على عبارة ـ إدراكنا ـ فهل هو إدراكك ، إدراك كانط ، إدراك هيجل ، إدراك من ؟ . النقطة الثانية حينما يميز كانط مابين الفينومين الظاهرياتي ، ومابين النومين الباطنوي ، فإننا ، في واقع الأمر ، ندرك الشيء من خلال إدراكنا ، الذي يحدد علينا وعلى الشيء شروطه الخاصة ، وإدراكنا هنا هو الأحكام القبلية قبل أي شيء ، وهذه هي حقيقة رؤية كانط في هذا الصدد ، أي لايدرك الشيء إلا من خلال المكان والزمان . النقطة الثالثة حول مفارقة معنى الإدراك الكانطي في علاقة الفينومين والنومين بالأحكام القبلية ، فإذا إجتمع أثنان ، شيئان ، فحسب كانط ، يوجد الشيء في ذاته بالنسبة للشيء الأول خارج الزمان والمكان ، ويوجد الشيء في ذاته بالنسبة للشيء الثاني خارج المكان والزمان ، ويوجد إدراك الأول لذاته أي كما يدرك هو نفسه داخل المكان والزمان ، ويوجد إدراك الثاني لذاته أي كما يدرك هو نفسه داخل المكان والزمان ، ويوجد إدراك الأول للثاني داخل المكان والزمان ، ويوجد إدراك الثاني للأول داخل المكان والزمان . المقدمة الرابعة : في محددات العقل البشري أي في مجال فعل العقل ، ندرك المحرك الأساسي لكانطية كانط ، وندرك لما سمى مؤلفاته بنقد العقل الخالص ، وبنقد العقل العملي ، وإن النقد ليس إلا تقويماٌ لمفهوم العقل ، أو لمحتواه ، تطابقاٌ مع ذلك المجال . وفي هذه المحددات لامندوحة من أن نعي ثلاثة قضايا ونمايزها تمييزاٌ دقيقاٌ . القضية الأولى إن العقل الخالص ، العقل العقلاني المحض لايمكن أن ينتج المعرفة لإنه عقل ، فعقلانية العقل البحت ليس إلا مجال تخارجي عن حدود المعرفة ، وبالتالي فإنها عاقرة عديمة الشأن . القضية الثانية إن العقل العملي لايرتقي إلى مستوى تحديد تأصيل المعرفة ، وقواعدها وقوانينها ، لذلك لابد من الذهن والفهم ومن ثم العقل الكانطي ، فلولا الفهم والعقل الكانطيان ، أي حسب كانط ، لما حصلنا على قوانين الفيزياء مثلاٌ ، ولا على الوعي التراكمي ، ولا على دراسة الأبحاث العلمية دراسة تحليلية . أي إذا كانت القضية الأولى تجعل من العقل عقلاٌ إلهياٌ تافهاٌ جامداٌ جافاٌ فإن القضية الثانية تجعل منه أداة ميكانيكية في حدود علاقة الحيوان بالطبيعة ، لذا فإن كلا العقلان مرفوضان . القضية الثالثة وتتمركز حول المحور التالي وهو إن كل ماهو ميتافيزيقي ، كل ماهو غيبي لايمت إلى مجال فعل العقل ، أي هو خارج مجال البحث العقلي ، كموضوع الإله فهو أمر غيبي بحت لذلك لايمكن للعقل أن يقدم أي برهان أو تصور فعلي حوله . المقدمة الخامسة : في شرط المعرفة الإنسانية يؤكد كانط إن المعرفة تبدأ بالتجربة لكنها لا تنشأ منها ، ويؤكد إن المعرفة تبدأ بالأحاسيس ، وتمر بالفهم والذهن ، وتنتهي بالعقل ولاشيء أفضل من العقل . وهكذا فإن المعرفة تقتضي شرط الآداة ، بالحنمية البشرية ، وهو شرط الإحساس ، فلولا الإحساس ماكانت المعرفة ، ثم يأتي شرط التعقل ، بالحتمية البشرية ، وهو شرط العقل ، وهو في الحقيقة شرط الأحكام القبلية . ولابد من شرط خفي يرتبك فيه كانط وهو شرط الفهم والذهن ، وهذه إشكالية كبيرة ، فمن منهما ، أي من الفهم والذهن ، أم من العقل ، هو صاحب الأحكام القبلية ، أي هل غرس الإله تلك الأحكام في الذهن أم في العقل ، وماهو الفرق مابين الأول والثاني . المقدمة السادسة : في خصوصية الأحكام القبلية ، في خصوصية المكان والزمان ، يؤكد كانط في مؤلفه ، نقد العقل الخالص ، إن الأحكام القبلية ـ كاتيغوري ـ هي خارج نسق التجربة ، خارج سياق الإحساس ، وبتعبير أصدق إنها ليست موضوعات للتجربة ولا للإحساس ، ولاتخضع لقواعدهما معاٌ . وهنا ينبغي أن نفارق مابين أمرين ، إما أن تكون مغروسة ومسكونة في العقل من قبل الإله مثلاٌ ، أي من قبل طرف ثالث خارج الطبيعة والإنسان فلاعلاقة لهما بها على الإطلاق ، إما إنها بطبيعتها خارج حدود ومقاس التجربة والإحساس . وفي الحالتين ثمت إشكاليات تعترض النسق الكانطي ، والغريب إن كانط يوحي أحياناٌ إن الإله هو الذي أودع هذه الأحكام القبلية في العقل الإنساني ، ويؤكد مرة أخرى إن المكان والزمان ينتميان إلى الإحتياج البشري ، أي إن البشر هم الذين نظموا ورقفوا أصول وأسس المكان والزمان بناءاٌ على موضوع الحركة ، فالحركة هي التي أوحت إلى البشر مفهوم الزمان ، وبناءاٌ على موضوع الفضاء والفراغ البصريان ، اللذان أوحيا إلى البشر قضية المكان . أي إن البشر إستناداٌ على موضوع الحركة والفضاء نظم مفاهيمه حول ، ذلك قبل هذا ، وهذه بعد تلك ، وهذا هو المكان الفلاني ، وذاك هو في الزمن القادم ، في اليوم الآتي ، فنحن ننتمي من هذا المنطلق ، بالضرورة ، إلى المكان والزمان ومحكومون بأسس وقواعد كافة تلك الأحكام القبلية . وإذا صحت هذه الفرضية الأخيرة فإن القالب الإلهي ليس إلا قالباٌ أجوفاٌ سخيفاٌ . نكتفي بهذا القدر ، ونعترض بالآتي : أولاٌ : كي لايكون ثمة إلتباس في المعنى مابين موضوع التجربة والإحساس ومابين موضوع التجربة البشرية التراكمية ، سنستخدم في هذه الحلقة مفردة الخبرة البشرية محل التجربة البشرية التراكمية ، وستكون مفردة التجربة مرتبطة بالإحساس وبالمعرفة البشرية ، وطالما إن الأحكام القبلية هي سابقة للتجربة والإحساس ، فهي خارجة عن نطاق المكتسب إكتساباٌ ، وخارجة عن موضوع الخبرة البشرية ، وخارجة عن نطاق العقل نفسه أي لايستطيع العقل أن يحدد أبعادها ، فهي ، وبالضرورة ، مغروسة غرساٌ من قبل طرف ثالث وهو الإله مثلاٌ . وهنا يكون السؤال المحوري هل غرس الإله هذه الأحكام القبلية تطابقاٌ مع الطبيعة أم مخالفة معها ؟ فإذا كان تطابقاٌ فهذا يعني إنها هي التي تجعل من العقل عقلاٌ بهذا المحتوى الزماني والمكاني الذي نعرفه وإلا ماكان ، أي تطابقت إرادة الإله وطبيعة العقل ومحتوى الطبيعة معاٌ ، لكن في الأصل الطبيعة سابقة للإنسان وعقله ، وهي التي تتضمن في ذاتها الزمان والمكان كمفاهيم تخصها خصوصاٌ ، بمعنى إن الطبيعة هي التي تحتوي على مسألة الفضاء بالمفهوم الكانطي ، وتحتوي على الحركة بالمفهوم الكانطي ، أي