|
لا يفلح قوم ولوا أمرهم جاهلًا!
منذر علي
الحوار المتمدن-العدد: 6945 - 2021 / 7 / 1 - 19:16
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
كل الشعوب تمرُّ بمصاعب ومصائب، بعضها تفلح في تجاوزها، وبعضها الآخر تفشل وتظل تعاني الكثير من المتاعب، وبالكاد تتكيف مع المصاعب، وتخفق في تجاوز المصائب، وفي أحيان كثيرة تغرق فيها، وتخلق المزيد من النوائب والخرائب. *** لكن كيف يمكن لبعض الشعوب أن تتجاوز محنها، فيما تخفق شعوب أخرى؟ الإجابة على هذا السؤال المحوري يقتضي الإشارة إلى التباين في مستوى الوعي السياسي والوطني لدي القوى السياسية وعموم الشعب، ودرجة التماسك الاجتماعي، Social cohesion، والتباين في مستوى التطور الحضاري والتقدم العلمي، وطبيعة الثقافة السياسية السائدة، ونوعية النخب السياسية الحاكمة والفاعلة في المسرح السياسي، والموقع الجغرافي للبلد والمحيط الجيوسياسي. *** الشعوب ليست محصنة من الكوارث، ولكن الشعوب المتقدمة التي تشيع فيها الثقافة الحديثة، وتحظى بنخب سياسية وطنية، تمتلك درجة عالية من الوعي، تتحلى بدرجة عالية من المسؤولية الوطنية، تتصرف بشكل مختلف مقارنة بنقائضها، وتتمكن من تجاوز محنها، وترميم الخراب الذي لحق بها. *** فالشعوب المتقدمة، مثلًا، حينما تغزوها الجيوش الأجنبية، تتمكن من صد العدوان عن نفسها بالاعتماد على شعوبها وجيشوها الموحدة والمنظمة والمُدرَّبة والمسلحة، أو على ميلشياتها المتسلحة برؤية ثورية، فتهزم الغزاة وتنهض من بين الرماد، مثل الإتحاد السوفيتي، واليابان وألمانيا وفيتنام عقب الحروب التي عصفت بها في القرن الماضي. *** وحينما تنشب الصرعات الداخلية، الاثنية والقبلية والطائفية والجهوية، في بيئة الشعوب المتقدمة ، فأنَّ تلك الشعوب ونخبها السياسية لا تغوص في الماضي البعيد بحثًا عن هوية عصبوبة ملفقة، ولا تتكئ على الأوهام، ولا تسعى لبث الكراهية في المجتمع ، من أجل تعميق الانقسامات القائمة، ولكنها تستثمر العقل ، بشكل إيجابي ، وتبحث عن الأسباب الحقيقة وليست الوهمية ، الكامنة وراء الأزمات القائمة ، و تتطلع إلى المستقبل، وتسعى لتجاوز الانقسامات، وتدرس تجارب الشعوب الأخرى، وتبحث عن صيغٍ عقلانية للتعايش والتقدم في مسار الحضارة الإنسانية، كما عملت أوربا بعد تجارب الحروب الدينية في العصور الوسطى، وخلال الحروب القومية و بعد صعود الفاشية والنازية في مطلع ومنتصف القرن المنصرم، وحتى كما عملت دولًا، أقل تقدمًا في العصر الحديث، مثل رواندا وجنوب أفريقيا والجزائر وغيرها. *** والشعوب المتقدمة حينما تغزوها الجوائح والفيروسات القاتلة، مثل الطاعون والتيفوس والكوليرا والانفلونزا وكورونا، لا تغمض عينيها وتولول، ولا تستعين بالخرافة، ولكنها تلجأ للاستعانة بالعلم، بأطبائها المؤهلين وأطقمها الصحية الماهرة، فتعزز مناعة شعوبها، وتثلم شوكة الفيروسات المتنقلة والمتحورة، وتُشفى من محنتها، كما جرى في الصين وكوبا وفيتنام وكوريا وغيرها. *** والشعوب المتقدمة حينما تنبثق من قلبها ، أو تتسرَّب إليها من خارجها، في غفلة من الزمن، الأفكار الجديدة، المغلفة بالحداثة أو بالأصالة، ولكن المشحونة بالكراهية والعنصرية والقيم الرجعية، و الأفكار المتطرفة والفاشية الهدامة، المثيرة للهويات البدائية القاتلة، بهدف هتك بنيتها الفكرية والأخلاقية من الداخل، و تغيير توجهاتها السياسية والأيديولوجية، كمقدمة للغزو العسكري، بهدف السيطرة عليها و حكمها ، و تمزيقها وإخضاعها، كالغزو الغربي الخارجي لبلاد السوفييت عقب ثورة 1917 ، والغزو الياباني للصين سنة 1931 ، والغزو الأمريكي لفيتنام سنة 1955 ، أو كالغزو الداخلي للجماعات المغطوبة بالرؤية الفاشية والنازية اللتين عصفتا بإيطاليا وألمانيا في عهدي هتلر وموسوليني بين 1939 – 1955، فأنّ تلك الشعوب العظيمة ذات العزيمة العالية التي كانت تحظى بنخب سياسية حيَّة كانت تتفاعل بحيوية بالغة مع الأفكار الهدامة الصاعدة من داخلها أو الوافدة من خارجها ، وتواجهها ليس فقط بالمقاتلين الأشداء ، المتسلحين بالوعي الثوري ، ولكن أيضًا بالعلم وبجيش من العلماء والباحثين والمفكرين، فتحورها وتغيرها وتنتصر عليها، فتهزم الأفكار الاستعمارية والفاشية، تمامًا كما تهزم الجيوش الغازية والفيروسات القاتلة. *** ومن جانب آخر فأنَّ الشعوب المتخلفة، وخاصة العربية ومنها شعبنا في اليمن، المحكومة بنخب فاسدة، حينما تغزوها الجيوش الأجنبية، فأنها تستقبلها، وترحب بها، وترفع أعلامها، وتلبس زيها، وتتزين لها، كالعروس في ليلة زفافها، وتساعدها، بجيوشها المهترئة وبميلشياتها المكركبة، في إنجاز مهمة الغزو. والأدهى من ذلك أنها تعتبر ما قامت به من خيانات انجازًات عظيمة، فتُفترس وتُستباح، ولكنها لا تدرك أنها افترست واستبيحت، إلاَّ بعد أنْ تكون قد فقدت أطرافها، وأصبحت كسيحة لا تقوى على الوقوف مرة ثانية. *** الشعوب المتخلفة حينما تفتك بها الصراعات الداخلية، الاثنية والقبلية والطائفية والجهوية فأنها لا تتطلع إلى المستقبل، ولا تدرس التجارب المؤلمة للشعوب الأخرى لكي تتعلم منها، ولا تبحث عن وسائل عقلانية ناجعة لتجاوز حاضرها المؤلم، ولكنها تسعى للانتصار على التخلف بالتخلف، فتستعين بالطامعين من خارج الأوطان، وتغوص في ماضيها البعيد بحثًا عن هوية ملفقة من أجل تعميق الانقسامات القائمة، فتفقد هويتها الوطنية الحقيقية، في زحمة البحث عن الأوهام والتجارة بالشرف والكرامة، فتغرق بمآسيها، وتنحرف عن مسار الحضارة الإنسانية، وتخسر التطور وتربح المزيد من التخلف والحروب. *** وحينما تغزوها الفيروسات القاتلة، فأنها تلعن حظها البائس، وتضرب رأسها اليابس في جذع شجرة، وتستعين بالحلتيت مع الحبة السوداء، وتستغيث بهاروت وماروت، وتستعيذ بالله من العاقل والحكيم، وتستعين بالشيطان الرجيم، وتلجأ إلى المشعوذين لكتابة التعويذات، التي من شأنها أن تقي المرضى من شر الفيروسات، فينجم عن منهجها الأهوج أنَّ الفيروسات تبقى، والشعوب تهلك. *** والشعوب الفقيرة أو الغنية، المنكوبة بنخب متخلفة ، حينما يداهمها الجهل في صورة أفكار هدامة، من الداخل والخارج، المترافق مع العزو السياسي والأمني والأيديولوجي، بقصد تجويفها فكريًا وسياسًا وأخلاقيًا ليسهل افتراسها واستعبادها، فأنَّ الشعوب المتخلفة لا تستعين بالحكماء والمستنيرين من أبنائها ، ولكنها تستعين بالحمقى والمغفلين والتافهين والقتلة من بين قبائلها، فتغرق في جهلها، وتفقد روحها، وتغدو مجرد حيوانات بلهاء، تفاخر بجهلها ، وتتاجر بشهدائها ، وتربح المال على حساب دمائهم المسفوكة في المعارك العبثية ، ومع الزمن تغدو هذه الجماعات شرهة، أكولة كالبغال، لا تجيد سوى الصراخ والانتقام وقتل بعضها البعض، طمعًا في مزيد من المال، و إرضاء للأسياد، كما هو الحال في بلادنا اليوم. *** كل أو بالأحرى جُل جماعة سياسية في بلادنا اليوم تستعين بالقوى الخارجية العدوانية التوسعية لكي تتحرر من سيطرة الجماعة المحلية المتخلفة المناهضة لها، ولكن الجماعة الساعية للتحرر من السيطرة، شديدة التخلف مثلها مثل الجماعة المسيطرة. كل جماعة هي أسوأ من الأخرى، وفي أحسن الأحوال مثلها، تفيض بالجهل والكراهية والتخلف والخيانة الوطنية والولاء الخارجي. *** إذن لا جدوى من انتصار الإصلاح على الحوثي، لا جدوى من انتصار الحوثي على الإصلاح، لا جدوى من انتصار المجلس الانتقالي على الإصلاح أو على الحوثي او عليهما معًا. كل انتصار في هذه المعارك الشائنة يعادل الهزيمة لأنه انتصار للتخلف الداخلي والاحتلال الخارجي. ذلك أنَّ القوى الاجتماعية الطافحة كالبثور على سطح الحياة