|
سورية والأزمة اللبنانية: حصيلة عامة أولية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1637 - 2006 / 8 / 9 - 10:31
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا يكاد ينقضي يوم دون أن يؤكد مسؤولون إسرائيليون، عسكريون وسياسيون، أنه لا نية لديهم لشن الحرب على سوريا، أو تصعيد المواجهة الجارية في لبنان بفتح جبهة ضدها. ليس ثمة ما يسوغ الثقة بالإعلانات الإسرائيلية، بل إن تواترها شبه اليومي يحث المرء على الارتياب في مقاصدها، إن لم نقل الإيمان بعكسها. ورغم أن "الدليل العقلي"، أي انتفاء مصلحة إسرائيل في توسيع رقعة الصراع بينما هي لم تحقق ما كانت تأمله من نجاح في الحيز اللبناني، وفي اجتناب ما قد يتسبب في طرح قضية الجولان على الأجندة الإقليمية والدولية، الدليل المزدوج هذا ينزع إلى دعم صحة الإعلانات الإسرائيلية، إلا أن التعويل على عقلانية السلوك الإسرائيلي ليس من السداد في شيء، بالخصوص لكون إدارة بوش، وهي من هي في مجال العقلانية، شريكة في كل وجوه الحرب هذه. والحال، قد يكون توسيع دائرة المواجهة مخرجا من إخفاق محتمل في الحيز اللبناني. والعكس محتمل ايضا. فقد تفضل الحكومة الإسرائيلية مجابهة سورية، وإن بطريقة مختلفة عن مواجهة لبنان (توسل الإرهاب والعمليات السرية، ضرب مرافق عسكرية أساسية..) بعد الانتهاء من الطور اللبناني، إن سجلت نجاحا مهما فيه. وفي الحالة هذه، يكون غرض إعلاناتها المسالمة تخدير أعصاب الحكم السوري كيلا يشوش عليها مخططاتها باكرا. هذا كله يدور في فلك التخمينات، لا يتعداها. فإذا استند المتابع على الوقائع القابلة للملاحظة وحدها، تبدى له أن السلطات السورية أضحت في موقع أقوى مما كانت منذ صدور القرار 1559 في خريف 2004، وربما منذ الاحتلال الأميركي للعراق في ربيع 2003. في المقام الأول، يبدو زمن ما بعد اغتيال الرئيس الحريري، وما شهده من انسحاب القوات السورية من لبنان والتحقيق الدولي وفكرة المحكمة الدولية..، موغلا في القدم. فمنذ 12 تموز دخل لبنان، وبالمعية دخلت سوريا، زمنا مختلفا تماما، أخذ ينعكس على الاستقطابات والتحالفات اللبنانية، الداخلية والإقليمية والدولية، محدثا تبدلا فيها قد يكون طويل الأمد. لقد تحول "التناقض الرئيسي" في لبنان من مواجهة النظام السوري وهيمنته إلى مواجهة الحرب الإسرائيلية، وتكونت حول التناقض الأخير أكثرية جديدة، قد تزداد رسوخا بقدر ما تتمادى إسرائيل في وحشيتها ويطول أمد حربها. في الزمن الأول كان النظام السوري في موقع دفاعي متفاوت الحرج، لكنه كان دوما في موضع المشتبه فيه والمستهدف بقرارات دولية، وموضع مراقبة وتسليط كثيف للضوء على سلوكه الإقليمي، وبدرجة أقل الداخلي. اليوم الانتباه كله مسلط على ما يجري في لبنان، والتحالف المناهض لنظام الرئيس بشار الأسد منشغل بأمر مختلف تماما. وبينما كان النظام في زمن ما بعد اغتيال الحريري هو المشكلة، وليس جزءا منها فحسب، فإنه يبدو في ظل الوضع المستجد جزءا من الحل، إن لم يكن الحل كله. في المقام الثاني، تغير الزمن الداخلي السوري. سجلت قضية الديمقراطية حضورا ثابتا في السنوات الست المنقضية، وبرزت معارضة سورية ناشطة بدرجة معقولة، بلغت أعلى ذراها في خريف العام الماضي مع صدور إعلان دمشق. ورغم أن النظام كان دشن منذ الربيع الماضي جهدا منظما لتفكيك الحركة الديمقراطية تمثل في اعتقالات، وفصل من العمل، ومنع من السفر، وأشكال مختلفة من التضييق على النشاط العام المستقل والمعارض، إلا أن الحرب في الجوار اللبناني أعادت هيكلة أجندة العمل العام في البلاد، فدفعت القضية الديمقراطية إلى الوراء، و"المسألة الوطنية" إلى الأمام. وأخذ معارضون كثيرون يعودون إلى تسويغ مطالبهم الديمقراطية بمردودها المحتمل على مستوى الصمود والتماسك الوطني، وهي ممارسة إيديولوجية بدا أن الحركة الديمقراطية تجاوزتها، بعد احتلال العراق بالخصوص. إلى ذلك، كشف تفاعل السوريين مع الحرب عن عمق عدائهم لإسرائيل، وعن أنهم يتوحدون حول هذا العداء، متجاوزين انقسامات دينية وطائفية، قلما يتجاوزونها بصدد أي شيء آخر. ويزكي هذا المناخ روح الإجماع والاستنفار والتعبئة التي تضعف أية مطالب ديمقراطية محتملة، والتي توفر على النظام عبء