|
الحصار وتوافيق وتباديل النموذج المصري في السياسات الخارجية
حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)
الحوار المتمدن-العدد: 6965 - 2021 / 7 / 21 - 11:40
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
لابد الآن وأن تكون الإدارة السياسية المصرية الحالية أمام اختيارات متعددة في حسم تصورها لسياساتها الخارجية، خاصة بعدما وصلت أزمة "السد الأثيوبي" في جلسة مجلس الأمن التي عقدت مؤخرا إلى غياب قرار ملزم وواضح، وظهر معها "استقطاب دولي" شديد لم ينتصر لمصر، رغم ادعاء البعض وجود تفاهمات وتقاطعات مشتركة مع مصر في العديد من المحاور وقضايا التنمية، سواء في الغرب الرأسمالي أو الغرب الاشتراكي القديم ومعه الصين الجديدة.
"استقطاب دولي" عاجز وأصبح أمام مصر طريق شبه وحيد للمرور للمستقبل وتجاوز "الاستقطاب الدولي" السلبي الراهن، وهو أن تطور سياسة خارجية مدمجة (بين الخشن والناعم) تفرض بها أمرا واقعا جديدا، وتكسب احترام الجميع كلاعب دولي له مصالحه الخاصة التي يدافع عنها، وعلى الجميع مراعاتها.
دراسة الأنماط السابقة لتحديد "التباديل والتوافيق" المطلوبة وهنا سيكون أمام مصر عدد من الاختيارات والنماذج السابقة، لكي تصل عبر "التوافيق والتباديل" إلى نموذج خاص بها، وذلك وفق المبدأ العلمي في دراسات التدافع الحضاري الذي يقول: بدراسة تاريخ النمط في الموضوع المراد اتخاذ قرار بشأنه، حتى يمكن الوصول للطريقة الأمثل لشكل النمط المستقبلي واعتماده، وفق دراسة المتغيرات الخاصة وأفق توقعها. حقيقة مصر الآن في موقع أقرب للحصار والأزمة الوجودية الشديدة، لأن مراكز صنع القرار في الغرب تقف متفرجة على "المباراة السياسية" الدائرة حاليا، وتنتظر أن تعطي تقييما لمصر وفق قدرتها على إدارة ملف "السد الأثيوبي" عبر المسارات الخشنة والناعمة وما بينهما.
حتمية خلق "استقطاب مضاد" ومصر تملك في "مستودع هويتها" التاريخي زخما شديدا يجعل لها رصيدا وقوة ناعمة هائلة، يمكن لها استثمارها إذا نجحت في تطوير خطاب سياسي عام يلقى القبول في طبقات "مستودع الهوية" هذا، على اختلافها بين العربي والإسلامي والدولي، ولابد أن نعترف بداية أنه في كل الأحوال سيكون على مصر أن تخلق "استقطابا مضادا" استنادا إلى مواقفها في حتمية الحفاظ على حق المصريين في الحياة والماء. لكن على المستوى السياسي سيكون على مصر البحث في "الحالات المشابهة" التي وصلت لمرحلة الاستقطاب الدولي، والانسداد في علاقتها بالنظام الدولي للأمم المتحدة المستقر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع الإشارة إلى أن البعض يري أن هذا النظام نفسه وصل لمرحلة من الهشاشة الملحوظة، مع وصول "المسألة الأوربية" وثنائياتها المتناقضة ومتلازماتها الثقافية لمرحلة العبث والانسداد والمراوحة في المكان، من ثم يرى البعض فرصة مصر أوسع في تفجير النظام العالمي الراهن، والدعوة لعالم "ما بعد المسألة الأوربية" وتجاوز استقطاباتها التي تستند أثيوبيا إليها في خطابها السياسي. إنما بيت القصيد أنه سيكون على مصر والإدارة السياسية الحالية أن تحسم أمرها في طريقة خلق "استقطاب سياسي دولي" يعبر عن مصالحها القومية التي تتعرض للتهديد الوجودي الشديد، وسيكون عليها دراسة "أنماط التدافع" و"خلق الاستقطابات" التي اتبعتها الدول الأخرى، حينما واجهت حالة الانسداد والصدام مع بنية النظام العالمي..