السياسية، قاتلة كمرض الجذام. إذن لا تأتلفوا في طوابير مرضى الجذام أملاً في انتصار الحرية والتقدم، فأنتم بذلك تساهمون، بوعي أو بدون وعي، بانتصار الخراب والموت العبثي والتفريط بالوطن. لا تنشغلوا بالمشاغبات الصبيانية هنا أو هناك، لا تنشغلوا بالجزئي، لا ينبغي أن تغيب عنكم اللوحة الكاملة للوطن بكل خطوطها المتداخلة والمعقدة. صوبوا وعيكم الجماعي صوب المجرى السليم؛ المجرى الذي يوصلنا إلى العدل والحرية والتقدم، وليس مجرى الطائفية والجهوية والعصبية القبلية والارتهان للأجنبي الذي يوصلنا إلى التخلف والموت. ابحثوا عن مقاربات جديدة، وطنية تقدمية، لهزيمة قوى التخلف المحيلة وقوى الاحتلال الخارجية. وفي مقدمة هذه المقاربات هي الادراك بأن الحرب القائمة في اليمن عبثية، حيث تقوم بعض الدول الأجنبية مُستغلة جهل ونزق بعض اليمنيين ، باستئجار جماعة يمنية هنا لقتل جماعة يمنية أخرى هناك من أجل أن تتمكن تلك الدول، عبر مرتزقتها، من بسط نفوذها وسيطرتها على اليمن، وتصفية حساباتها الإقليمية مع الدول الأخرى. *** إذن ينبغي أن تتوجه جهودنا صوب وقف الحرب ، وإنقاذ الشعب من الموت والمجاعة والمرض، وتعميم السلم الأهلي ، وطرد قوى الاحتلال ، وترميم الخراب الذي لحق بالمجتمع ، وتوعية الشعب بمخاطر الطائفية والجهوية والتعصب القبلي على النسيج الوطني، وأحياء الروابط الوطنية والإنسانية بين أبناء الشعب اليمني، وخلق مناخ مواتٍ للعمل السياسي السلمي ، وتعميق الوعي بحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية، وتشجيع الناس على التفكير العقلاني ، ونشر الثقافة الوطنية التقدمية ، وتعزيز الهوية الوطنية والانفتاح على الفكر الإنساني ، والتمسك بالعلم كأساس للنهضة الحضارية المنشودة ، والعمل من أجل استعادة المشروع التقدمي صوب انتصار "اليمن الديمقراطي الموحد" الذي تتحقق في ظله العدالة والمواطنة المتساوية والحرية والتقدم. *** خلاصة القول: إنَّ الشعوب المتقدمة والشعوب الفقيرة، التي تحوز على نخب وطنية مستنيرة، تفلح في تجاوز محنها، والنهوض من كبواتها، والانتصاب مجددًا واستئناف المسيرة الحضارية، ولكن الشعوب الفقيرة أو الغنية، التي تحوز على نخب متخلفة مشوهة الوعي مشغولة بمصالحها الذاتية يعوزها الولاء الوطني، تغرق في مصائبها وتبدع في خلق مصائب جديدة. فهل يمكن لشعبنا أن يتجاوز محنته، وينهض من عثراته التاريخية مثل الشعوب الأخرى التي حظيت بنخب وطنية مستنيرة؟ أجل، ولكن عليه أن يعي أولًا الحقيقة التاريخية التالية: وهي أنه لا يفلح قوم ولوا أمرهم جاهلًا، فما بالكم إذا كان الحاكم جاهلًا وخائنًا وسافلاً وقاتلا!
#منذر_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترى ماذا يريد الشعب اليمني؟ (2/2)
-
ترى ماذا يريد الشعب اليمني؟ (2/1)
-
يمن الأحزان ومبادرة السعودي الفرحان!
-
من أقترف الجريمة في مطار عدن؟ 3/3
-
من أقتَرفَ الجريمة في مطار عدن؟ 3/2
-
مَنْ أقترف الجريمة في مطار عدن؟ 3/1
-
فيروس كورونا والبعد الطبقي!
-
دونالد ترامب سقط!
-
في ذكرى الثورة اليمنية، هل نعلم وجهتننا؟ (2-2)
-
في ذكرى الثورة اليمنية هل نعلم وجهتننا؟ (1-2)
-
العرب والعلاقات مع دولة إسرائيل الصهيونية
-
ماذا جرى في الرياض بشأن اليمن؟
-
ما هي الأسئلة المهمة في زمن العدوان والجائحة ؟
-
الوحدة اليمنية والحلم المجهض!
-
تأملات في السياسة البريطانية عشية الخروج ( 4/4)
-
تأملات في السياسة البريطانية عشية الخروج (4/3)
-
تأملات في السياسة البريطانية عشية الخروج(4/2)
-
تأملات في السياسة البريطانية عشية الخروج(4/1)
-
تأملات حول ثورة 11 فبراير 2011 اليمنية المُجهضة!
-
فشلت اتفاقية الرياض بين اليمنيين وربحت القوى الإقليمية!
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|