|
تاريخ الدين: المسيحية
مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)
الحوار المتمدن-العدد: 6932 - 2021 / 6 / 18 - 14:05
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الكاتب: سيرجي الكساندروفيتش توكاريف
ترجمة مالك أبوعليا
الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم
وضع مؤسسو الماركسية الديانات العالمية الثلاثة-البوذية والمسيحية والاسلام- في مواجهة الأديان القديمة التي كانت ولا تزال ديانات قبَلية وقومية. ان الفرق بين هاتين المجموعتين كبير. كانت الديانات العالمية ظاهرة متأخرة نسبياً ومُحتلفة تماماً في تاريخ الدين: كانت هذه هي المرة الأولى التي يتطور فيها ارتباط ديني بين الشعوب منفصل تماماً عن الروابط العرقية واللغوية والسياسية. بدأ الناس يتحدون كأعضاء في دينٍ واحد، بغض النظر عن مكان ولادتهم أو اللغة التي يتحدثون بها أو البلد الذي يعيشون فيه. لقد نشأت الأديان العالمية وانتشرت كُلٌ على حدا بفعل مجموعةٍ فريدةٍ من العوامل التاريخية. ان الديانة العالمية الثانية التي نشأت بعد البوذية هي المسيحية حيث ارتبط تاريخها ارتباطاً وثيقاً بتاريخ أوروبا في المقام الأول، ومن ثم ارتبطت، في وقتٍ لاحق، مع العديد من البلدان غير الأوروبية. المسيحية اليوم هي الدين الأكثر انتشاراً في العالم (بشكلٍ رئيسي في أوروبا والأمريكيتين). لكن المسيحية مُقسمة الى عددٍ من الطوائف والكنائس المُعادية لبعضها البعض في أغلب الحالات. ان أصعب مسألة في تاريخ المسيحية هي مسألة أصل الدين نفسه. لقد كانت هذه المسألة موضوع مناقشةٍ مُستمرة. يُمثّل الأدب البرجوازي حول أصل المسيحية اتجاهين رئيسيين: أحدهما يقول أن المسيحية أسسها يسوع المسيح الذي من المُفترض أنه عاش في أرض اليهود خلال حكم الامبراطور الروماني اوغسطس وتيبيريوس (أوائل القرن الأول). لقد بشّرَ بتعاليمه، والتي استكملها وبشّر بها تلاميذه ورُسله اللاحقون. ان هذا رأي كُنسي صرف، لكن تم طرحه بشكل "علمي" أكثر اعتدالاً في الأدب التاريخي البرجوازي. ساهمت مدرسة توبنغن Tubingen البروتستانتية للبحث الانجيلي كثيراً في نقد الأناجيل. لقد أزالت العناصر الخيالية الواضحة في نصوص الانجيل مثل المعجزات والتناقضات. ومع ذلك، حاول أتباع توبنغن الحفاظ على الجوهر التاريخي المُفتَرض في قصص الانجيل حتى لا يُقوضوا سلطة الدين. زعموا أن قصص الأناجيل تستند الى أحداث تاريخية حقيقية تتعلق باليسوع الواعظ. الاتجاه الآخر في دراسة المسيحية المُبكرة يُمكن أن يُسمى الاتجاه البرجوازي المناهض لرجال الدين، وهو اتجاه مُنبثق من أدب التنوير في القرن الثامن عشر, اعتبر أتباع هذه المدرسة جميع صور الآلهة والأبطال على أنها تجسيدات اسطورية كونية. هذه هي الطريقة التي قالوا بها أن اليسوع هو اله الشمس أيضاً. في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أُجرِيَت دراسات مُحسنّة عن أديان العالم القديم بعباداتها لآلهة الطبيعة العظيمة، وآلهة الحياة النباتية والحيوانية، بدأ العلماء ذوي التفكير الحر في رؤية العديد من أوجه التشابه بين المسيحية والعبادات الشرقية القديمة. وخَلصوا الى أن صورة يسوع كانت عبارة عن مزيجٍ من الآلهة الشرقية القديمة- أوزوريس وميثرا وديونيسوس وآلهة أُخرى، والى حدٍ ما، أنبياء يهود قُدامى، رأى هؤلاء العلماء فيهم عناصر اسطورية فلكية. ومن هنا كان استنتاجهم، أنه لا يوجد شيء أصيل في المسيحية، وأنها مُجرّد تكرار للأساطير الفلكية اليهودية القديمة وغيرها من الأساطير المصرية والسورية. نفى عُلماء هذا الاتجاه أن يسوع كان شخصيةً تاريخية. حاول عدد من علماء دراسة المسيحية المُبكرة، من خلال محاربة الخرافات، الدفاع عن أفكار الربوبية المُجرّدة. مثل مُمثلي مدرسة توبنغن، دَرَسَ العلماء ذوي التفكير الحر المسيحية فقط من حيث التفاعل الصرف للأفكار الدينية، دون النظر الى الظروف التاريخية التي نشأت فيها المسيحية. ذهب أتباع المدرسة الأسطورية، أثناء محاربة الأطروحة الانجيلية حول الطبيعة الخاصة والاستثنائية للمسيحية، ذهبوا الى التطرّف الآخر ولم يروا شيئاً جديداً في المسيحية على الاطلاق. لقد اعتبروها نتاجاً ميكانيكياً للأفكار المعروفة منذ زمنٍ طويل. اتخذ العلم الماركسي في هذه المسألة مُقاربةً صحيحةً بشكلٍ أساسي. تم ذكر هذه المُقاربة في أعمال فريدريك انجلز: (برونو باور والمسيحية المبكر) Das Buch des Offenbarung and Zur Geschichte des Urchristentums. كان انجلز هو أول من قام بتحليل دقيق للظروف التاريخية التي تطورت فيها المسيحية وجذورها الاجتماعية. يُمكن تقسيم مصادر دراسة المسيحية المُبكرة الى مجموعتين رئيسيتين: المجموعة المسيحية، والمجموعة غير المسيحية. يُمكن أيضاً تصنيف المصادر المسيحية الى ثلاثة فروع: الأسفار القانونية canonical(أ) للعهد الجديد، والمجاميع غير القانونية والأبوكريفية(ب) apocryphs الخ، وأعمال اللاهوتيين والكُتّاب المسيحيين الأوائل. تتكون أسفار العهد الجديد المُتعارف عليها من المكونات التالية: أ- الأناجيل الأربعة- انجيل متّى، وانجيل مرقس، وانجيل لوقا وانجيل يوحنا. انها قصص عن حياة يسوع على الأرض وتعاليمه ومُعجزاته وموته (صلبه) وقيامته. من حيث المُحتوى، تتكون الأناجيل الثلاثة الأولى من بعض المعلومات التي تتطابق مع بعضها البعض، والبعض الآخر لا يتطابق بالمرة. وبسبب أوجه التشابه بين هذه الأناجيل فانه عادةً ما يُطلَق عليها اسم الأناجيل السيوبتيكية synoptic. يختلف انجيل يوحنا اختلافاً كبيراً. 2- سِفر أعمال الرسل المنسوبة الى الرسول لوقا (المؤلّف المزعوم للانجيل الثالث). انه يحكي عن أنشطة الدُعاة المسيحيين الأوائل. 3- رسائل الرُسل epistles of the apostles، أي رسائلهم الى مُختلف الجماعات المسيحية، بما في ذلك 14 رسالة منسوبةً الى الرسول بولس، و7 الى رُسلٍ آخرين (يعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا Jude). 4- الأبوكاليبس (رؤيا القديس يوحنا) The Revelation of St John- من المُفترض أنه كاتب الانجيل الرابع. هذا هو رأي الكنيسة فيما يتعلق بتأليف هذه الأعمال. تؤمن الكنيسة أنه بالرغم من أن هذه الأعمال كتبها أُناس عاديون، الا أنها مُستوحاة من الروح القدس، وبالتالي فان كل كلمة منها هي حقيقة مُطلقة. ومع ذلك، فان الفحص العلمي الحقيقي الدقيق للعهد الجديد يُقدّم صورةً مُختلفةً عن تأليف هذه الأعمال والزمن الذي كُتِبَت فيه. تُظهِر الدراسة المُتأنية أن سفر الرؤيا أول ما كُتِبَ على ما يبدو أعوام 68 و69، مُباشرةً بعد وفاة الامبراطور الروماني نيرو (بناءاً على النص الذي يقول: "وسبعة ملوك: خمسة سقطوا، وواحد موجود، والآخر لم يأتِ بعد. ومتى أتى ينبغي أن يبقى قليلاً" (سفر الرؤيا، الاصحاح السابع عشر: 10)). وبالتالي، فقد كُتِبَ عندما كان يهود فلسطين في حالة تمرد ضد روما. يعكس هذا العمل الكراهية تجاه الظالمين الذين قُدرَ لهم أن يواجهوا نهايةً مُدمرة. انه لا يحتوي على أي أثر للمبدأ المسيحي في التسامح والعفو. لا يُمكن أن يكون كاتب سفر الرؤيا هو كاتب الانجيل الرابع المليء بالروح المُعاكسة تماماً. نعلم من خلال سفر الرؤيا أنه خلال الستينيات كان هناك بالفعل العديد من الجماعات المسيحية، تم تسمية 7 منها كلها في آسيا الوسطى، ربما موطن المسيحية. الرسائل التي من المُفترض أن بولس كتبها، ظهرت بعد سِفر الرؤيا بكثير. لقد تمت كتابتها بالفعل في أوقاتٍ مختلفة من قِبَل مؤلفين مختلفين. وهي مُقسمة الى 3 مجموعات: المجموعة المُبكرة والتي تتعلق بالربع الأول من القرن الثاني، المجموعة الوسطى المُتعلقة بالربع الثاني، والمجموعة المتأخرة التي تتعلق بأواخر القرن الثاني. تختلف آيديولوجيا الرسائل "المتأخرة" كثيراً عن ايديولوجيا الرسائل "المُبكرة". الرسائل السبع الأُخرى المنسوبة الى الرسل الآخرين مُتشابهة في المُحتوى والزمن الذي كُتِبَت فيه، وهي تختلف كثيراً عن رسائل بولس. تم تأليفها على ما يبدو في منتصف القرن الثاني. لم تكن الأناجيل، التي تعتبرها الكنيسة من أقدم الأعمال، مكتوبةً في الواقع قبل منتصف القرن الثاني، وكانت مكتوبةً من قِبَل مؤلفين لم يعرفوا الكثير عن البلد والعصر الذي كانوا يكتبون عنه. تحتوي الأناجيل على أخطاء جُغرافية وتاريخية عديدة. انها تذكر حيواناتٍ ونباتاتٍ لم تكن موجودةً في فلسطين في تلك الأيام (على سبيل المثال، الخنازير التي اعتقد اليهود انها نجسة وبالتالي لم تتكاثر) وذكَرَت أشياءاً لم تكن موجودةً في أي مكان (على سبيل المثال، الخردل الموصوف بأنه شجرة كبيرة متفرعة). كما أنها خلطت بين الأحداث والأفراد في فترات مختلفة (على سبيل المثال، الملك هيرودس Heord الذي توفي في القرن الرابع قبل الميلاد، وكويرينوس الذي حكم سوريا في القرن السادس الميلادي). تُناقض الأناجيل بعضها بعضاً بشدة في كثيرٍ من الحالات. على سبيل المثال، تتبع أناجيل متى ولوقا نسب يسوع من الملك داوود، ووفقاً لانجيل متى تضمنت سلسلة الأنساب 28 جيلاً، بينما تحدث انجيل لوقا عن 42 جيلاً. يؤكد انجيل متّى أن يعقوب هو جد يسوع السابع، لكن لوقا يقول انه ايليا Elijah. وفقاً لانجيل متّى، عاش والدا يسوع في مدينة بيت لحم اليهوذية، وفرّوا هاربين الى مصر لانقاذه من أمر الملك هيرودس بقتل جميع الأطفال. عندما مات هيرودس انتقلت العائلة من مصر الى الناصرة. وفقاً لانجيل لوقا، كان والدا يسوع يعيشان في الناصرة طول الوقت، لكنهما كانا في بيت لحم عندما وُلِدَ الطفل، بعد ذلك رجعوا الى الناصرة. تحتوي الأناجيل على العديد من هذه التناقضات. تمتلئ قصص الأناجيل بالعديد من المُعجزات والأحداث الخيالية: شفاء الأشخاص المصابين بأمراض مستعصية والعَمى واحياء الموتى والمشي على الماء، الخ. يبدو أنه قد تم تعديل الأناجيل عدة مرات، تم اجراء العديد من الادخالات التي غالباً ما تتعارض مع النصوص السابقة. لذلك من الصعب للغاية استخدام الأناجيل كمصدر تاريخي. أما بالنسبة لسفر أعمال الرُسُل فقد تم الاعتراف به كواحد من المؤلفات اللاحقة المكتوبة ليس قبل منتصف القرن الثاني. فئة أُخرى من الوثائق المسيحية المبكرة هي الكتابات غير الكُنسية. على الرغم من عدم رفضها من قِبَل الكنيسة الا أنها لا تعتبرها من وحي الاله. وهي تشمل الأناجيل المشكوك فيها، والتي كانت موجودةً بكثرة، لكن لم يتم حفظ مُعظمها ولا تُعرَف الا بأسمائها. أهم الكتابات غير الكُنسية التي تم حفظها هي انجيل نيقوديموس، وانجيل يعقوب وانجيل مولد مريم وانجيل تاريخ يوسف النجار وأعمال الرُسل وانجيل الراعي وانجيل الاثني عشر رسولاً. كلها بقايا صغيرة لأدب مسيحي قديم واسع، قام المسيحين أنفسهم بتخريبها خلال الصراعات الشرسة بين الكنائس والطوائف. بعض الأدب غير الكُنسي له أهمية كبيرة، لأنه كُتِبَ قبل مُعظم النصوص القانونية. على سبيل المثال، يعكس انجيل الاثني عشر رسولاً، الذي يعود تاريخه الى النصف الأول من القرن الثاني، المرحلة المُبكرة من تاريخ المُجتمعات المسيحية. الفئة الأكثر موثوقيةً من المصادر المسيحية هي الأدبيات التي كتبها المُدافعون عن المسيحية ضد أعداءها، وآباء الكنيسة. انها قيّمة لأننا نعرف، بهذه الدقة أو تلك، من الذي كتبها ومتى، وهي تساعدنا في تأريخ الأدب الكُنسي أيضاً. تشمل هذه الأعمال كتابات القديس جاستن الفيلسوف (جاستن الشهيد) Justin the Philosopher حوالي عام 150، والقديس ايرينيوس Irenaeus حوالي عام 180 الذي كان أول من ذَكَرَ الأناجيل المُنسية الأربعة وحاول اثبات سبب وجود 4 ولماذا ليس أكثر أو أقل. كان هناك ترتليان Tertullian القرطاجي (أوخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث)، والقديس أوريجانوس Origen (أوائل القرن الثالث) الذي كتب ستة كتب ضد سيلسوس Celsus ناقد المسيحية ومُعارضها، وكليمان الاسكندري Clement of Alexandria (بداية القرن الثالث) ويوسابيوس القيصري Eusebius of Caesarea (أوائل القرن الرابع) وهو أول مؤرخ للكنيسة المسيحية. تُعتَبَر الاكتشافات الأركيولوجية من بين المصادر المسيحية المُبكرة، مثل المدافن (خاصةً سراديب الموتى في روما) والنقوش وما الى ذلك، ولكن لا يرجع أيٌ منها الى ما قبل القرن الثاني. تم اجراء العديد من الاكتشافات الهامة الجديدة في العقود الأخير. وجَدَ علماء الآثار في مصر عام 1946 العديد من البرديات باللغة القبطية من القرنين الثالث والرابع، وخاصةً كتابات طائفة الغنوصيين Gnostics المسيحية المبكرة. من بين هذه البُرديات انجيل القديس توما وانجيل فيليب، وهي مُماثلة في مُحتواها للكتب الكُنسية. تتعلق المخطوطات التي عُثِرَ عليها في قمران (شواطئ البحر الميت) بطائفة الأسينيين Essenes، وهي تُلقي ضوءاً اضافياً على المسيحية المُبكرة، كما تم العثور على المزيد من المُكتشفات في روما وبالقرب من القدس. هذه هي المصادر المسيحية. اما المعلومات التي تم الحصول عيلها من الكُتّاب الوثنيين فهي نادرة ومشكوك فيها خاصةً عندما يتعلق الأمر بالفترة الأولى. بعد انتصار المسيحية في أوائل القرن الرابع، بدأ كُتّاب الكنيسة بادخال اضافات الى مؤلفات المؤلفين الكلاسيكيين لجعل قصص الانجيل تبدو أصيلة. لم تكن مثل هذه التزويرات الأدبية في تلك الأيام مرفوضة. بعض الاضافات بدائية للغاية ويُمكن اكتشفاها على الفور، بعضها الآخر مُحسّن ويصعب تمييزه. لذلك فان مسألة المصادر غير المسيحية القديمة، حول المسيحية المُبكرة وخاصةً عن مؤسسها المزعوم هي مسألة معقدة للغاية. تتعلق أقدم البيانات الوثنية بعام 64، ولكن تم تسجيلها في حوليات تاسيتوس Annals of Tacitus عن عمليات اعدام نيرون الوحشية للمسيحيين، بعد أن اتهمهم باشعال النار في روما. يحتوي النص على هذه الجملة: " لكن كل الجهود البشرية، كل الهدايا السخية للإمبراطور، ودعوات الآلهة، لم تلغ الاعتقاد الشرير بأن الحريق كان نتيجة أمر. وبالتالي، شدد نيرون العقاب وألحقَ أفظع أشكال التعذيب بفئة مكروهة بسبب رجاساتهم ، يطلق عليهم المسيحيون من قبل الجمهور. عانى كريستوس، الذي نشأ الاسم منه، من العقوبة القصوى في عهد تيبيريوس على يد أحد وكلاءنا، بونتيوس بيلاتوس Pontius Pilate، وأشد الخُرافات شراً، التي تم التحقق منها في الوقت الحالي، انتشرت مرة أخرى ليس فقط في يهوذا، المصدر الأول للشر، ولكن حتى في روما، هناك حيث تجد كل الأشياء البشعة والمخزية من كل جزء من العالم مركزها وتصبح شائعة. وبناءً عليه ، تم القبض أولاً على كل من اعترف بالذنب؛ ثم، بناءً على معلوماتهم، أدين عدد هائل ، ليس بجريمة احراق المدينة ، بقدر ما أدين بالكراهية ضد البشرية". يُفسّر العلماء هذا النص بطُرقٍ مختلفة. يعتقد البعض أنه قام أحد المسيحيين بتعديله والاضافة عليه لاحقاً. الحُجة التي تقف في صف هذا الافتراض هي أن تاسيتوس لم يذكر بيلاتوس سابقاً، وهو مجرّد مسؤول اقليمي، لذلك من غير المُرجّح أن يتحدث عنه فجأةً بهذه الطريقة في النص. يعتقد مؤلفون آخرون أن المُعدّل المسيحي لن يجعل تاسيتوس يقول مثل هذه الأشياء التي تُقلل من احترام الدين الجديد. مصدر آخر للمعلومات موجود في آثار اليهود لجوزيفوس فلافيوس Josephus Flavius. وهو يصف تعاليم واعدام وبعث يسوع عندما كان بيلاتوس في فلسطين: "ظَهَرَ يسوع، وهو، رجلٌ حكيم، هذا اذا كان مسموح ان ندعوه رجلاً، لانه كان فاعلاً لأعمالٍ رائعة وهو مُعلّمٌ للرجال واظهر لهم الحقيقه بكل سرور... هذا هو يسوع...". يبدو أن هذا التعديل السيء الى حدٍ ما من قِبَل الكُتّاب المسيحيين لا يتطابق على الاطلاق مع اسلوب فلافيوس، ولا يستطيع أن يخدع الباحث المُتمرّس. اتفق الجميع على أن هذا تزوير. في الوقت نفسه، يعتقد بعض العلماء أنه تمت اضافة كلمات منفصلة هنا وهناك الى نص فلافيوس، مثل: "هذا هو يسوع"، لأن النص الأصلي يذكر يسوع، ولكن بطريقةٍ أُخرى على أنه مُبشّر أعدمته السلطات الرومانية. هذا الرأي دعمته الترجمة العربية للنص مؤخراً، والذي لم يُوصف يسوع المصلوب فيه على الاطلاق على أنه اله وفاعلٌ للمعجزات. تُوفّر مُراسلات بلينيوس الأصغر Pliny the Younger أولى المعلومات غير المسيحية المعقولة. كتب بليني Pliny، وهو مسؤول في مقاطعة بيثينيا Bithynia (آسيا الوسطى)، الى الامبراطور تراجان Trajan عام 113 يسأله عما يجب أن يفعله مع المسيحيين، الذين قيل أنهم أعضاء في مُنظمة اجرامية. أراد أن يعرف ما اذا كان سيُعاقبهم على ارتكابهم جرائم أو أنه يجب أن يفعل ذلك لمجرد انتمائهم الى الطائفة. رَدّ تراجان باصدار تعليمات الى بليني بممارسة الاعتدال ومُعاقبة أولئك الذين يُصرّون على ايمانهم فقط. بالحكم على مراسلات بليني مع تراجان، يُمكن القول أنه كان هناك العديد من المسيحيين في آسيا الصُغرى في أوائل القرن الثاني. يذكر التلمود اعدام واعظ يُدعى يسوع بن بانديرا (ابن بانديرا) son of Pan-dir-a ، لكن ليس من الواضح ما هي علاقة ذلك الشخص بيسوع الانجيلي. ظَهَرَت المزيد من المعلومات الوثنية عن المسيحية في النصف الثاني من القرن الثاني. كتبها الامبراطور ماركوس أوريليوس، وفي الشرق كتبها لوقيانوس ساموساتينسيس (لوقيان السميساطي) Lucianus Samosatensis الذي كتب قصةً تُسمّى بيريغرينوس Peregrinus، وهي قصة تهكّمية عن الحياة اليومية في المجتمعات المسيحية الأولى في آسيا الصغرى. يتضح من هذا الاستعراض أن الأدلة التي قدّمها المؤلفون الوثنيون في السنوات الأولى للمسيحية نادرة وغير موثوقة. لم يكتب هؤلاء المؤلفون في الأساس أي شيء عن مؤسس الدين يسوع. وحتى المصادر المسيحية أو المصادر الأُخرى لا تذكر أي معلومات لا جدال فيها عنه أيضاً. يُجادل العلماء، حتى يومنا هذا حول ما اذا كان يسوع شخصيةً تاريخية. يقول المُدافعون عن المدرسة التاريخية أنه كان موجوداً بالفعل، ويقول أتباع المدرسة الأسطورية أنه لم يكن كذلك. حتى العلماء الماركسيون لديهم آراء مُختلفة حول هذه المسألة. الى جانب حقيقة أن جميع المصادر المكتوبة خلال حياة يسوع المزعوم لم تذكره، هناك حُجة أُخرى مُهمة ضد المدرسة التاريخية. تُشير الكتابات المسيحية المُبكرة، عند وضعها في التسلسل الزمني الصحيح، الى أن صورة المسيح تطورت تدريجياً من كائنٍ خارقٍ للطبيعة، وهو حُمُلٌ غامض، كما تم تصويره في سفر الرؤيا، الى صورة مسيح الانجيلية الذي بشّرَ على الأرض وتم اعدامه. ارتبط هذا التطوّر بتطوّر الايمان المسيحي. تم تقديم المزيد من الأدلة على لاتاريخية شخصية يسوع من خلال الايقونات الأثرية. لا يحتوي الفن المسيحي المُبكّر على صورة يسوع المصلوب، لا تظهر هذه الايقونات قبل القرن الثامن. لا يشعر الماركسيون أنه من الضروري تحديد ما اذا ما اذا كان يسوع شخصيةً تاريخيةً أم لا. لا ينبغي البحث عن جذور التعاليم المسيحية في نشاط الأفراد، بغض النظر عن من هم، ولكن في الظروف الاجتماعية والسياسة لذلك العصر وفي صراع الأفكار الذي نشأ في تلك الظروف. ان صورة يسوع الانجيلية (وهي الصورة الوحيدة في المسيحية الحديثة) ليست انعكاساً لشخصية تاريخية مُعينة، ولكنها شخصية أدبية بحتة ذات سمات متناقضة للغاية تم انشاؤها بشكلٍ جماعي في خِضَم صراع ايديولوجي طويل. ليس من المهم للعلماء الماركسيين ما اذا كان هناك واعظ ما اسمه يسوع قد عاش ومات في القرن الأول في فلسطين أم لا. كان فريدريك انجلز أول شخص أجرى دراسةً علميةً صارمة للظروف التاريخية لأصل المسيحية. وأشار الى أن أهم ظرف هو تشكّل الامبراطورية الرومانية. كان نشوء امبراطورية عالمية تمهيداً لظهور عبادة تسووية Levelling. جلَبَ الغزو الروماني الهزائم الشنيعة للدول الفردية المُحيطة، وأدى النظام الروماني الاستبدادي والعنيف وقمع المقاطعات والضرائب المرتفعة والغياب التام للحقوق المدنية الى لامبالاة واحباط الجماهير العريضة، ليس فقط بين العبيد، ولكن أيضاً بين السكان الأحرار، خاصةً في المقاطعات. أدت التمردات الفاشلة للعبيد وشعوب روما المضطهدة الى تفاقم هذا الارتباك والاحباط العام. جَعَلَ فشل المقاومة المسلحة في البلدان المنفردة المُحيطة وثورات العبيد، جَعَلَ الجماهير المضطهدة تشعر باليأس وانعدام الأمل. شدّدَ انجلز على أن هذا المزاج كان سائداً بين طبقاتٍ مُختلفة، أي في كل قطاعات المُجتمع، لأن الناس شعروا بنفس القَدر أنه لا سبيل للخروج من هذا الوضع: "...كانت أي مُقاومة تُبديها القبائل الصغيرة أو المُدن الفردية ضد قوة روما العالمية العملاقة غير مُجدية. أين كان الخلاص المُشترك لجميع المستعبدين والمضطهدين المنكوبين بالفقر، عند كل هذه المجموعات الاجتماعية المتنوعة التي تقف مصالحها غريبةً عن بعضها بل وحتى متعارضة؟ تم العثور على مخرَج لهذا الوضع، لكن ليس في هذا العالم"(1). عندما لم يستطع الناس أن يروا طريقاً للخلاص والتحرر من الاضطهاد على الأرض، فانهم قد سعوا للحصول عليها في السماء. لكن لماذا كان هناك حاجة الى دين جديد؟ لماذا لم يجد الناس العزاء في الديانات القديمة؟ كانت الديانات القديمة قَبَلية ومحلية. لم يكن يُمكنها أن تتجاوز تلك الحدود. الى جانب ذلك، فان انهيار تلك الدول حيث تطورت هذه الأديان قد قوّض أساساتها. كانت هناك حاجة الى دينٍ أكثر مرونة لا يرتبط بظروف محلية ضيقة ويُمكنه أن يُلبي احتياجات الجماهير متعددي المناشئ من السكان المضطهدين في الامبراطورية الرومانية. كان لبعض المذاهب الدينية تأثيراً مُعيناً أكثر نجاعةً على الجماهير. انتشرت ديانات شرقية مُعينة خلال فترة الامبراطورية الرومانية قريبة من الديانات العالمية. كانت عبادة ايزيس شائعةً في النصف الغربي من الامبراطورية، كما كان لها عدد كبير من الأتباع في روما والمقاطعات. كانت عبادة ميثرا Mithra الايرانية تُمارَس على نطاقٍ واسع، وخاصةً في الجيش الروماني. ومع ذلك،، لم تُصبح أيٌ من هذه العبادات ديناً عالمياً بالمعنى الدقيق للكلمة. كان الدين الوحيد الذي يُمكن أن يلعب هذا الدور هو الدين الذي لن يُقسّم بل سيوحد جماهير السكان مُتعددي المناشئ واللغات في الامبراطورية الرومانية. كان العبيد والمضطهدون هم الذين شعروا بالدرجة الأولى بالحاجة الى العزاء الديني الذي قدّمته هذه التعاليم الجديدة. لم تستطع أيٌ من ديانات العالم القديم أن تمنح العبيد والمضطهدين العزاء الديني، لأنها كلها كانت ديانات رسمية للدولة وذات طبيعة أرستقراطية. صحيح أنه كانت هناك بعض العبادات الشعبية، لكنها لم تكن للعبيد، وكانت كُلٌ منها مرتبطةً بظروفها المحلية الخاصة. لم يعد العبيد واولئك الذين انسلخوا عن قبائلهم وشعوبهم بحاجة الى الديانات المحلية القديمة. أدت أزمة المُجتمع العبودي الى ظهور اتجاهات جديدة في الوعي الاجتماعي. تطوّرت في الحقبة المُبكرة للامبراطورية مفاهيم جديدة كانت تتمحور حول ازدراء الفقر والعبودية والعمل اليدوي. تضمنت هذه الأفكار الجديدة احترام "الانسان الوضيع" بمتطلباته ومصالحه المتواضعة بما في ذلك العبد وكرامته الانسانية. انعكست هذه الأفكار الجديدة في المرثيات والنقوش الأُخرى والأعمال الأدبية وهجائيات مارتياليس Martialis وجوفيناليس Juvenalis وفلسفات الرواقيين. وهكذا كانت المسيحية المُبكرة هي دين العبيد والمضطهدين. نشأ الدين الجديد من الطوائف اليهودية. في اليهودية في كُلٍ من فلسطين والمناطق الأُخرى التي هاجروا اليها في القرنين الأول والثاني كان هناك عدد من العبادات، كان بعضها معتقداتٍ مبنيةً على أساس الايمان بمجيء المسيح المُخلّص. كان هذا الاعتقاد، بالنسبة لليهود، الذين عانوا أكثر من أي شعبٍ آخر من الهيمنة الأجنبية (اليونانية والسورية والرومانية)، حجر الزاوية في دينهم، وخاصةً عند طوائف مُعينة. رأت بعض الاتجاهات في الديانة اليهودية، على سبيل المثال، الزيلوتيين Zealots، أن المسيح هو بطلٌ مُحارب يُمسك سيفاً بيده وسيُخلّص الناس من نير الرومان. نما هذا الأمل خلال حرب يهودا الأولى وتمرد يهودا الثاني. لكن أفسحت هزيمة هذين التمردين، المجال لاتجاهٍ آخر، وهو الايمان يقدوم المسيح الروحي. كانت هذه هي تعاليم الأسينيين Essenes الذين عاشوا في مُجتمعات رُهبانية في أجزاءٍ مُنعزلة من فلسطين. لقد عاشوا حياة الزهد ووعظوا الناس بالتبتّل، ونادوا بالمُلكية الجماعية ومنعوا العبودية. لقد اعتبروا المسيح مُعلماً بشّرَ بالعدالة. التزم الأسينيون بدقة، من جميع النواحي الأُخرى، بمبادئ اليهودية. كانت طائفة الناصريون Nazarenes، الأقل شُهرةً، أقرب الى المسيحية الناشئة. لطالما قال اليهود أن الناصريون هم اولئك الذين كرّسوا أنفسهم للاله اما مؤقتاً أو طوال حياتهم. لم يكن أعضاء هذه الطائفة يقصون شعرهم ولم يشربوا الخمر ولم يمسسوا الموتى، الخ. يُصوّر يسوع في الأناجيل على أنه ناصري، ويُشار الى كلمة الناصري على أنها تعني اليسوع. يعتقد البعض أن أسطورة مجيء يسوع من الناصرة قد تم انشاؤها لتفسير هذه الكلمة، وغالباً ما يُشار الى أتباعه باسم الناصريين. على سبيل المثال، اتُهِمَ الرسول بولس بأنه "مِقدام شيعة الناصريين"(سِفر أعمال الرُسل، الاصحاح 24، الآية5)، أي أنه زعيمهم. في القرآن، يُشار الى أتباع يسوع المسيح باستمرار باسم الناصريين (المؤلف يقصد كلمة "النصارى"). ربما كان هذا هو الاسم الأصلي الذي أُطلِقَ على طائفة أتباع يسوع. يُمكن أيضاً تحديد الأصول الاجتماعية والعرقية للمسيحية بشكلٍ أكبر. لم تكن فلسطين هي المكان الذي ظهرت فيه لأول مرة، بل مناطق هجرة اليهود. وهذا واضح من الأدب المسيحي الذي لم يُكتَب في فلسطين والذين لم يعرف كاتبوه الا القليل عنها (عن فلسطين). كانت الظروف، في مناطق شتات اليهود، مُهيأة للتغلب على محدودية الدين اليهودي القومية الضيقة بين اليهود المُطلعين على الفلسفة اليونانية والعبادات الوثنية، من أجل التحوّل الى دينٍ عالمي. أشار انجلو، مُستشهداً بفكرة برونو باور الصحيحة، الى أن فيلو الاسكندراني Philo of Alexandria الذي تأثر بعمق بالفلسفة اليهودية المتأخرة كان هو "أبو المسيحية". كان لديه مزيج من الروح القومية اليهودية والتعاليم اليونانية الكلاسيكية الصرف. فسّرَ فيلو القصص التوراتية عن خلق الانسان والنزول من السماء على أنها قصص رمزية. لقد التزم بتعاليم اليهودية التوحيدية الصارمة عن الاله، ولكنه آمن أيضاً بوجود وسيط مُقدّس بين الاله والعالم المادية، أي آمن بالكلمة الالهية. كانت هذه فكرة شائعة في الفلسفة اليونانية المثالية. أصبحت كلمة الاله، أي ابن الله يسوع، الشخصية المركزية في المسيحية. ان فحص سِفر الرؤيا، وهو أول كتابة مسيحية تتخللها روح اليهودية المُتشددة وتتناقض بشدة مع كل الأدب المسيحي اللاحق، يُظهِر بوضوح أن المسيحية نشأت من احدى الطوائف اليهودية. ان هذا السفر لا يحتوي على أي شيءٍ من العقائد المسيحية الأساسية. لا يقول سفر الرؤيا أي شيء عن الثالوث، أي الروح القدس. والأهم من ذلك لا يوجد فيه أي شيء من الأخلاق المسيحية اللاحقة مثل التسامح والتواضع والغفران. على العكس من ذلك، فهو مليء بالحقد على مضطهدي الشعب اليهودي، ولا يعكس أياً من النزعة الكوزموبوليتانية النموذجية للأدب المسيحي اللاحق. حافظت المسيحية في وقتٍ لاحقٍ على العديد من عناصر الدين اليهودي: مؤسس الدين يسوع الذي تم تصويره على أنه يهودي، وموقع الأحداث التوراتية مثل الدولة اليهودية في فلسطين، وجميع الشخصيات في الكتاب المقدس كانوا يهوداً، والكتاب اليهودي المقدس مُدرج في القانون المسيحي باعتباره موحىً من الله، وتبنت المسيحية الاله اليهودي يهوه باعتباره الأب (الرب)، والعقائد الأساسية للدين اليهودي، ومفهوم خلق الاله للعالم والانسان، وتضمين الطقوس اليهودية الفردية في العبادة المسيحية، وخاصةً عيد الفصح. كانت بعض الطقوس اليهودية الصرف تُمارَس لفترةٍ طويلةٍ في المُجتمعات المسيحية، بما في ذلك الاحتفال بالسبت وعادات الختان التي كانت الزامية لجميع المسيحيين في البداية، ولكن تم التخلي عنها لاحقاً. وهكذا، كانت المسيحية في المرحلة الأولى من تطورها مُجرّد طائفة من الطوائف اليهودية بالمعنى الدقيق للكلمة. ولكن بحلول أواخر القرن الأول، تم تبنّي عناصر غير يهودية في المجتمعات المسيحية. تم تسهيل ذلك من خلال الظروف التي