حينما ظهر أو تجلى أو تآلف الإنسان في الطبيعة هو لم ير ولم يشاهد سوى هذا الفضاء وهذه الحركة ، فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل ، دلالة قطعية ، على إن الإنسان ومن ثم العقل قد أكتسب ذلك إكتساباٌ ، وتولد ذلك عن طريق الخبرة التراكمية للبشر ، فنحن ، إذا كنا مكانيون وزمانيون ، نكون كذلك لإننا ولدنا في مكان مفترض وزمان مفترض ، وليس لإن الإله قد غرس ذلك عقولنا . وأما إذا كان ذلك مخالفة مع الطبيعة فإن الواقع الفعلي يكذب هذه الفرضية ، كما إن العقل ، مضطر إضطرار الوجود لذاته ، إن يكون متطابقاٌ مع حقيقة الطبيعة ، مع شروطها ، معها . هنا تتمظهر قضية إشكالية كبرى وهي ، من الذي يحدد المطابقة والتخالف ، هل هو الإله ، هل هو العقل ، هل هي الطبيعة . لايمكن للعقل أن يحدد ذلك ، لإنه لو فعلها فإنه قد أدرك المكان والزمان قبل أن يدرك المكان والزمان ، أي أدرك الأحكام القبلية قبل أن يدركها ، وهذا يتنافي جذرياٌ مع النسق الفلسفي الكانطي . ولايمكن أن يفعلها الإله ، لإنه لو فعلها لأرتكب مغالطة جسيمة في تأصيل التساوق مابين العقل والطبيعة وتلك الأحكام القبلية ، أو ليس الفضاء والحركة ، أي المكان والزمان هي من حضن الطبيعة ولايمكن أن تكون خارجة عنه وإلا لأنهارت إطروحات كانط كافة ، وفي الحقيقة لاتوجد طبيعة بدون فضاء وحركة ، على الأقل فيما يخص كوننا الحالي ، أي إن الفضاء والحركة ليست إطروحات قبلية فهي من الطبيعة ، إنما يدركها العقل كما يدرك ، أو يحاول أن يدرك مجمل خواص الطبيعة ، وإذا ما سعى الإنسان ، نتيجة حاجته الضرورية ، إلى منح الفضاء والحركة مفاهيم خاصة به ، فهذا موضوع آخر ينظمه البشر ، لإنهم هم مكانيون وزمانيون ، ولايمكن أن يتصرفوا إلا من خلال هذا العقل المفترض ، أي المادة المدركة الواعية ، فتنظيم المفاهيم شيء مستقل تماماٌ عما ذهب إليه كانط ولاعلاقة له بأي إدعاء حول تلك الإطروحات القبلية السخيفة . وأما مايخص الطبيعة ، فينبغي أن نميز مابين أن تغرس الطبيعة تلك الأحكام القبلية بفعل إرادة مباشرة ، ومابين أن تمنح ذلك للعقل من خلال الخبرة التراكمية ، الخبرة البشرية التراكمية . ومن الواضح إن الحالة الأولى مرفوضة ، والثانية مقبولة لسبب بسيط هو إن الطبيعة إنما تمارس ذاتها من خلال وعيها الخاص بها ، وما الفضاء والحركة إلا هي من بنية تلك الذات ومن مشتقات ذلك الوعي ، أي إن المادة المدركة الواعية تتعرف على الفضاء والحركة وتدرسها كما تتعرف على ماتبقى من بنية الطبيعة ، وتنظمها وترقفها حسب الخبرة البشرية التراكمية . ثانياٌ : في موضوع الأحكام القبلية وتخصيصها للإنسان ، حسب كانط إن المكان والزمان مقولتان خاصتان بالعقل ، بالإنسان ، فقط ، وهذه قضية باطلة وتافهة ، فالحيوانات والطيور تدركان ذلك على طريقتها المميزة ، صحيح إنها لاتدرك ذلك بنفس المستوى ولاحتى قريب منه ولكنها ، وحسب طاقتها الدماغية تتعامل وتتفاعل مع الفضاء والحركة ، مع المكان والزمان . فالحمار ، في