أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ياسين النصير - العنف وتحطيط المدن















المزيد.....


العنف وتحطيط المدن


ياسين النصير

الحوار المتمدن-العدد: 1638 - 2006 / 8 / 10 - 10:35
المحور: المجتمع المدني
    


1
تشير الحقائق التاريخية إلى أن سوء تخطيط الأحياء الشعبية في المدن الكبيرة أحد أسباب ظاهرة العنف التي تشهدها المدن بعد كل تحول في حياتها السياسية، ونعني بالتخطيط تلك المظاهر العمرانية المستعجلة التي ترتبط بقرارسياسي دون الأخذ بالاعتبارحاجة المدينة الفعلية للتمدد والتطور. فالبئية العراقية خاصة في بغداد، مهدت بحكم السعة والانبساط، لأن يكون التعامل العمراني معها خاضعا لقرارات سياسية قبل ان تكون خاضعة لمتطلبات عمرانية حضرية. فكان التمدد العمراني افقيا وهو أمر يعطل التعليم والخدمات والصحة والأمن.وبالتالي يضعف دور الدولة في الهيمنة والسيطرة على أحياء المدن. إن أحد الأسباب التي جعلت بغداد متخمة بالسكان هو عشوائية التخطيط العمراني لأستيعاب الكثافة السكانية النازحة من مدن الجنوب والوسط والشمال، لتجد نفسها أنها في بحبوحة من فسحة المدينة وشوارعها قد اسهمت في تدمير بنية المدينة الحديثة بالرغم من الملايين التي تصرف على عمرانها. وكانت هذه المجموعات المهاجرة تعاني سابقا من ضيق وانحسار قاتلين عندما كانت محكومة بسيطرة الأقطاع والسراكيل في الجنوب والوسط،أو الأغوات والمشايخ في الشمال. اليوم تجد المجموعات المهاجرة نفسها بحرية يمكن ان تنتقل من الرصافة إلى الكرخ، وأن تتجول في الاسواق، وأن تشتري وتبيع وتسرق وتتبادل السلع، ويمكن لها ان تجتمع في بارات ومقاهي المدينة وأن تتحاور، وأن تغني اغاني الريف والبادية حيث اصبح المكرفون مباحا ليصدح باصوات الريف والبادية ومغنيهم، ويمكن أن يتبادلوا الحب مع عشيقاتهم في الشقق التي انشأت بفعل الرسمال العقاري المجمدأو أن يغازلوا فتاة وجدت هي الأخرى فسحة لان تتجول في شارع النهر وابي نواس والشورجة والمسبح، لترى البضائع والموديلات، ويمكن ان يجلس الرجل الكبيرعلى عتبة باب داره متلقيا تحيات المارة وهو يرى منبهراحركة المارة والسيارات، ويمكن للمرأة أن تغير طريقة تجهيز قوتها اليومي فتذهب لفرن الخباز وتأتي بالصمون أو الخبز مع فاكهة وخضروات شبه نظيفة، ويمكن ان يغير الرجل ملابسه ويغسلها ويجدد قهوته ويبدل بدلته وعقاله ويزور اصدقاءه في مناطق أخرى من بغداد، ليحكي عن العمران والرافعات التي تبني، وعن العمارة والشوراع وموديلات السيارات وانواع البضائع ،والكيفية التي يمكن ان يدخل بها السوق؛ بائعا، مشتريا، حمالا، وسيطا، دلالا، بائع للشاي، أو عرق السوس، متجولا ينادي على الزبائن، جالسا في بوابة بار أو مقهى، لاعبا الدومينو، مغامرا بما يملك، متفقا لسرقة دكان، أو اللعب على مغفل، دالفا الجامع أو الحسينية.أو بارا كتب على واجهته " يعيش الفلاح العراقي". كل هذه الامور وغيرها،توفرت لسكان المدن الضواحي، وهم يدورون في مدارات جديدة، ليس بمقدورهم بلوغها، لكنهم يستطيعون تسلق جدرانها والتأثير على من فيها بالصوت والحضور الكثيف والممارسة الحياتية التي تعبر عن ممتلكاتهم وقوتهم المادية. ومع هذا وذاك ثمة فنون نشأت، ومظاهر لكرنفالات جديدة ظهرت فيها من الأعياد أشكال، ومن التعازي اشكال،ومن اللهو أشكال. فتصبع احتفالية الاعراس طقسا جماهيريا يستمر لأيام، وعزاء الموتى طقسا جماهيريا يتقاطر عليه الناس من مختلف المناطق. ونشأت في خضم هذا التكوين عادات جديدة لم تكن متعارف عليها قبل اليوم، وبعثت عادات قديمة مندثرة،فالتخلف مفردة غنيةعندما يتهيا لها مناخا للنمو. فأصبح الثأردية والفصل طريقة، والابتعاد عن المحاكم والقضاء اسلوبا مألوفاً. وبعث من جديد قانون العشائر، واصبح المواطن يدين للدولة ولقانون العشيرة. وثمة توازن علني بين أن يكون المواطن منتميا لعشيرته ولحزبه ولمدينته في الوقت نفسه. ضمن هذا السياق لم تكن بغداد إلا وعاء كبيرا يحتوي هذا الكم من المتناقضات. فما أن يحدث حادث حتى يصطف هؤلاء كل حسب انتمائه، كي تلغى الوطنية، ويلغي الدين، وتصبح العشيرة/ الحزب هما الفيصل في الأمور.