تطورت فيها اتجاهات مُختلفة في العبادات الوثنية التي أصبحت مُماثلة بجوهرها للطوائف المسيحانية في اليهودية. كان لدى العبادات الشرقية صور لآلهة مُنقذة انتشرت تعاليمها، خاصةً بين الطبقات المضطهدة. نحن نعرف العديد من الآلهة المُخلّصة في مصر وبابل وسوريا ولاحقاً في اليونان. انهم أوزوريس وتموز وأدونيس وآتيس وديونيسوس. لقد كانت أيضاً آلهةً للطبيعة وتجسيداً لروح الحياة النباتية، ولكنها كانت تتمتع بين الجماهير باحترامٍ خاص كآلهة يُمكن للمرء أن يُناشدها ويدعو لنفسه من خلالها بالخلاص. هذا جعلها تتمتع بشعبية خاصة بين الفقراء المُدُن الذين لم يكن لديهم أي اهتمام بوظائفها الزراعية الأصلية. تطورت ألغاز (أسرار) دينية مُختلفة خلال الحقبة التي كانت في الدول القديمة والشرقية في حالة انحلال، مثّلَت بذوراً لأديانٍ تتجاوز الحدود القَبَلية والقومية الضيقة. كانت الألغاز مُجتمعاتٍ دينية لا ينتمي أفرادها الى قوم أو قبيلة واحدة، بل الى دينٍ واحد، وانضموا اليها طواعيةً. من المهم جداً أن الألغاز كانت مُرتبطةً بمفاهيم حول الحياة الأُخرى. كانت التعاليم في المجموعات هذه تُبشّر بحياةٍ أفضل بعد الموت. لم تكن أكثر من مُجرّد تعاليمٍ عن خلاص النفس. سهّلَت مثل هذه العبادات القائمة على الهيلينية انتشار المسيحية وتعاليم الخلاص التي تطوّرَت في اليهودية. أدى ادراج العناصر الوثنية وغير اليهودية في المُجتمعات المسيحية المُبكرة الى تغييرات جوهرية في العقائد والطقوس المسيحية. طوّرَت المسيحية عناصر من الواضح أنه تمت استعارتها من العبادات الوثنية. ان التعاليم المسيحية حول موت وقيامة الاله هي انعكاس للعبادات الشرقية للآلهة التي ماتت ثم بُعِثَت. تُكرر طقوس عيد الفصح المسيحية طقوس موت وقيامة الاله آتيس. حتى أن هناك تفاصيل فردية في عيد الفصح منسوخة نسخاً من طقوس الليل القديمة المتعلقة بموت وبعث آتيس. أثّرَت عبادة ميثرا أيضاً على المسيحيين. تم الاحتفال بميلاد المسيح في 25 كانون الأول يوم الانقلاب الشتوي في نفس يوم الاحتفال بميلاد ميثرا. تم نسخ عبادة الأم المسيحية مريم من عبادة ايزيس المصرية. كانت عبادة ايزيس مُرشحة لأن تكون عبادةً عالمية بسبب عناصرها الايروتيكية. ومن أجل مُحاربة هذه العبادة بنجاح، وجد المسيحيون أنه من الضروري ترسيخ عبادة الهة انثوية. ومن هنا كانت عبادة الأم مريم في المسيحية غير مسبوقة على الاطلاق في الديانة اليهودية القديمة وفي المسيحية نفسها حتى القرن الرابع. بدأ تاريخ أبوكريفي (تحريفي) في الظهور حول مريم العذراء، مثل انجيل مريم المجدلية وانجيل الطفولة. تمت استعارة عدد كامل من العناصر من الديانة المصرية والديانات الأُخرى. ان عبادة الصليب، على سبيل المثال، لا علاقة لها بالأداة المُفترضة المُستخدمة لاعدام يسوع. في الواقع، كان الرومان يُعدمون الناس على الأخشاب المتقاطعة، ولكنه كان تقاطع على شكل حرف T. ان الصليب المسيحي هو رمز ديني قديم للغاية يُمكن العثور عليه في الأعمال الفنية المصرية والكريتية القديمة وغيرها. من الصعب تحديد أصل الصليب، ولكن من المؤكد أن عبادته لا علاقة لها بأسطورة صلب المسيح(2). كان هذا أيضاً الهدف من استعراض شخصية يهوذا Judas الخائن في الأناجيل الأربعة جميعها. كان يهوذا واحداً من الرُسُل الاثني عشر الذي من المُفترض أنه قد سلّم يسوع الى أحد أعدائه مقابل ثلاثين قطعةً فضيةً نقدية. ان اسم يهوذا هو تجسيد للسعب اليهودي. أراد كُتّاب الاناجيل من خلال هذه الشخصية أن يشوهوا كل اليهود. وهكذا تعكس العقيدة والعبادة والأناجيل المسيحية تشابكاً بين العناصر اليهودية والوثنية (حتى مُعادية لليهودية). يمكن ربط هذين الاتجاهين بتعاليم وآراء اثنين من الرسل: بطرس (رسول اليهود) وبولس (رسول الوثنيين، كما يفترض هو نفسه ذلك). ان المسيحية في الواقع هي مزيج مما تُمثله هاتين الشخصيتين. كانت الخطوة الحاسمة في تشكيل الميسحية كدين هي في الحقيقة انفصالها عن اليهودية من خلال نضالٍ طويلٍ وشاق، مع أنها حافظت على التقاليد اليهودية. أصبح الصراع بين الجماعات اليهودية (اليهودية-المسيحية) والجماعات غير اليهودية (الوثنية) في المُجتمعات المسيحية شرساً للغاية في أواخر القرن الأول والثاني. على الرغم من محاولات اخفاء آثار هذا الصراع لاحقاً في الأدب المسيحي، الا أنها لا تزال واضحةً في الكتب الكُنسية المُقدسة. يحمل انجيل متّى (الذي يُعتَبَر يهودياً حقاً) علامات كلا الاتجاهين المُتصارعين. ومن هنا نشأت التناقضات الواضحة. عندما أرسَلَ يسوع رُسُله الاثني عشر ليبشروا، فقد حذرهم قائلاً: "الى طريق أُممٍ لا تمضوا... بل اذهبوا بالحري الى خرافِ بيت اسرائيل الضالة"(انجيل متّى، اصحاح 10، الآيات 5-6). تكررت هذه الفكرة نفسها تقريباً كلمةً بكلمة في الاصحاح 15 مع المرأة الكنعانية التي رفض يسوع مساعدتها لأنه "لم يُرسَل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة"، وتمت الاشارة الى جميع غير اليهود بسُخرية عل أنهم "كلاب" (متّى، الاصحاح 15، الآيات24،26). ولكن في نفس الانجيل، أظهر يسوع تفضيلاً لقائد المئة (الروماني) على اليهود (متّى، الاصحاح 8، الآيات 10-13). في نهاية الانجيل، أرسل يسوع رُسُله لـ"يُتلمذوا جميع الأُمم" (متّى، الاصحاح 28، الآية 19). كانت المسيحية عبارة عن مزيجٍ من المعتقدات اليهودية والوثنية. لكن سيكون من الخطأ تجاهل العناصر الجديدة في المسيحية. شكلَت المسيحية، مرحلةً جديدةً في تطور الدين، كما قال فريدريك انجلز. ما كان جديداً في الأساس، الفكرة المسيحية المركزية ككل، وهي فكرة الخطيئة، والجانب الآخر من نفس الفكرة، وهي فكرة الخلاص. شدد انجلز أكثر من مرة على أن الفكرة المركزية للمسيحية هي بالفعل فكرة الخطيئة: "لَعِبَت المسيحية على وترٍ كان من المُفتَرَض أن يجد استجابةً عند عددٍ لا يُحصى من القلوب. أجاب الوعي المسيحي للخطيئة على جميع مظالم الناس وظروفهم الصعبة وفقرهم الجسدي والمعنوي العام: نعم، هذا هو الحال، ولا يُمكن أن يكون غير ذلك. أنتم المسؤولون عن فساد العالم. كل اللوم يقع على عاتقكم أنتم وفسادكم الداخلي! أين يُمكن العثور على أي شخصٍ قد يُنكر ذلك؟"