منطقة الأرياف ، إذا ما تركه صاحبه بعيداٌ عن المنزل بعدة كيلومترات ، يرجع إلى المنزل بمفرده بكل ثقة وبكل إدراك ، ويرجع قبل حلول الظلام ، ويدرك إن عليه بلوغ المنزل قبل ذلك ، بل يدرك وضعية الشمس والغروب . والأسود تحدد مناطق سيطرتها . والذئاب تحاكم بعضها البعض في أوقات محددة ولديها نظام لايخترق . والنسور تكسر مناقيرها في زمن معين في وكر خاص بها وتنتظر عدة أشهر معينة حتى تنمو . وإذا ما أساء شخص إلى سمك القرش فإنه ينتظره في نفس المكان وفي نفس الزمن من السنة القادمة لينتقم . حتى إن الطيور المهاجرة تدرك حقيقة المكان والزمان من كل سنة ، بل إن طير الحناء يمارس فيزياء الكوانتوم . وكذلك فإن الطيور والحيوانات تدرك الفرق مابين الأمطار والعواصف الربيعية عن تلك التي تحدث في الشتاء . فإذا ما صدقت فرضية كانط ، فهذا يعني إن الإله قد غرس الأحكام القبلية في الطاقة الدماغية للحيوان والطيور لنفس الضرورة . وهنا أود أن أشير إلى أمر تاريخي وهو موضوع يتعلق بما يسمى بالكوردية ، مار ماروك ، وهو حيوان زاحف صغير أسمه الوزع أو الضب ، وسمي بهذا الأسم لدى الكورد والزرادشتيين لإنه كان يتنبأ بقدوم العواصف المطرية الربيعية ، فيهرع من البيادر إلى فناء الدار هلعاٌ ، فيدرك أصحاب القرية إن عاصفة مطرية ربيعية قادمة فيحتاطون لها ، فسموه بذلك الأسم ، مار ماروك ، وهي مفردات كوردية تعني قدس الأقداس ، ومن الكوردية أنتقلت مفردة ، مار ، أي المقدس ، إلى اللغات الأخرى كالسريانية ، مار إلياس ، مار بطرس . والجدير ذكره هنا إن المعتقد الإسلامي ، سيما على يد الخلفاء العباسيين الصفويين الذين أسسوا إسلاماٌ جديداٌ ، كان يدمر كل ماهو كوردي زرادشتي لإنه بني أصلاٌ على معتقدات زرادشت واللغة الكوردية ، سواء على صعيد المفردات ، سواء على صعيد الأفكار ، سواء على صعيد المعتقد والعبادات ، وبصدد موضوعنا هذا فثمة عدة أحاديث نبوية تقول إن على المسلم أن يقتل الأوزاع كلها كي يكسب الحسنات !! بحجة إن هذا المارماروك كان ينفث في نار إبراهيم عليه السلام !! . سيكون ذلك موضوع حلقة خاصة . ثالثاٌ : إن التاريخ الكوني ومن ثم التاريخ البشري يكذبان فرضية كانط إن االعقل يحتوي على أحكام قبلية وإنها قد غرست في العقل غرساٌ من قبل طرف ثالث ، الإله مثلاٌ . فلو صدقت فرضية كانط هذه لكان الوجود البشري ضرورة ، وضرورة مطلقة ، لإته ، أي الوجود البشري ، ليس حينها إلا تجلي من تجليات إرادة ذلك الطرف الثالث ، الإله . أي إن عملية الغرس لايمكن إلا لحالة الضرورة ، وإلا لكنا إزاء قضية تافهة تطيح بكل النسق الكانطي . ومن كان لحالة الضرورة كان صاحبه لحالة الضرورة ، أي كان العقل لحالة الضرورة ، وإذا كان العقل لحالة الضرورة فإن صاحبه يكون لحالة الضرورة ، أي إن الوجود الإنساني يمثل حالة الضرورة . لكن يالمقابل إن التاريخ الكوني يؤكد إن التاريخ البشري حديث العهد ، حيث مرت مراحل عديدة مديدة كان الوجود البشري معدوماٌ ، بل مرت مرحلة سيطرت