نماذج الدول التي وقفت أمام الهيمنة الغربية/ الأممية سيكون أمام مصر حالات عدة لدراستها والاختيار من بينها، أو إجراء "تباديل وتوافيق" ما فيما بينها بالحذف أو بالإضافة أو التعديل، وصولا لشكل "السياسة الخارجية" التي ستستقر عليها لتخلق "موقفا استقطابيا" دوليا عبر خطاب سياسي يملك الحجة والسبل لحفظ الأمن القومي المصري من الخطر الوجودي الشديد الذي يهدده. وهذه الحالات نذكر منها: كوبا، كوريا الشمالية، إيران، وكذلك من بعض وجهات النظر باكستان ما قبل القنبلة الذرية، وتركيا في علاقات الشد والجذب مع الاتحاد الأوربي. وكذلك في مستوى آخر نموذج روسيا فيما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، والنموذج الهندي في قدرته على الاستقلال، وأخيرا النموذج الصيني وسياساته الخارجية.
المحددات الثلاثة الضابطة لقوة السياسات الخارجية هذه النماذج المتنوعة كل منها وفق طبيعته الخاصة وظروفه المحددة واجهت النظام الدولي الذي تسيطر عليها أمريكا والغرب الليبرالي، واستطاعت كل منها بطريقتها الخاصة الصمود وحقق كثير منها النجاح على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث عادة ما يراهن الغرب الليبرالي على عجز المسار الاقتصادي على رفد ودعم الاختيارات السياسية لتلك الدول وصمودها. بداية على المستوى العسكري حققت معظم تلك الدول كفاية ذاتية ما تواجه بها الحصار الغربي والأممي، سواء في إيران أو كوريا الشمالية أو حتى باكستان في مواجهة العقوبات الأمريكية. وعلى المستوى الاقتصادي نجحت بعض تلك الدول في استيفاء كفاءة اقتصادية فعالة ترفد بها قدرتها على المواجهة السياسية والصمود والاستقلال، تحديدا في الصين وتركيا والهند، في حين واجهت بعض تلك الدول صعوبات اقتصادية مثل إيران وكوريا الشمالية. على المستوى الثقافي حاولت معظم تلك الدول تقديم خطاب ثقافي/ سياسي يدعم روايتها الخاصة في مواجهة الرواية والخطاب الغربي الأممي، لكن وقعت معظم تلك الخطابات في فخ الاستقطابات الخاصة بـ"المسألة الأوربية" ورد الفعل لها، فلم يقدم خطاب ثقافي ما رواية سياسية قوية قادرة على اختراق الرواية الغربية شعبيا ورسميا، سوى في حالات جزئية بعينها.
موقف مصر من المحددات الثلاثة لبناء سياسة خارجية ناجعة من خلال دراسة المحددات الثلاثة السابقة لبناء السياسات الخارجية للدول التي واجهت النظام الأممي أو الغربي، يمكن القول أن مصر لكي تخلق "استقطابا دوليا" تدافع به عن مصالحها القومية الوجودية المهددة، عليها أن يكون لديها تصورا فعالا وكفاية مقبولة على المستوى العسكري والاقتصادي والثقافي. ويجوز القول إن مصر ربما تملك مسافة ما لردمها على مستوى الانتاج الذاتي العسكري، وربما تسعى لتحقيق نجاحات في المستوى الاقتصادي وكفاية المحاصيل الاستراتيجية أيضا، لكنها تملك فرصة متمايزة للغاية على المستوى الثقافي/ السياسي لخلق استقطاب عالمي لصالحها، يقوم على تجاوز تناقضات "المسألة الأوربية" ورفض إعادة إنتاج هذه التناقضات في ملف السد، ومطالبة الغرب بتحمل مسئوليته تجاه العُقد الاستعمارية التي تكونت في القارة السمراء، بالإضافة إلى عدالة قضيتها في توفير الماء كمورد لحياة عموم الشعب المصري. وفق المحددات الثلاثة السابقة العسكرية والاقتصادية والثقافية، يمكن لمصر أن تقرر شكل "التوافيق والتباديل" التي ستستقر عليها في بناء سياستها الخارجية، لتخلق "استقطابا دوليا" دفاعا عن مصالحها الوجودية المهددة.