(3). ينبثق استنتاجان مُهمان من فكرة الخطيئة. أولاً، ان التعاليم القائلة بأن الخطيئة هي سبب كل المصائب الانسانية منعت الجماهير من التفكير في خوض صراع حقيقي ضد الشر الاجتماعي. لقد حوّلَت فكرة الخطيئة القضية من النضال من أجل المصالح الأساسية للفرد، الى التخلص من الخطايا. ثانياً، قدّمَت هذه العقيدة للجماهير نوعاً من العزاء الديني لأنها كانت لا تنفصل عن فكرة الخلاص. غرق العالم كله في الخطيئة، وكان الناس بطبيعتهم خطأة. تم رفع حالة الخطيئة هذه بشكلٍ أسطوري الى قصة نزول آدم من الجنة. ولكن كان هناك أملٌ في أن يُنقِذَ أحدٌ الانسانية، ومن هنا جاءت فكرة الاله المُخلّص. الفكرة نفسها لم تكن جديدة. كانت الآلهة المُخلّصة موجودةً في العبادات الشرقية ولها جذور قديمة تعود الى صور أبطال الثقافة التي كانت نموذجيةً للمجتمعات ما قبل الطبقية. أصبحت فكرة الخلاص في المسيحية الفكرة المركزية والأكثر أهميةً. لهذا السبب كان على يسوع، الاله المُخلّص، أن يُصبح الشخصية المركزية في العبادة المسيحية. كانت الصورة الحقيقية ليسوع، كما ذكرنا، مُعقدةً للغاية. لقد اعتدنا على التفكير في يسوع المسيح Jesus Christ كاسم واحد على الرغم من أنه يتكون من كلمتين، ونرى أن الاسم يُمثل فكرةً واحدة. لكن ليس هذا هو الحال في الأناجيل حيث يوجد اسمين مُختلفين يُقابلان مفهومين مُختلفين. كان يسوع Jesus هو اسم الواعظ الذي اعتقد البعض أنه مُعلمٌ عظيم وصانعٌ للمعجزات، واعتقد آخرون أنه مُحتال(4). المسيح Chirst هو الترجمة اليونانية للكلمة اليهودية (المسيح messiah). في الأناجيل، لم يتم استخدام كلا الاسمين معاً (في الجزء السردي لم يحدث هذا أبداً)، ونادراً ما تم استخدام كلمة المسيح Christ. وفقاً لقصة الانجيل، لم يُخبر يسوع أحداً أبداً أنه المسيح المُنتظر. حتى أقرب تلاميذه لم يكونوا متأكدين من أن مُعلمهم هو المسيح. واحدٌ منهم فقط، وهو بطرس سمعان Peter Simon الذي رد على سؤال يسوع: "وأنتم، من تقولون اني أنا؟"، قائلاً: "أنت هو المسيح". بسبب هذا عيّنه يسوع رئيساً للكنيسة المُستقبلية. لكن الانجيل يقول أن يسوع منع تلاميذه بصرامة من اخبار أي شخص أنه يسوع المسيح. لم ترغب الجماهير في تصديق أن يسوع هو المسيح، قالوا عن يسوع: "ولكن هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحدٌ من أينَ هوَ" (انجيل يوحنا، الاصحاح 7، الآية 27). في وقتٍ لاحق، في المُحاكمة، عندما أجاب يسوع بالايجاب عن السؤال المباشر من الكهنة "أأنتَ المسيح؟" اعتُبِرَت اجابته دليلاً كافياً على أنه مُذنب لأنه أطلق على نفسه اسم المسيح. (انجيل مرقس، الاصحاح 14، الآيات 61-64، انجيل لوقا الاصحاح 22، الآيات 65-71). كان الهدف من قصص الانجيل هو اقناع القارئ بأن الواعظ الجليل يسوع، الذي كان يتحدث كثيراً عن أعماله العظيمة، هو المسيح المُنتَظَر. وبهذه الطريقة، كانت تعاليم الانجيل عن المسيح مُختلفة بشكلٍ كبير عن الأعمال المسيحانية وحول نهاية العالم التي تم فيها تصوير المسيح ليس كواعظ متواضع، بل بصفته قاضياً حاكماً قوياً، أو كحمل الهي غامض. من الطبيعي أن يكون الصراع الايديولوجي الأكثر حدةً قد جرى حول الصورة المُعقدة ليسوع المسيح. كان موضوع الخلاف الرئيسي دائماً، في الصراع بين الطوائف اللاحقة على اختلاف أنواعها، هو أصل يسوع المسيح. وهكذا فان فكرة الخطيئة، وفكرة الخلاص والفداء، وفكرة المُخلّص الذي كان الهاً وانساناً، هي الأفكار المسيحية الرئيسية. كيف تصوّرَ المسيحيون هذا الخلاص؟ من خلال التضحيات لتهدئة غضب الاله، وهي فكرة وردت في جميع الأديان القديمة. وهكذا صارت واحدةً من الأفكار المركزية في المسيحية. كل الخطايا الموروثة من آدم غُفِرَت مرةً والى الأبد بالتضحية التي قدمها يسوع المسيح طواعيةً، وهي موته الشخصي، وقد خلّص هذا البشرية من خطاياها. كان يكفي الايمان بيسوع المسيح، واتباع تعاليمه، لضمان الخلاص. كتب فريدريك انجلز: "بالنسبة للمؤمنين، كانت الفكرة الأساسية والثورية الأولى للمسيحية (المُستعارة من مدرسة فيلو)، هي التضحية الطوعية العظيمة التي قدّمها مرةً واحدةً والى الأبد عن خطايا جيمع الأزمنة وجميع الناس"(5). ومن هنا الاستنتاج بأن أي تضحيات أُخرى كانت غير ضرورية. حتى في العبادة المسيحية المبكرة، نرى اختفاء أي تضحيات وطقوس لا داعٍ لها. تم تقديم آراء أُخرى مُختلفة حول آلام وموت وقيامة يسوع المسيح. لا يُمكننا اعتبار قصة الانجيل انعكاساً لبعض الأحداث الأصلية. صحيح أنه تم اعدام بعض الدُعاة، لكن هذا فقط أتاح لبعض كُتّاب الأناجيل امكانية كتابة القصة في شكل سرد تاريخي. من ناحيةٍ أُخرى، بالكاد يُمكن للمرء أن يتخيّلَ هذا "الحَدَث" كما قدمته المدرسة الأسطورية كقصةٍ أسطوريةٍ لبعض الظواهر الالهية. سيتكوّن عند المرء، عند فحصه قصة الانجيل عن معاناة المسيح عن كثب، انطباع غريب بأن القصة لم تكن عملاً أدبياً، بل دراما أُضيفت لاحقاً الى النص. يبدو الأمر كما لو أننا نشهد اخراجاً لبعض الطقوس، وسرد الانجيل هو النص المكتوب لهذا الاخراج. مثل هذه المسرحيات الغامضة عن المعاناة والقيامة موجودة في مصر القديمة واليونان (الألغاز الأليوسينية) وفي عبادة آتيس. من المُمكن أيضاً أن تكون الألغاز المسيحية تُمثل أيضاً آلام الاله وقيامته. عندما تم انشاء الأدب المسيحي، تمت كتابة نص هذه الدراما وشكلّت الخطوط العريضة الرئيسية لنص الانجيل. ومن ثم تم اعتباره كتاريخٍ أصلي في وقتٍ لاحق. اتسمت القرون الأولى للمسيحية بصراعٍ ايديولوجي شرس عَكَسَ الصراع بين المصالح الطبقية المُختلفة. تشكّلَت الكنيسة تدريجياً في خِضَم هذا الصراع، الأمر الذي سهّلَ نجاح المسيحية وانتصاراها على الأديان الأُخرى. لم يتم العثور على أي دليل على وجود مؤسسة كُنسية في المصادر المسيحية المُبكرة. تم تصوير الرُسل والأنبياء على أنهم دُعاة جوالين. كانوا يتوقفون لفترةٍ قصيرة في مُجتمعاتٍ مُختلفة، ولكن ليس أكثر من بضعة أيام. كان يرأس المُجتمعات المسيحية، حتى أوائل القرن الثاني، مجموعة من الناس أُطلِقَ عليهم فيما بعد قادة الكنيسة الكاريزميين. كانوا أفراداً افتُرِضَ أنهم يمتلكون صفة الروح القدس والكاريزما. علّمَ هؤلاء القادة الناس ووعظوهم وزاروا مجتمعاتٍ مختلفة، ولكن لم يكن لهم أي وضع رسمي. تعكس المصادر اللاحقة ظهور المسؤولين الأوائل في المُجتمعات المسيحية، مثل الشمامسة والأساقفة. اعتنى الشمامسة بالاحتياجات اليومية لأتباع الدين، وكان الأساقفة مسؤولين عن الأموال والممتلكات. في وقتٍ لاحق كان هناك الكهنة والرجال الكبار في السن. ظَهَرَ المطارنة وهم قادة الكنائس الفردية في القرن الثالث، وظهَرَ البطاركة وهم رؤساء الكنائس الاقليمية الأوسع، في القرنين الرابع والخامس. كانت السلطة المُتزايدة للأساقفة مُهمة بشكلٍ خاص في تطور الكنيسة المسيحية: كان لدى الأساقفة، من بين جميع مسؤولي الكنيسة، أكبر فرصة للعب دورٍ مُهيمن لأنهم كانوا يُسيطرون على الشؤون المالية. منذ القرن الثاني فصاعداً، بدأ الأساقفة في تثبيت وجودهم ليس فقط في الشؤون الاقتصادية، ولكن أيضاً في الأمور الايديولوجية. أصبح الأساقفة مُتخصصين في العقيدة والعبادة. دَعَمَ أساقفة الجماعات الفردية بعضهم بعضاً، الأمر الذي كان عاملاً هاماً في تقوية المجتمعات المسيحية. لكن هذا تحقق على حساب صراعٍ داخليٍ شرس. اتخذ الصراع في الغالب شكل الخلافات حول العقائد. لكن كان وراء هذه العقائد اتجاهاتٍ ايديولوجية مُختلفة تُمثل مجموعات قومية وطبقية مُختلفة تعكس مصالحها. كانت هناك اتجاهات في المُجتمعات المسيحية في وقتٍ مُبكرٍ من القرن الأول، عارضت بعضها البعض. يذكر سفر الرؤيا الهراطقة النقولاويين Nicolaite الذين لا نعرف شيئاً مُحدداً عنهم. تطوّرَ صراعٌ شرس بين مُختلف الطوائف والاتجاهات المسيحية خلال القرن الثاني. كانت