الديناصورات على الكرة الأرضية لمدة مائتين مليون سنة كان فيها الإنسان معدوماٌ ، أي إن الوجود البشري ، وحسب التاريخ الكوني ، ليس إلا ظهور تطوري من درجة إلى درجة ، ولايمثل حالة ضرورة كونية . وهذا يؤدي بنا إلى إستنباط نتيجة ، وهي عين الحقيقة ، إن العقل ، أي المادة المدركة الواعية ، إنما يكتسب أبعاد ومقومات وقواعد وقوانين الأشياء والطبيعة إكتساباٌ ، فلا أحكام قبلية ولاقوالب ، ولا أفكار فطرية حسب ديكارت ولايبنتز . رابعاٌ : إن النسق الكانطي يؤكد من ناحيته إن هذه الأحكام القبلية المغروسة في العقل ليست مكتسبة ، وإن العقل ليس لوحاٌ فراغاٌ ، وإن العقل محدود في إمكانياته ، وإن المعرفة تبدأ من الإدراك الحسي ، ومن ثم تتموضع في الفهم والذهن ، ومن ثم تستقر في العقل . هنا لامندوحة من السؤال المحوري ، ماهي العلاقة مابين تلك الأحكام القبلية المزعومة ومابين الإدراك الحسي ؟ فكلاهما يفرضان أنفسهما على العقل من زاوية إن لامعرفة إلا بهما . وفي الفعل إن دور تلك الأحكام ، إن وجدت ومن المحال أن تكون ، لايختلف أبداٌ عن دور الإحساس ، فكلاهما ناقل ليس إلا ، فالعين تنقل ، واللمس ينقل ، والقالب المكاني ينقل ، والقالب الزماني ينقل ، مع إختلاف جوهري قاتل هو إن النقل في الحواس ، وإن كان آلياٌ بطريقة ما ، هو الذي يغذي المادة المدركة الواعية بمادة التحليل ، بمادة للفهم والإدراك ، وهذا يكون أساس الشرط الحسي في المعرفة ، وهو شرط كاف وواف في أصوله . بينما يكون قالب المكان وقالب الزمان قالبان سخيفان لاشرط لهما ، ولاشرط فيهما ، ولاشرط عليهما ، ولاشرط يقتضيهما بعكس الإدراك الحسي ، سيما وإن لاوجود للمكان ولاوجود للزمان حسب النسق الكانطي وليس أمامنا سوى الفضاء وسوى الحركة ، والعقل ، من حيث المبدأ ، ينظم مواضيع الفضاء وأصول الحركة وفيزيائية كليهما ، فبماذا يحتاج العقل إلى تلك القوالب للحصول على المعرفة أو لتنظيم شأنه !! . أي ، وفي النتيجة ، إن العقل قادر ، من حيث الأصل ، أن يكون عقلاٌ ، المادة المدركة الواعية ، دون أي قالب قبلي إفتراضي . خامساٌ : في حدود إمكانيات العقل وفي ومحدودياته ، يؤكد كانط إن العقل لايستطيع أن يدرك تلك القضايا الخاصة بالغيبيات وبعالم الميتافيزيقيا ، أي لايستطيع أن يتأكد من صدقها أو من نفيها ، فإذاٌ ليس بمقدور كانط أن يتثبت من أي أمر في هذا الخصوص . وهنا يتجلى سؤال أساسي : يا ترى كيف تأكد كانط من وجود أحكام قبلية في العقل البشري ، فإذا إدعى ، جدلاٌ ، عن طريق الإحساس والتجربة فهذا يدل على إنها ليست أحكام قبلية ، وإذا زعم عن طريق العقل نفسه فهذا يدل على إن العقل يدرك ، وبمقدوره أن يتأكد من القضايا الميتافيزيقية وقضايا عالم الغيبيات. سادساٌ : في طبيعة الأحكام القبلية لابد أن تكون مغروسة غرساٌ في العقل من قبل طرف ثالث ، وإلا لكانت مكتسبة إكتساباٌ ، وإذا كانت مكتسبة إنتفت طبيعتها في أن تكون أحكاماٌ قبلية . والأمر الذي يفرض نفسه : لامناص من أن يكون الطرف