|
13ساعة أجازة من حرب لبنان.. فى -مصيف- أسيوط
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1637 - 2006 / 8 / 9 - 10:25
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
قررت أن أعطى نفسى أجازة من عذاب المتابعة المتواصلة، ثانية بثانية، لوقائع العدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان، أو بالأحرى "العدوان الثلاثى" الثانى الذى تشنه إسرائيل على دولة عربية شقيقة بالدعم السياسى والعسكرى الأمريكى المباشر وتواطؤ النظام العربى الرسمى. لكنى لم ذهب فى هذه الإجازة العارضة إلى الساحل الشمالى، حيث الماء والخضرة والوجه الحسن، وإنما شددت الرحال فى ذروة قيظ أغسطس إلى أسيوط عاصمة صعيد مصر التى يبلغ متوسط درجة الحرارة فيها هذه الأيام 44 درجة مئوية بأرقام هيئة الأرصاد الرسمية التى لا تختلف كثيرا عن أرقام وبيانات وتصريحات النظام العربى الرسمى المضللة. أما لماذا أسيوط بالذات فى هذا التوقيت غير الملائم، سواء بمعايير مناخ السياسة أو مناخ الطبيعة، فلأنني كنت قد تلقيت دعوة قبل نشوب الحرب الأخيرة لحضور اجتماع تحضيرى لمؤتمر عن الحرف التقليدية، ووعدت الفنان التشكيلى الكبير عز الدين نجيب بأننى سألبى هذه الدعوة التى تتعلق بأحد القضايا التى كرس لها سنوات مديدة من عمره وطاقته الإبداعية. ولم يكن الحرج من عز الدين نجيب هو السبب الوحيد لعدم الاعتذار عن الحضور، بل كانت هناك أسباب أخرى، منها اهتمامى بهذا التراث الحى المهدد بالانقراض رغم أهمية الاقتصادية والاجتماعية والفنية ناهيك عن أن الحفاظ عليه مرتبط أيضا، واساسا، بالحفاظ على الهوية الوطنية فى مواجهة تحديات العولمة، ومنها أيضا حاجتى النفسية لأخذ إجازة من توتر الانغماس فى التفاصيل المروعة لاكثر من 27 يوما من حرب ضروس تجاوزت فيها إسرائيل كل الخطوط الحمراء والأعراف والقواعد القانونية والأخلاقية والإنسانية. وصلت إلى أسيوط الساعة الواحدة، أى فى عز الظهر وذروة الحر الذى يصهر الحديد، ومن المحطة أخذونى الى الاجتماع مباشرة. أدار النقاش الفنان التشكيلى الاسيوطى سعد زغلول - الذى هو أيضا صاحب تجربة متميزة فى إنقاذ إحدى الحرف التقليدية من الانقراض هى فن التللى – وشارك فيه من القاهرة عز الدين نجيب رئيس جمعية أصالة لحماية الحرف التقليدية والدكتور حمدى عبد الله عميد كلية التربية الفنية بالزمالك الأسبق ورئيس قطاع الفنون التشكيلية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، ومن أسيوط محمد جلال فارس المدير الإقليمي للصندوق الاجتماعي للتنمية بأسيوط، وعبد الله عبد الحميد مدير مركز تنمية الأعمال بالوجه القبلى ( مركز تحديث الصناعة)، وعلى حمزة عبد الكريم نائب رئيس جمعية المستثمرين بأسيوط، ومختار عيد عبد العزيز أمين عام جمعية المستثمرين، وحمدى عبد اللطيف مدير عام الثقافة باسيوط. لم أندهش فقط من "تعددية" و"تكاملية" الحاضرين الذين يمثلون الجهات المعنية بالموضوع :حكومة وقطاع خاص، صناعة وثقافة، تمويل وادارة ، تراث وتحديث.. بل اندهشت أكثر من جدول الأعمال الذى جاء فيه بالنص: 1- إنشاء مركز لأبحاث وتطوير الحرف التقليدية. 2- إقامة آلية مشروعات صغيرة للحرف التقليدية. 3- إقامة مدينة حرفية تضم تلك المشروعات. 4- إقامة معرض دائم للمنتجات التقليدية. 