2

الذين مهدوا لظهورنابليون الثالث 1851 هم الجند الفرنسيون " المفعمون بالسعادة والطاعة " الآتين من الأحياء الشعبية الفقيرة المحيطة بباريس، والذين قتلوا خمسة وعشرين ألفا من آهالي باريس في حزيران عام 1848.هؤلاء الذين ملأوا ساحات باريس كانوا يخربون العمران ويهدمون الأسوار ومظاهر التقدم، الصورة تتكرر في العنف الذي صاحب تحول ألمانيا حيث قتل اكثر من ستين ألف بعد دخول الحلفاء ولمدة خمس سنوات كي تستقر الطبقة الوسطى على شيء من الهدوء،لكن المدينة التي تنهب يوميا تستفيق في الصباح على رجال معصبين بيافطات حمر كما لو كانوا قراصنة. والامر ذاته يشخصه ماندلشتام في بطرسبورغ عام 1927 كيف أن الناس البسطاء " كانوا حطبا لأنفسهم ،حيث أن صعود الناس الثوري هو الذي مهد الطريق أمام أنحطاطهم الأخلاقي، لحظة امتلاكهم للسيادة يسارعون إلى تكرار وأحياء أحلك الفصول في سفر تاريخ السيادة" هم الناس انفسهم الذين تغنى بهم الشعراء العراقيون وهم يرفعون الرايات الحمر في أعياد العمال والشبيبة والمواكب الحسينية والمظاهرات الإيمانية في ساحات بغداد في اعوام مضت، هم الناس انفسهم الذين ذهبوا لجبهات القتال مع إيران والحلفاء في حربين متقاربتين وهم ينشدون الأناشيد الوطنية وخلفهم الفيلق الثقافي يتغنى ببطولات لاتقهر.هؤلاء الناس جاءوا من مدينة الثورة والشعلة والعامل والبياع وبغداد الجديدة والجهاد والشرطة الرابعة والخامسة والسادسة وحي الشعلة وحي الإسكان وحي الضباط والعسكريين ومدن أنشأت في اليوسيفية والمحمودية وهي تجاور مصانع التصنيع العسكري ومؤسسات الدولة الأمنية، وأحياء فقيرة أخرى في بغداد وضواحيها وجاءوا من مدن الوسط : النجف وكربلاء والسماوة والحلة والكوت وبعقوبة، وجاءوا من مدن الجنوب ذات الاكواخ القصبية والصفائح وذات الارض المنقوعة بالماء والطين: العمارة والناصرية والبصرة، وجاءوا من مدن الشمال ذات الأغلبية الكردية الفقيرة لتستقر في ضواحي بغداد وبعقوبة القريبة من إيران.. اليوم نشاهدهم هم أنفسهم وقد عصبوا رؤسهم ووجوههم بالعصابّة الحمراء أو السوداء، وشدوا على اذرعهم احرازا كتب فيها أدعية وهم يرددون الموت لأمريكا، في الوقت الذي كتبت عنهم أناشيد الثورة، ومن يمجد المقاومة الشريفة!! كي تقتلهم. أجل إن جل قصائد الشعراء الخصيان كما يقول البياتي كانت تستعير أسماءها من بين هؤلاء الفقراء.اية مفارقة تشهدها القصيدة الحديثة وهي تنعى حداثتها بعد مفارقة مؤلمة أن من كانوا بسطاء المدن وفقراءها يتحولون إلى رايات معصوبة وبنادق موجهة لصدور العراقيين وألسنة تستعير لغتها من إيران والزرقاويين والقاعدة.؟ اليوم تراهم يتقافزون أمامك ويتسابقون لتصويب المسدسات بوجهك إذا أتيت على ذكر المعممين المتعجلي الشهرة، هم أنفسهم " المفعمون بالسعادة الذين كانوا يتغنون للحزب والثورة" وهم يبلسون أكفانهم أو يفخخون أجسادهم كي ينتصروا لحزب الله، أو لحماس أو للزرقاويين، وليس للبنان أو فلسطين أو العراق ويتركوا الدماء العراقية تسيل، إن لم يسهموا في جريانها. على الطرف الآخر من العملية السياسية نجد إن من أنشأ الاحزاب الإسلامية يستفيد من قصور وعي العامة المهمشة في التطور عندما جعلوا منهم جيوشا للنهب والسرقة والتمرد والقتل، وكأنهم جند مهيأون لتدمير الحداثة حتى في أبسط صورها، ليبدوا لنا أنهم متناقضون مع أهدافهم ومواقعهم الفكرية بوصفهم أناسا بسطاء ينتمون للطبقات العاملة الفقيرة المستهدفة دائما من قبل البرجوازية والامبريالية. فالعصّابة الدينية تخفي تحتها أكواما