الثالث معلوماٌ علماٌ يقينياٌ لكل البشر ، كالشمس ، أي لايمكن أن نبرهن على وجوده ومن ثم نزعم إنه هذا هو الذي أودع الأحكام القبلية في العقل ، وإذا قبلنا بعكس ذلك يبرز السؤال المحوري المعاكس : كيف تسنى لكانط أن يدرك وجود هذا الطرف الثالث ، الإله مثلاٌ ، وهو من القضايا الميتافيزيقية طالما إن العقل الكانطي عاجز عن إدراك تلك القضايا حسب نسقه الفكري!! . سابعاٌ : حسب النسق الكانطي إن العقل والإنسان هما مركز الكون الفكري على غرار ماذهب إليه كوبرنيكوس في علم الفلك ، إن الشمس هي المركز . وهذا كلام سخيف للغاية ، فلاالعقل ولا الإنسان يكون مركز أي شيء على الإطلاق ، كما إن لا الشمس ، ولا المجرة ، ولا درب التبانة هي مركز بمثابة المركز ، بل أكثر من ذلك : لو ، للإدراك فقط ، أزلنا الأرض والشمس والمجرة ودرب التبانة والإنسان والعقل عن الوجود لما تغير شيء في حقيقة عالم الكون والوجود : وإن دل هذا على شيء ، لدل على إن لامركز ولا إله ، إنما الكون هو موضوع ظاهرة فيزيائية ، وهو ظاهرة فيزيائية ، الأمر الذي لايعني إلا نسعى جاهدين أن ندرك كل شيء عن هذه الظاهرة . وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة عشر بعد المائة .
#هيبت_بافي_حلبجة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقض الروح الكلية لدى هيجل
-
نقض مفهوم الخلق الإلهي
-
نقض مفهوم التأويل في النص الإلهي
-
نقض محتوى العقل لدى أبو بكر الرازي
-
نقض مفهوم النص لدى نصر حامد أبو زيد
-
نقض مفهوم السببية لدى الغزالي
-
نقض وحدة الوجود الشخصية لدى كمال الحيدري
-
النص الإلهي لايحرم الخمر
-
نقض المنظومة الفكرية لدى جون لوك
-
نقض النظرة الإيمانية لدى بيركلي
-
نقض مفهوم الجدل لدى محمد شحرور
-
نقض مفهوم الحق لدى محمد شحرور
-
نقض نظرية المعرفة لدى أفلاطون
-
نقض قدم النص الإلهي لدى أحمد بن حنبل
-
نقض نظرية المعرفة لدى إبن تيمية
-
نقض اللاتعارض مابين العقل والنقل لدى إبن تيمية
-
نقض الكمال الإلهي لدى ديكارت
-
نقض إشكالية الناسخ والمنسوخ في النص الإلهي
-
نقض مفهوم الخلود لدى ابن رشد
-
نقض مفهوم العالم لدى أبن رشد
المزيد.....
-
سقط من الطابق الخامس في روسيا ومصدر يقول -وفاة طبيعية-.. الع
...
-
مصر.. النيابة العامة تقرر رفع أسماء 716 شخصا من قوائم الإرها
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى يستخدمها -حزب الله- لنقل الأ
...
-
كيف يؤثر اسمك على شخصيتك؟
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل حاخام في الإمارات
-
حائزون على نوبل للآداب يطالبون بالإفراج الفوري عن الكاتب بوع
...
-
البرهان يزور سنار ومنظمات دولية تحذر من خطورة الأزمة الإنسان
...
-
أكسيوس: ترامب يوشك أن يصبح المفاوض الرئيسي لحرب غزة
-
مقتل طفلة وإصابة 6 مدنيين بقصف قوات النظام لريف إدلب
-
أصوات من غزة.. الشتاء ينذر بفصل أشد قسوة في المأساة الإنساني
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|