5- إقامة سمبوزيوم الحرف التقليدية "دوليا"! 6- آلية للتنسيق بين جميع الأطراف. 7- إقامة معرض بقصر الثقافة مصاحب للمؤتمر. قلت بينى وبين نفسى .. هؤلاء الصعايدة الطيبون لا يعرفون جبروت البيروقراطية القادرة على ايقاف المراكب السايرة وتحويل الأحلام الوردية إلى كوابيس مزعجة! لكن دهشتى الأكبر كانت فى لقائنا – الذى أعقب هذا الاجتماع التحضيرى – مع محافظ أسيوط اللواء نبيل العزبى. معلوماتى عن "العزبى" أن كل تاريخه السابق قبل تبوئه منصب المحافظ كان فى سلك البوليس، وأن آخر منصب شغله قبل ان يصبح محافظا كان منصب مدير أمن القاهرة، الذى كانت إحدى واجباته التعامل الأمنى بشتى الصور مع مظاهرات الأحزاب وحركة كفاية وغيرها. لكنى وجدت نبيل العزبى المحافظ شخصا مختلفا تماما .. يتحدث عن التنمية بحماس ويعتبرها التحدى الأول، وأن الإخفاق فى تحقيقها بالصورة الواجبة هو السبب الأول للتطرف والإرهاب والجريمة المنظمة والعشوائية على حد سواء. ويعترف بان أسيوط محافظة فقيرة، وتقف حاليا فى الذيل، حيث تحتل الترتيب الرابع والعشرين على قائمة محافظات مصر. ويدرك أن هذا الفقر الاقتصادى لمحافظته يتناقض مع تاريخها الحضارى. ومن الفجوة الهائلة بين بؤس الاقتصاد وثراء التاريخ يدخل نبيل العزبى الى موضوع الحرف التقليدية بعين بصيرة ووعى مدهش وحماس فوق العادة. ووعد بكلمات بالغة الوضوح بأنه سيدعم مبادرة تحويل أسيوط إلى مركز "عالمى" للحفاظ على التراث الحى وإحياء الحرف التقليدية التى كانت لهذه المحافظة المظلومة تاريخا ذهبيا فى إبداعها وازدهارها فى عهود غابرة.. يجب أن تعود محملة بعبق التاريخ وموصولة مع مستجدات عصر ثورة المعلومات وقادرة على مواجهة تحديات وعواصف وأعاصير العولمة. ولم يكتف نبيل العزبى بإطلاق الوعود، بل "قرر" على الفور تخصيص قطعة أرض مساحتها ثمانية أفدنة على طريق درنكه، فى حضن الجبل، كى تقام عليها مدينة للحرف التقليدية. ومع أننى لست من هواة كيل المديح للمحافظين والوزراء فقد وجدت نفسى أحيى هذا المحافظ، خاصة وأننى كنت أعتقد أن أفضل خبراته لا تتجاوز مطاردة المتظاهرين، والنظر الى كل الأمور من منظار الأمن، فاذا به يفاجئنا بنظرة مغايرة خلاصتها أن "التنمية هى الحل"، حتى لمشاكل الأمن، وان التنمية فى محافظة فقيرة مثل اسيوط تحتاج إلى مداخل غير تقليدية، فى مقدمتها إحياء الحرف التقليدية، وتحويل هذه المحافظة "الطاردة" لسكانها وأهلها إلى نقطة "جاذبة" لكل محبى الفنون والحرف التقليدية فى سائر أنحاء العالم، بما يعنيه ذلك أيضا من تحويل مدينة كانت حتى الأمس القريب مصنعا للإرهابيين ومفرخة للتطرف ومزرعة للتعصب والتزمت إلى منارة إشعاع حضارى عالمية. وطالما أن محافظ أسيوط وجد فى استثمار التاريخ، باعتباره الكتاب الذى تركت الفنون والحرف التقليدية بصماتها على بعض صفحاته القديمة، حلا غير تقليدى لمشاكل وتحديات التنمية فى هذه المنطقة الفقيرة.. فإنني اقترحت عليه استثمارا ثانيا فى التاريخ، هو تسليط الأضواء على تلك البقاع من محافظة أسيوط التى أقام فيها السيد المسيح أثناء رحلة هرب الأسرة المقدسة الى مصر، من أجل جذب الاستثمارات السياحية اللازمة لاقامة المرافق والخدمات وشتى مستلزمات البنية التحتية، والفوقية، اللازمة لتحويل هذه المنطقة المحرومة إلى مزار عالمى لملايين المسيحيين من شتى