من الجهل بقضية التحرر والتقدم، فهم ينسون أنهم كانوا دائما حطبا لحروب لا مصلحة لهم بها غير تاكيد عنجهية الطاغية أو تنفيذ إرادة معمم يطيع دولا أخرى. من هنا يبدو العنف الذي تبديه الطبقات الفقيرة جزء من ايديولوجية تمتهن كرامة الإنسان على حساب الإغتناء غير المبرر، فالمتتبع اليوم لما يجري يجد أن سوق العمل معطلا وإن حدث وتجمع الناس في المساطر طلبا للشغل المتقطع جاء من ينسفهم ويقتلهم. هي عملية مركبة تسعى إليها قوى توظف الأحياء الشعبية المتخلفة لأغراض تهديم اي تجربة حديثة، هؤلاء هم سكنة الأحياء الشعبية الفقيرة الذين كانوا دائما حطب النيران التي يشعلها القتلة من المتنفذين وأصحاب الأموال الذين يسوقونهم باسم القومية والدين والحزب والأموال- كشفت التحقيقات الكثيرة أن ثمن القتل خمسون دولارا للرأس الواحد!!. وسنرى عاقبة هؤلاء عندما يفيقون من إدمانهم على طاعة الأسياد دون الله،من أنهم كانوا هم لاغيرهم السبب في تعطيل عجلة التقدم التي هم أكثر المستفيدين منها، وهم لا غيرهم من اعطى بطاقة التصويت لقيادات تستثمر غباءهم الديني والمديني- السنة والشيعة معا- كي تجعل منهم رعاعا تستثمرهم كلما كانت هناك حاجة لوقف الحداثة ومشاريع التنمية وتقدم البلاد. سيفقه هؤلاء ولكن بعد حين، أنهم كانوا يطيعون اسيادا معلومين عندما عوضوا موتاهم بثمن في قادسية البغي والعهر،وهم أيضا يطيعون من يعوضهم بالجنة والخلد من قبل معممين غير قادرين حتى على قراءة صورة الكهف دون أخطاء. ومن يتمعن في هذه الحشود الغبية سيرى أنها مفعمة بالحماس المجاني، وأنها قادرة على تهديم كل تقدم ما دامت تطيع قانونا نشأ في مدن غير نظامية، وعمقته حياة غير منتظمة فرضتها طبيعة العمل المتقطع والسكن العادي المهدد بالتهديم والتخطيط غير المنضبط والخدمات المتقطعة والحياة اليومية القلقة، والثقافة التي ما فتأت تعتاش على التعازي وكرنفالات الأعراس والاغاني والهوسات الشعبية وأغاني البادية، التي تمجد الزائف لتنحرف عن اهدافها الوطنية..
ما حدث في بغداد منذ ثورة تموز 1958 هو كارثة حقيقة في توسع بغداد على حساب العمران المديني الواضح الخطط، الأمر الذي جعل سكان المدن الشعبية الملحقة في بغداد واحدة من معوقات قيام الحداثة في المدينة التي ما أن تبدأ مرحلة تجديد فيها حتى يتبدد العمران وتتلاشى الخطط مخلفة وراءها تخلفا مضافا للتخلف السابق، فتعيد بغداد إلى دائرة الصفر. ومن يستقرئ واقع سكنة المدن الشعبية المحيطة ببغداد يجد ان جل العسكر العراقيين هم من بينهم، وهو الأمر الذي سيخلق لاحقا بعد انهيارالجيش العراقي شريحة كبيرة معطلة عن العمل الامر الذي دفعهم لأن يكونوا في مواجهة وضع ليسوا هم سبب نشوئه، لكنهم حطبا له، يضاف إلى ذلك أن صدام حسين اطلق قبل يومين من 9 نيسان 2003سراح 104 ألف سجين غير سياسي وكلهم من المحكومين بجرائم السرقة والقتل وتم اطلاقهم في بغداد وجل هؤلاء من سكنة المدن الشعبية، الامر الذي فاقم وجود جيش العاطلين الذي يمتهن السرقة والتخريب، وفي الوقت نفسه يأمون الجوامع والحسينيات للصلاة والتجمع. فكانوا جميعا الجيش الاحتياطي المهيأ لسرقة اموال الدولة وتخريب الاقتصاد والعبث بامن المواطنين وهو أمر سنجد له تفصيلات لاحقة بعد ان بدات الدولة الجديدة بالتشكل، حيث اصطف معظم هؤلاء وراء قيادات دينية وسياسية سنية وشيعية، فوجودا أنفسهم متحولين من الهامش إلى المتن،ومن التسليح بالسكاكين إلى التسليح بالمدافع والرشاشات. وعندها بدأت عملية السرقة المنظمة والتخريب المتعمد.
3