الحركة الغنوصية Gnostic هي الأكثر اثارةً للاهتمام، بما في ذلك الحركة المارسيونيتية Marcionites والحركة المونتانية Montanist. ان دور الغنوصية في المسيحية المُبكرة غير واضح. ان كلمه غنوص Gnosis تعني المعرفة في اليونانية. لكن الغنوصيين لم يتحدثوا عن المعرفة التجريبية للعالم الحقيقي، بل عن المعرفة الصوفية عن الله. كان الغنوصيين فلاسفةً متصوفة ادعوا أن الانسان يستطيع أن يفهم سر الالوهية وجوهر العالم من خلال العقل. عادةً ما يعتبر مؤرخي المسيحية الغنوصية فرعاً من فروع الدين، باعتبارها هرطقة، سُرعان ما قمعها اللاهوتيين المسيحيين الأتقياء. يعتقد علماء آخرين أن الغنوصية لم تنشأ من المسيحية، بل على العكس من ذلك، تطورت المسيحية من الغنوصية مما يجعل الغنوصية أقدم من المسيحية. هناك بعضٌ من الحقيقة في كلتا وجهتي النظر: ان التعاليم الغنوصية المبكرة (القرنين الأول والثاني) أثرت في الواقع على تطور الايديولوجيا المسيحية. كان فيلو الاسكندراني المُلقب بأبو المسيحية، غنوصياً. لاحقاً (منذ منتصف القرن الثاني) اعتُبِرَت التعاليم الغنوصية انحرافاتٍ عن المسيحية "الحقيقية". كان جوهر الغنوصية، الذي نشأ عن الفلسفة المثالية الهلنستية المتأخرة، هو المواجهة الثنائية بين النور والروح الطيبة، والمادة المُظلمة المليئة بالمُعاناة. لا يُمكن لاله صالح وعظيم أن يخلق مثل هذا العالم الرهيب. العالم خلقه اله ذو مستوىً أقل وضيق الأفق، وقال بعض الغنوصيين أنه يهوه اليهودي. لقد اعتقدوا أنه لا يوجد اتصال مباشر بين الاله الصالح الذي لا يُمكن الوصول اليه والعالم المادي. لكن كان هناك وسيط، الكلمة الالهية (الجوهر، العقل) الذي يُمكنه انقاذ الانسانية المُعذبة وقيادتها الى مملكة الروح الالهية المُنيرة. وهذا أيضاً غير مُتاح لجميع الناس، فقط المُختارين والناس الروحانيين. تم دمج التعاليم الغنوصية عن اللوغوس (الكلمة) في المسيحية، واستُخدِمَت لصورة المسيح المُخلّص. يتضح هذا بشكلٍ خاص في انجيل يوحنا المليء بروح الغنوصية: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة ألله" (انجيل يوحنا، الاصحاح الأول، الآية 1). ومع ذلك، على عكس المسيحيين (المسيحيين اليهود)، رَفَضَ معظم الغنوصيين بشكلٍ قاطع كل الديانة اليهودية لأنهم اعتبروا الاله اليهودي يهوه كائناً شريراً وتقدّموا بدلاً من ذلك بالاله الطيّب والعظيم والمُخلّص. تم التعبير عن هذه الكراهية للهيودية بحدة في تعاليم مرقيون Marcion (منتصف القرن الثاني) الذي رفض العهد القديم بأكمله تماماً. بلغت المشاعر المُعادية لليودية ذروتها في تعاليم مرقيون وغيره من الغنوصيين. لكن المسيحية لم تتبع هذا الطريق. على العكس من ذلك، حاولت التوفيق بين الدين اليهودي وعبادة المُخلّص. لم تصبح الغنوصية اتجاهاً مُهيمناً في المسيحية بسبب أنها كانت نظرة عالمية للمثقفين الأثرياء الذين تلقوا تعليماً عالياً في الفلسفة. لم تكن هذه التعاليم مُتاحة للجماهير. احتاجت الجماهير الى صورة حية للمُخلّص، وليس مُجرّد فلسفة تأملية. ومع ذلك فقد تبنّت المسيحية بعض جوانب الفلسفة الغنوصية. كانت الحركة المونتانية اتجاه هرطقي آخر ظَهَرَ في القرن الثاني يُمثل مُحاولةً لاحياء الروح المُقاتلة للديانة اليهودية-المسيحية في القرن الأول. أسسَ هذه الحركة كاهن سايبيل السابق في فريجيا مونتانوس (لا يُعرَف عنه سوى القليل)، الذي حارب بشكلٍ حاسم أي تنظيم لحياة الكنيسة وضد سلطة الأساقفة المُتزايدة. كان يتمتع بشخصية كاريزمية وبَشّرَ باسم الاله نفسه وطالب بالزهد الشديد والتبتل (على الرغم من أن أتباعه لم يلتزموا بهذا المطلب)، وأُعلَنَ عن المجيء الثاني ليسوع المسيح ونهاية العالم. لقد كانت مُحاولةً غير مُجدية لوقف العملية التي لا رجعة فيها لتحوّل المسيحية الديمقراطية الثورية الأصلية الى دينٍ عالمي يصطف الى جانب أسياد العبيد. تم اتباع المونتانية بشكلٍ رئيسي في فريجيا. ارتبط بهذا، التبريري المسيحي البارز ترتليان Tertullian على الرغم من أنه قلل من أهمية الجانب الثوري للتعاليم المونتانية. كانت العناصر الثرية من مُلّاك العبيد والأثرياء، بحلول منتصف القرن الثاني، تُسيطر على المُجتمعات المسيحية. لقد تمكنوا من قمع هذا الاتجاه الديمقراطي المتشدد. في النضال ضد المونتانية، من أجل تقوية التنظيم الأسقفي للكنيسة، تم تطوير التعاليم حول الخلافة الرسولية للأساقفة، وتم تشييد التعاليم القائلة بأن يسوع نفسه، من خلال رُسله، نقل السُلطة الى الأساقفة وعيّنهم لتوجيه الكنيسة في الشؤون الدينية. ظهرت طوائف جديدة بعد التغلّب على الاتجاهات الصوفية والآخروية في القرنين الثاني والثالث. كان نموذجاً لهذه الطوائف الجديدة هي الطائفة المانوية Manichaeism التي كانت تحظى بشعبية في الشرق مثل ايران والدول المُجاورة. لقد كانت مزيجاً من المسيحية والزراديشتية، وهي ايمان مُزدوج بشكلٍ واضح. سُميَت على اسم ماني mani (أو مانيس Manes) شبه الأسطوري، الذي أُعدِمَ عام 276. كان المبدأ الأساسي في العقيدة المانوية هو فكرة التعارض المُباشر بين النور والظلام والخير والشر. نشأ العالم الذي نراه، بما في ذلك البشر، من مزيجٍ من جُزيئات الضوء والظلام. قام يسوع، الذي أتى في جسدٍ مُزيف، بتعليم الناس أن يُميزوا بين النور والظلام، والخير والشر. وماني علّمهم نفس الدرس. رفض أتباع ماني العهد القديم كله ومُعظم العهد الجديد. تم تقسيم مُجتمعاتهم الى طبقات. تتكون الطبقة العُليا من "المُختارين" و"الأنقياء"، حيث شاركوا في جميع الطقوس الدينية. كان الآخرين لا يستطيعون المشاركة الا في بعضها فقط. تم قمع الطائفة المانوية بعد أن أصبحت المسيحية ديناً للدولة. ولكن تم احياء أفكارها لاحقاً في طائفتي بوليسياني Pauliciani والبوغوميلية Bogomile القروسطية. كما أصبحت متوجهةً طبقياً بشكلٍ واضح. كانت الجذور الطبقية أكثر وضوحاً في الطائفة الدوناتية Donatist (التي سُميَت على اسم الأسقف دوناتوس Donatus) التي نشأت في شمال افريقيا في القرن الرابع. تمرّدَ الدوناتيون على أي تنازلات ومساومات مع الحكومة ولم يعترفوا بالأساقفة والكهنة الذين لم يكن سلوكهم نموذجياً، حتى في حياتهم الشخصية. تحوّلت الحركة الدوناتية الى تمردٍ صريحٍ للفقراء ضد الأغنياء، مع تنامي الأزمة في الامبراطورية الرومانية المالكة للعبيد. صارت هذه الحركة تُعرف باسم حركة الأغونيين Agonists (مُحاربي المسيح) أو الجوّالين Circumcellions الذين اقتحموا عقارات الأغنياء وطالبوا بتحرير العبيد والغاء الديون. واجهت الحكومة صعوبات كبيرة في قمع الحركة. استمرت المُجتمعات الدوناتية في بعض أجزاء شمال افريقيا حتى الغزو الاسلامي في القرن السابع عشر. في حين أن الدوناتيين-الآغونيين لم يختلفوا في مسائل العقيدة ولم يخلقوا انقساماً عميقاً في الكنيسة، أصبحت الطائفة الأريوسية Arius حركة المُعارضة الرئيسية في الكنيسة في القرن الرابع، بعد أن صارت المسيحية الديانة المُهيمنة. كان المركز الرئيسي للأريوسية هو مصر، وخاصةً الاسكندرية حيث كانت التقاليد الهلنستية قويةً للغاية. كان آريوس قسيساً في الاسكندرية. لقد حاول أن يُخفف من السخافات الكُنسية العقائدية عن الاله، وجعلها أكثر قبولاً لدى الأشخاص المنفتحين فكرياً. قال آريوس أن يسوع المسيح لم يولد الهاً، ولكن خلقه الاله. نشأ هناك خلافات كبيرة حول طبيعة يسوع المسيح التي طرحها آريوس. أيدت الجماهير في مصر، وخاصةً في الاسكندرية آريوس، واندلعت معارك في الشوارع حول هذه القضية. كان الناس مدفوعين بالاستياء السياسي في مصر من السياسة الامبراطورية المركزية. لكن كان أهم شيء بالنسبة الى الامبراطور هو الحفاظ على وحدة الدولة الرومانية. اتخذ الامبراطور قسطنطين، رغم أنه لم يكن مسيحياً بعد، خطواتٍ قوية للتغلب على الانقسام.