أنحاء العالم يتسابقون للحج إليه، خاصة وأن السائح الذى يرغب فى زيارة هذه المناطق التى لجأت إليها العائلة المقدسة سيجد عوامل إضافية مشجعة، من بينها قرب مقاصد مهمة للسياحة الثقافية فى الأقصر المتاخمة وغيرها الكثير من مواقع الآثار المصرية القديمة. كما اقترحت عليه الاستثمار فى "المستقبل"، بالإضافة إلى الاستثمار فى "التاريخ"، من خلال طرح برنامج متكامل لجعل أسيوط وادى سيلكون مصرى، على غرار "بنجالور" الهندية التى أصبحت قلعة لصناعة البرمجيات تصدر للعالم بمليارات الدولارات، بعد أن كانت فى الأصل بلدة فقيرة، أشد بؤسا من أسيوط، ويقوم أبناؤها اليوم بإبداع البرمجيات تحت بير السلم!! كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا، موعد القطار الذى سيقلنى الى القاهرة بعد 13 ساعة اجازة من عذاب متابعة وقائع العدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين، وأخذني الفنان سعد زغلول بالسيارة فى جولة خاطفة بالمدينة – برفقة عز الدين نجيب وحمدى عبد الله .. ولاحظت المجهودات المحمومة المبذولة لاعادة النظافة ولمسة الجمال لهذه المدينة التى لطخ الإرهابيون شوارعها منذ سنوات معدودات بدماء الأبرياء، وغطوا البلاد والعباد بسواد التزمت والتعصب والكراهية. ووضعت يدى على قلبى عندما سمعت أثناء عودتى الى محطة القطار ان الدكتور أيمن الظواهرى، الذى ترك مهنة الطب وتخلى عن وظيفته ملاك الرحمة ليتقمص دور ملاك الموت وقابض الأرواح ، وقد أعلن أن بعض زعماء تنظيم الجهاد المصرى قد انضموا إلى تنظيم "القاعدة". إذن .. شبح الإرهاب يخيم على رءوسنا من جديد.. وبقوة. ونرجو ألا نكون مضطرين للعودة إلى المربع رقم واحد والتذكير بأنه ليس بالأسلوب الأمنى فقط، أو باستنزال اللعنات على هذا السرطان فحسب.. يمكن التصدى لهذه الموجة الجديدة المتوقعة من الارهاب.. وإنما سيكون ذلك ممكنا بسياسات حكيمة وجادة .. من بينها مبادرة تحويل أسيوط الى مركز إشعاع عالمى للحفاظ على الفنون والحرف التقليدية ، جنبا الى جنب مع مبادرات التسلح بثقافة التنوير والتسامح وتعزيز الوحدة الوطنية حتى لا تسقط عاصمة الصعيد - مرة أخرى – فى قبضة الظلاميين.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-العدوان الثلاثى- الثانى .. والصمت العربى المزمن
-
القاع
-
شافيز .. أكثر عروبة من العرب
-
مجزرة قانا: أكثر من نذالة أخلاقية .. وأقل من استراتيجية ذكية
-
لعنة قانا
-
مذبحة قانا فى ماسبيرو
-
صورة حية من العراق إلى المعجبين بالديموقراطية تحت سنابك الاح
...
-
مقاومة العدوان الإسرائيلي أولى بالرعاية من -كاترينا
-
نصف قرن علي تأميم قناة السويس
-
مأزق المراهنين على قراءة نعى المقاومة
-
حكومة .. هوايتها زيادة نكد المواطنين
-
إسرائيليون.. أفضل من المارينز العرب
-
العراقيون يختلفون فى القاهرة على كل شئ.. ويتفقون على طلاق أم
...
-
الطابور الخامس
-
مقاومة المقاومة!!
-
حسن نصر الله يستحق اللوم
-
-المغامرة - الإسرائيلية الجديدة.. تحلم بنهاية التاريخ وامتلا
...
-
يفضلونها -جارية- .. ونريدها -صاحبة جلالة-
-
من حق الجماعة الصحفية أن تفرح.. وأن تواصل مسيرة الأحلام
-
المساعدات الأمريكية تنتهى عام 2009 .. فما هو البديل .. وهل ق
...
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|