ما حدث بعد 9 نيسان 2003 في بغداد وبقية المدن العراقية ونقلته فضائيات العالم كله من نهب وتدمير وسرقات عشوائية لمؤسسات الدولة العراقية والأسواق، يؤشر إلى أكثر من ظاهرة في المجتمع العراقي،اقلها ضعف الوعي المديني بالدولة، فالمدن الضواحي التي تعاني من الفقر والعطالة تجد في المؤسسات الواجهة التي تمتص حقدهم على الدولة التي ساقتهم للتجنيد بحجة الوطنية ودفنت الكثير منهم في مقابر جماعية وعطلت طموحاتهم في التعليم والدراسة والوظيفة وصيرتهم جنودا احتياطا مهيأين لاي بلاغ عسكري جديد. هؤلاء هم حطب الثورة التي انشأها عبد الكريم قاسم، واستثمرها صدام حسين في حروبه، واهملها الأمريكون في غزوهم. وما يحدث اليوم في عام 2006 في مرحلة ما بعد سقوط النظام من مظاهر السرقة والتهريب والفساد والعنف الطائفي والتكفيري، هو تكملة لما حدث سابقا إن لم يكن تأكيدا للسياسة نفسها التي مارسها البسطاء ضد مؤسسات الدولة وضد تقدمهم، ولكن بطريقة أكثر تنظيما هذه المرة.
كانت السلع والحاجات هي متنفس الغضب الجماهيري بعد 9 نيسان 2003،وكانت الأيدي والعربات الصغيرة وهي تجوب شوارع بغداد ملوحة وهاتفه أمام كاميرات التصويرمظهرا شعبيا لا يعترض عليه رجل الدين أو السياسي المسؤول،وبدا المنظر أمام الملايين كما لو كان كرنفالا مقبولا يؤسس لثقافة الغاء الحدود بين الملكيات مبررين ذلك بالحرمان وفقدان الأمان، وهو مظهر لايؤكده إلا سيادة العقلية القبلية القائمة على "التحويش". أما المتنفس الحالي للعنف فهو الإنسان نفسه.والفاعل في كلتا الحالين واحد هو شرائح معينة من المجتمع العراقي، كانت تسكن مدن الضواحي والأحياء الفقيرة حين وجدت نفسها جيشا لرجال تربوا في دول همهما اضعاف العراق وسرقة ثرواته تحت رايات ومسميات لاحد لأسمائها ومسمياتها. الأمران يصبان في تصورمعقد من الأسباب التي جعلت ظاهرة العنف والسرقة والقتل تصاحب التغييرات والتحولات الحديثة، ومن هذه الأسباب، وهي كثيرة، تخطيط المدن وهو أمر يسهم في العنف بل ويذكيه أحيانا عندما لا تتوفر سياقات تصميمية ناجعة لحلول مشكلات توافد السكان على بغداد ومراكز المدن فقد تحولت شرائح من فقراء المدن إلى السلطة وبدورها تمكنت من أن تقف على حقائق المال ومصادره، ومن يتتبع الأمر نجد أن تحولا دراماتيكيا جرى على فكرة النهب والسرقات،اعتمدته المناطق الفقيرة كجزء من بنية ديموغرافية منوعة لايربط بينها اي رابط سوى العشائرية، وهو الامر نفسه الذي جيش عددا كبيرا من هواة السرقة والقتل كي يقطعوا طرق بغداد عمان – سوريا ليسلبوا الناس ويقتلوا على الهوية ، وهو الأمر نفسه الذي جعل آلاف الآكراد يمتهنون بيع اعمدة الكهرباء والزجاج ويهربوها إلى ايران لقاء نقود سحت، وهو نفسه الذي جعل من يحمل الآن البنادق لحماية المسؤولين كي يتمكنوا من الاقتراب ولو للحظات من مراكز صرف النقود والمحسوبيات.
فبعد 9 نيسان 2003 كان النهب ينصب على المؤسسات الحكومية ومصانع القطاع العام، وخلال فترة الحاكم بريمر نهبت الجيوش المحتلة أموال وممتلكات العراق وتحفه وآثاره، وبعد أول تشكيل للوزارة انصب النهب في دوائر محدده هي الدوائر الأمنية والخدمات: الدفاع والداخلية والكهرباء والبلديات والنقل والمواصلات، في ثاني تشكيلة للوزارة انصب النهب على التهريب تهريب النفط بطريقة منظمة بمساعدة دول الجوار، تركيا وإيران، وفي زمن الوزارة الثالثة بدت مظاهر الفساد تأخذ طريقا ثالثا أكثر تنظيما ودراية بطرق النهب.وهو توظيف المليشيات في مؤسسات الدولة وحرمان من يستحق لتبرير السرقات ومنهجتها..