عدالة القضية وقابلية الخطاب الثقافي/ السياسي على النفاذ للآخر ويمكن لمصر أن تتفوق سريعا لتحقق نموذج "الدولة الصاعدة" كلاعب قوي في النظام العالمي الذي تبدو ملامحه في الأفق، استنادا لعدالة قضيتها وقدرتها على تقديم خطاب ثقافي/ سياسي يملك القابلية للنفاذ للغرب شعبيا ورسميا، ولكن هذا الخطاب الناعم سيكون في حاجة لموارد خشنة عسكرية واقتصادية، تتطلب خططا سريعة لتعديل سياسات الدولة المصرية الحالية لتواكب الموقف الاستراتيجي الدولي الذي وُضِعت فيه. حيث تملك مصر فرصة قوية للخروج من حالة الحصار الحالية التي تعاني منها منتصرة، وتصبح واحدة من الدول الرئيسية في عالم "ما بعد المسألة الأوربية"، وتصنع لنفسها طريقا خاصا كواحدة من الدول التي تحدت عبثية النظام الأممي والدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية القرن الماضي، والتي سعت لتجاوزه نحو نظام عالمي أكثر عدلا ومنطقية، دون حق مقدس يملكه البعض يضعه فوق القانون والمعايير (الفيتو).
#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)
Hatem_Elgoharey#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السياسات التنموية بين المراكز والأطراف.. مصر والإمارات أنموذ
...
-
مصطفى الفقي وظهور تيار الاستلاب للآخر في سد أثيوبيا
-
هل يمكن أن تؤسس مصر لنظام عالمي جديد في أزمة السد!
-
مصر 2021م: خطورة تفجير التناقضات الميتة، ولصالح من!
-
أثيوبيا والسد: تفجير التناقض بين شمال القارة وجنوبها
-
ظهور منحنى القضم من الصهيونية: الانتصار في الانتفاضة وعودة ا
...
-
مرجعية الذهنية الصهيونية للخطاب الأثيوبي ضد مصر
-
البيان الشعري لصدور ديوان: -الطازجون مهما حدث-
-
ردا على حوار يوسف زيدان والصهيونية لجريدة الوطن
-
انتفاضة القدس: أولى نجاحات النماذج المعرفية لأطروحة ما بعد ا
...
-
مصر ومسارات استعادة الذات العربية: بين انتفاضة القدس والسد ا
...
-
مأساة غياب الرقابة السياسية في إعلان العبور الجديدة
-
أثيوبيا ومصر: بين سياسات المسألة الأوربية، وما بعدها
-
عاصم الجزار والفساد المستمر بالعبور الجديدة
-
ما وراء السد: السياسات المصرية بين محور التطبيع القديم ومحور
...
-
الرئيس الجديد لجهاز العبور الجديدة وبناء الثقة مع صغار الملا
...
-
مصر وأثيوبيا: من يقاوم ومن التابع للاستعمار!
-
سد أثيوبيا وتنويع محفظة السياسات الخارجية لمصر وفق أمنها الق
...
-
مقاربة ما قبل السلام وما دون الحرب: مواجهة الحجز الثاني لسد
...
-
زيارة السيسي لإسرائيل: أزمة تيار الاستلاب للصهيونية في مرحلة
...
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|