صنع الخطر الداهم الذي لا بد من "الوحدة الوطنية" لمواجهته. في المقام الثالث، تتحول سوريا إلى موقع تقاطع افتراضي للمبادرات والخطط السياسية لتسوية ما بعد الحرب أو لتقصير أمد الحرب ذاتها. موقع افتراضي لأن صوت دعوات من الأمم المتحدة ومن أطراف أوربية ومعلقين ومراكز أبحاث أميركية أخذ يعلو داعيا إلى دور سوري في ضبط حزب الله أو نزع سلاحه وتهدئة الأوضاع على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. لم يدع أحد، ومن غير المرجح أن يدعو احد، إلى عودة القوات السورية إلى لبنان، لكن تكرر الدعوات هذه يعادل اعترافا متأخرا بـ"خطأ" الانسحاب السوري منه في نيسان من العام الماضي، وهو الانسحاب الذي ما زال رضته طرية لم تتقادم، ولم يغفرها أهل الحكم في سوريا. ما يحول دون تحول الموقع الافتراضي إلى ملتقى فعلي للمبادرات السياسية هو أن الأميركيين، الطرف الدولي الفاعل وصاحب الكلمة العليا في الحرب هذه وفي الترتيبات السياسية التي قد تتلوها، ما زالوا يراهنون على الذراع العسكري لإسرائيل في سحق حزب الله وفتح الباب أمام تسوية الملفات السورية والإيرانية والفلسطينية وفقا لما يناسب الأميركيين والإسرائيليين. لا تمنع الصفة الافتراضية أن الحكم السوري يستفيد منذ الآن من أشياء متناقضة: من شرط الحرب بحد ذاته لكونه يذكر بالزمن السوري في لبنان، أيام كان يتعذر فيه وقوع انفجار على هذه النطاق؛ ومن رغبة بعض الأطراف الإقليمية والدولية في انتهاء الحرب سريعا، وهي تضعه عند تقاطع طرق المبادرات الدبلوماسية والخطط السياسية المحتملة لإنهائها؛ وكذلك من المناخات النفسية والإعلامية المواكبة للحرب، طالما هي لا تمتد إلى سوريا، وطالما أن حزب الله يبلي فيها بلاء عسكريا حسنا. بعبارة أخرى، سوريا كفيل محتمل لوقف مستدام لحالة الحرب ومنع تجددها، ووسيط محتمل في إنهاء جولة الحرب هذه، وحليف للمحارب اللبناني. وهي تجني في الأحوال جميعا مكسبا ما كان في البال قبل شهور. غير أن هذه كلها تقديرات مشروطة إلى حد قد يحكم بأن يبقى الموقع الافتراضي افتراضيا. وشرطها الأساس هو أن يحتفظ حزب الله بقدرة معقولة على التحكم في مسار التطورات على المستويين العسكري والسياسي، أي أن لا تضعف قدرته على توجيه الضربات لإسرائيل، وأن يبقى المستوى الحالي من التفاهم السياسي اللبناني قائما. فهذا وحده هو ما قد يدفع الأميركيين إلى التماس تفعيل الموقع السوري، وما يمهد لدور سوري جديد في لبنان، وإن بوسائل مختلفة. وإنها لمفارقة ساخرة أن الدور السوري في لبنان بات محمولا على تقليص المسافة بين خصومها السياسيين وحزب الله، وأن إسرائيل قد تكون "صاحبة الفضل" في إعادة دور ضابط للحياة السياسية اللبنانية. قد يرى أن التطورات الموصوفة هنا ظرفية ومؤقتة. لكن في "الشرق الأوسط"، في سوريا بخاصة، "لا شيء يدوم أكثر من المؤقت". أيا يكن، سيكون مشهد ما بعد الحرب الإسرائيلية اللبنانية مختلفا كثيرا. وملفات ما قبل 12 تموز التي قد يعاد فتحها، ستفتح في شروط مختلفة، والأرجح لتحقيق أغراض مختلفة أيضا. 1/8/2006
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انتصار الدولة والمقاومة في لبنان ممكن!
-
أهل بيت الموت!
-
مصلحة لبنان والعرب منع هزيمة حزب الله
-
بالمقلوب: متطرفون عموميون ومعتدلون خواص!
-
حرب ضد لبنان: استراتيجية ممتنعة وعدالة غائبة
-
أقنعة النظام الشرق أوسطي المتعددة
-
عن الأمن المطلق والمقاومة المطلقة وزيغ الحداثة
-
محنة المثقفين السوريين بين أهل التخوين وأهل الاعتقال
-
بين ليبراليتين في سوريا: -ليبرالية موضوعية- بلا وعي ذاتي، و-
...
-
في صدد خصائص ثلاثة لليبرالية الجديدة العربية
-
الليبرالية والديمقراطية والحداثة السياسية
-
في أن الغرب طائفي، وأن موقع العقل الكوني شاغر
-
إطلاق سراح الماضي لقطع الطريق على ثمانينات جديدة...
-
احتلال الجولان وانتقاص مقومات الوطنية السورية
-
تحت ظلال العار..!
-
ميشيل كيلو وولادة المثقف السوري
-
من -العروبة أولا- و-سوريا أولا- إلى الوطنية الدستورية
-
-انغماس في العيب- حقاً!
-
أوربا ومخاطر انفجار قيامي للشرق الأوسط
-
خارج السلطة: تحول موقع الماركسية الثقافي
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|