4
كانت الغاية من تأسيس مدن ضواحي لبغداد هو زيادة حشود الفقراء في مدينة تعتبر بالنسبة لهم خلاصا من مدن الفقر الريفية،هذه الحشود التي سكنت عشر مدن ضواحي اسسها المرحوم عبد الكريم قاسم، هي واحدة من الثورة الديموغرافية الكبيرة التي غيرت سياق حياة العراق إلى اليوم، حيث بدا من الصعب أن تهيمن على مليونين كما في أحصائيات الستينات ليصبحوا الآن اكثر من اربعة ملايين يسكنون المدن العشرين بعد أن اضاف صدام حسين عشر مدن اخرى ملحقة بالمدن السابقة، ومعظم سكنة المدن الجديدة من مناطق العراق الشمالية، الأمر الذي دفع الدولة العراقية إلى تحديد هوية سكان بغداد ممن كان مسجلا بسجلات عام 1975 واقتصر الأمر على سكنة مدن الوسط والجنوب بينما اباح لسكان مدن تكريت والرمادي والموصل وبعقوبة تحديا ان يسكنوا في اي بقعة من العراق استثناء. هذه الثورة السكانية تقابلها ضعفا بالخدمات لاستيعاب الحشود الهائلة. إن من ينظر في الثمانيات للأسواق المحيطة ببغداد، يجد أن اصحاب البسطيات والدكاكين الصغيرة قد غطت شوارع المدينة خاصة في الضواحي واصبح الناس المحتشدة في المقاهي والأسواق ظاهرة اجتماعية مبطنة العطالة، حيث أن التوجهات السياسية يومذاك كانت تضع العراقيل الكبيرة أمام تشغيل هذه الأيدي غير الماهرة وإذا ما اضفنا لهم زوارهم وأقاربهم ومن يستظل بهم نجد أن بطن بغداد انتفخت إلى حد أنها غير قادرة على تصريف فضلاتها.ومن يتقرى مدينة الثورة اليوم يجد أنها أهم مدينة في بغداد فالاسواق الكبيرة التي توسعت بعد غزو الكويت ومن بينها سوق مريدي يجد نفسه اليوم منافسا حقيقيا لأسواق بغداد التجارية الكبيرة؛ سوق الشورجة وأسواق جميلة واسواق الكرادة والمنصور. الأمر الذي بدأ تركيز التفجيرات والمفخخات الآن في هذه الأسواق لحساب تغييرها إلى أسواق المدن الضواحي، وهو ما يجعل السيطرة على السوق وحركة البضاعة صعبا كي تخضع لعوامل جديدة، هي عوامل هيمنة قطاعات طفيلية على تجارة المدينة واسواقها.
ثمة تصورات لدى العامة أن الدولة معادية لهم حتى لو كانت وطنية، وهو اعتقاد قديم ترسخ في الفكر الشيعي منذ مئات الأعوام بالرغم من أنهم مشاركون في الحكومات، والاعتقاد يؤسس أرضية وثقافة مغايرة للتقدم والحداثة وهو ما نشهده اليوم حيث التعقيدات تنصب أكثر على تعطيل الخدمات هذا الأمر يدفعنا للإعتقاد أن السنة كانوا هم عصب الدولة وهم قياداتها. يتبع هذه التصورات سوء التخطيط المديني الذي يجعلهم اكثر سعادة في ممارسة طقوسهم من الحياة المنظمة المرفهة. فثمة ترسيمة لا واعية أن الحياة غير المنضبطة تسهم في بعث التقاليد القديمة في حين أن التقدم والتحضر والمدنية تلغي تلك العادات وتصيرها نسيا منسيا. فقد ارتبط في ثقافة الناس أن الأحياء الجديدة هي لرجالات الدولة والمسؤولين وهو أمر واقع بالفعل وتؤكده الخدمات الكثيرة التي توفر الراحة لهؤلاء المسؤولين وهو الأمر الذي يؤسس ثقافة مضادة ليس من السهل الغائها او تجاوزها، لا سيما وان سوء التخطيط يفرض نوعا من التمايز بين الثقافات.
بالطبع لم تكن غاية الزعيم عبد الكريم قاسم غير أن يدخل جزء من السعادة الريفية على قلوب الملايين، وهو الأمر الذي كان يقضي الكثير من اوقاته بينهم. فقد كان هو الآخر جزء من هذه الفئات المسحوقة، لكنه وهو يستقدمهم للسكن في المدن الجديدة اعاد تكوين بنية العشيرة ثانية وبطريقة أكثر تقدما من بنيتها الريفية، فمن الواضح أن عشائر كاملة اسست لها امتدادات في المدن الضواحي لبغداد، الأمر الذي جعل الريف يمتد في المدينة بينما تتقلص المدينة من التحضر والحداثة.. وعلى مستوى العمران المديني لم يكن بمقدوره ان يسكنهم في عمارات أو بيوت حديثة،فامكانيات الدولة عام 1959 لم تكن كبيرة، في حين كان يصرف لثورة الجزائر ستة ملايين دينار عراقي سنويا. بل جعل لهم ارضا صغيرة يبنون عليها أكواخهم أول الأمر، ثم ترك مهمة تنظيم الخدمات والشوارع لمؤسسات الدولة التي بقت أكثر من عشرين سنة غير منتظمة، بل أن شوارع هذه المدن ملئية بالماء والأطيان. وفي هذه الفترة وجد الحزب الشيوعي العراقي امتداد له بين فقراء المدن الضواحي وكانت الثورة معقلا للحزب ولعبد الكريم قاسم، لكن مدينة الثورة وفي أول هبه بعثية شباط 1963على الزعيم عبد الكريم قاسم وعلى الحزب الشيوعي العراقي لم ترفع عقيرتها لتسقط نظام البعث. مما يعني أن التنظيمات السياسية لم تكن ذات بنية راسخة في وعي هؤلاء الفقراء الذين يسكنون الضواحي لسبب جوهري واساسي أن بيوتهم الهشة البناء عرضة للإنهيار، ومساطر اعمالهم غير مستقرة، وحركة البناء تتركز في مؤسسات الدولة، وانعدام الخدمات الصحية والحياتية في أحيائهم. ويلتفت صدام حسين لمدينة الثورة عام 1980بالذات ويعيد تنظيمها شريطة ان تحمل إسمه، وفي هذه المرة جرى تنظيم فعلي للمدينة فأسست المجاري، واسست الخدمات، إلى جوار أن فتحت الفرق الحزبية أوكارها، وجرى تجميع الكوادر الشابة في تنظيمات حزب البعث. وحددت خطب الجوامع، وبنيت مؤسسات عسكرية للشرطة في داخل الأحياء، واطرت المدينة بموانع ونقاط تفتيش. لكن الناس انفسهم لم يكونوا على قدر من التنظيم بعد، الأمر الذي جعلهم عرضة للأضطهاد والقتل والتهجير والسوق للخدمة العسكرية، الأمر الذي جعل التنظيمات الدينية تؤسس ارضية خصبة لنشر أفكارها لاسيما وانها كلها تدين بالفكر الشيعي وتنظيم أحزاب الاسلام السياسي خاصة في مرحلة صعود المرجعيات الدينية وتصفيتها من قبل النظام الفاشي ، فوجد الكثير من سكنة هذه المناطق انفسهم ضمن توجهات دينية/ بعثية الأمر الذي اسهم في تقليل الخدمات إن لم يكن أنعدامها وهو الأمر نفسه الذي جعلهم عرضة لأن يكونوا حطبا للحروب. فزيادة الغضب الجماهيري عندهم كان ينبع من اساسين: مادي حيث الفقر يلازم مدنهم التي لم ترق إلى مستوى اي ضاحية من ضواحي مدن عراقية اخرى، و فكري حيث التبليغات الدينية تحاكي قهرا مستترا في عقولهم وثقافتهم يمتد من كربلاء حتى اليوم، مما سهل الأمر لأن يكونوا أعداء لكل تغيير حتى لو كان في صالحهم.



#ياسين_النصير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطائفية مصطلح بغيض
- مرايا المقهى
- الثقافة والمرحلة العراقية
- الصين وافق الحداثة في العراق
- سوق هرج
- الرؤى السردية
- كتاب شعرية الماء
- حوار مع الدكتور كاظم الحبيب
- عن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
- مكونات الطبقة الوسطى العراق نموذجاً
- قراءة في رواية الضالان
- أدباء عراقيون - الشاعر سعدي يوسف
- أدباء عراقيون -ابو كاطع: شمران الياسري
- أدباء عراقيون- غائب طعمة فرمان


المزيد.....




- مسئول أمريكي سابق: 100 ألف شخص تعرضوا للإخفاء والتعذيب حتى ا ...
- تواصل عمليات الإغاثة في مايوت التي دمرها الإعصار -شيدو- وماك ...
- تسنيم: اعتقال ايرانيين اثنين في اميركا وايطاليا بتهمة نقل تق ...
- زاخاروفا: رد فعل الأمم المتحدة على مقتل كيريلوف دليل على الف ...
- بالأرقام.. حجم خسارة ألمانيا حال إعادة اللاجئين السوريين لبل ...
- الدفاع الأمريكية تعلن إطلاق سراح سجين كيني من معتقل غوانتانا ...
- دراسة: الاقتصاد الألماني يواجه آثارا سلبية بإعادة اللاجئين ا ...
- الأمن الروسي يعلن اعتقال منفذ عملية اغتيال كيريلوف
- دراسة: إعادة اللاجئين السوريين قد تضر باقتصاد ألمانيا
- إطلاق سراح سجين كيني من معتقل غوانتانامو الأميركي


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ياسين النصير - العنف وتحطيط المدن