استدعى المُجمع المسكوني الأول لنيقية first Ecumenical Council of Nicaea في عام 325، وأدان المُجمّع بدعة آريوس، ومنذ ذلك الحين فصاعداً اعتبرت الكنيسة الأرثذوكسية أن آريوس هو أسوأ مُهرطق وأكبر مّذنب. ومع ذلك، استمر وجود الآريوسية لفترة طويلة. كما انتشرت خارج الامبراطورية وتبناها القوطيين Goths والفانداليين Vandals واللانغوبارديين Langobards الذين صاروا كاثوليكيين فيما بعد. هُزِمَت الأريوسية، لكن تطورت تعاليم مُشابهة بعد ذلك بوقت قصير. لقد ابتكرها أُسقُف القسطنطينية نسطور (أو نيستوريوس) Nestorius، الذي قال أن يسوع المسيح مكون من جوهرين يعبر عنهما بالطبيعتين وهما: جوهر إلهي وهو الكلمة، وجوهر إنساني أو بشري وهو يسوع، فبحسب النسطورية لا يوجد اتحاد بين الطبيعتين البشرية والإلهية في شخص يسوع المسيح، بل هناك مجرد صلة بين إنسان والألوهة، وبأنه لا ينبغي تسمية العذراء أم الاله، بل حاملة المسيح. نُوقِشَت بدعة نسطور عام 431 في مُجمّع أفسس المسكوني الثالث third Ecumenical Council of Ephesus وتمت ادانتها. ومع ذلك، كان لهذه التعاليم تأثير قوي في الشرق حيث وُجِدَت الديانات المُزدوجة لفترة طويلة. لقد عاشت النسطورية كدينٍ مُستقل في الشرق، ولعِبَت دوراً رئيسياً في آسيا الوسطى في العصور الوسطى وتتبناها اليوم مجموعات عرقية صغيرة (الايزور والموارنة في لبنان والمسيحيون السوريون في جنوب الهند). في سياق النضال ضد الأريوسية والنسطورية، نشأ تيار مُعاكس في القرنين الرابع والخامس، فيما يتعلّق بطبيعة يسوع المسيح. أكد مُمثلو هذه المدرسة الفكرية أن يسوع المسيح لم يكن انساناً في الأساس، وأن طبيعته الالهية قد أخفت طبيعته الانسانية لدرجة أن يسوع المسيح كان الهاً بالمعنى الكامل للكلمة. شكّلَت هذه التعاليم أساس الطائفة المونوفيزية Monophysite (في اليونانية Monos تعني واحد، وPhysis تعني الطبيعة) التي أسسها الأسقف أوتيخوس Eutychus. كان للمونوفيزية تأثير واسع النطاق في الامبراطورية الرومانية الشرقية في القرن الخامس، وتجذّرَت في عددٍ من البلدان على الرغم من أن المُجمع المسكوني الرابع في خلقيدونية Fourth Ecumenical Council of Chalcedon عام 451. كانت المونوفيزية مظهراً من مظاهر النضال من أجل الاستقال الكُنسي والسياسي عن بيزنطة. تستمر الكنيسة الأرمينية والقبطية والأثيوبية بالتمسك بالتعاليم المونوفيزية. أثّرَ التاريخ المُعقّد لتطور المُجتمعات المسيحية على العقيدة المسيحية. تحوّلت المسيحية تدريجياً، بعد أن تطوّرَت في الأصل كطائفة يهودية، الى دينٍ عالمي لأنها كانت تُلبّي بشكلٍ مُتزايد احتياجات ورغبات مجموعات جديدة من السكان من خلفيات عرقية وطبقية مُختلفة. وبالتالي أصبحت العقيدة المسيحية مُعقدة ومتناقضة للغاية. يكاد لا يوجد دين آخر في العالم يحتوي على الكثير من التناقضات الداخلية والأفكار غير المنطقية مثل المسيحية. التناقضات بين الأناجيل المُختلفة غير مُهمة نسبياً مُقارنةً بتلك الموجودة في المفاهيم المسيحية الأساسية. تتعارض فكرة الاله القدير والرحيم بشكلٍ حاد مع فكرة وجود اله يتألم ويُعاني من خطايا الناس بموته. تتناقض نفس فكرة الاله القدير والرحيم مع فكرة أن الجنس البشري كله في حالة خطيئة، وأن المذنبين سيُعاقبون في الحياة الأُخرى. كان على الاله ان كان رحيماً وقادراً على كل شيء، أن يخلق مصيراً مثالياً للعالم والناس، وأن لا يحكم عليهم بالبؤس الأبدي فقط لأنه خلقهم أشراراً. تتناقض العقيدة حول القدر المكتوب مع التعاليم الكُنسية حول الارادة الحُرّة. قدّر الاله أن يكون بعض الناس تقيين في الحياة لينعموا بالحياة السماوية الأبدية، وقدّر حياةً بائسةً ومليئةً بالمُعاناة للبعض الآخر. في الوقت نفسه، يتمتع الانسان، وفقاً للتعاليم المسيحية، بارادةٍ حُرّة ويُمكنه اختيار طريق العمل الصالح أو طريق الخطيئة، ويقوم الاله بمُكافئتهم أو معاقبتهم على هذا. حاول اللاهوت المسيحي بكل أطيافه حل هذه التناقضات بطُرقٍ مُختلفة، ولكنها جميعها فشلت تماماً. من الواضح أن المفهوم المسيحي للثالوث المقدس غير منطقي. يقول المسيحيون أن الاله واحد، لكن في نفس الوقت هناك ثلاثة منهم: الأب والابن والروح القُدُس. يُرسل الأب ابنه الى الأرض. وهناك يُولَد الابن من الروح القدس وامرأة. على الأرض، يقول الابن للناس باستمرار انه يُنفذ ارادة أبيه فقط، وليس ارادته الخاصة. يُصلي الى أبيه، ويطلب منه القوة لتحمل اعدامه الرهيب، بل ويطلب منه أن يُنقذه من هذا الاعدام. لكن يتضّح أنه وأبيه والروح القدس، الذي هو أيضاً أبيه الذي وضع حملاً في أمه، كلهم نفس الاله. من المستحيل استيعاب هذا بالعقل الانساني. ان تفسير هذا الالتباس هو ببساطة أن الأجزاء المُكونة من الثالوث الأقدس تأتي من مصادر مختلفة: الأب هو يهوه-ساباوث اليهودي، والابن هو يسوع المُخلّص، والروح القدس هو الملأ الأعلى Pleroma وهو الكائن الالهي المُجرّد للغنوصيين الذي وضعوه في مستوىً أعلى بكثير من الاله اليهودي يهوه، وحتى أنهم واجهوهما ببعضهما. أدى الجمع غير المبدأي بين هذه الأفكار المُختلفة الى الثالوث المسيحي المقدس. يحتوي الايمان المسيحي على العديد من التناقضات والتفسيرات غير المنطقية للعقائد. هذه الطبيعة المتناقضة للعقائد والايديولوجيا المسيحية المعقدة عززها الصراع العقائدي الشرس نفسه بين الاتجاهات المختلفة، وهو صراع عَكَسَ الصراع بين القوى الطبقية المختلفة التي كانت موجودة في المسيحية المبكرة. لكن جماهير المؤمنين لم يُحيرهم هذه التناقضات على الاطلاق. هذا أمر مفهوم، فالمسيحية تطورت كدين للعبيد والجماهير المضطهدة التي كانت أقل حاجةً الى العقيدة. لقد كانوا بحاجةٍ الى الايمان بالهٍ صالحٍ ومُخلّص وعزاءٍ ديني. في الدين عادةً ما يكون العنصر العاطفي قوياً، وهذا صحيح بشكلٍ في الحركات الدينية المسيحية الجماعية. عندما انضم الى الحركات أُناسٌ من طبقاتٍ أُخرى الى التجمعات المسيحية، وهم أعضاءٌ من المُجتمع الروماني-الهلنستي المثقف المُمتلئين بروح الفلسفة اليونانية المتأخرة بمثاليتها المتطورة، فقد جلبوا معهم اهتماماتهم وأفكارهم، لكنهم لم يتمكنوا من تطوير عقيدةٍ منطقية. ظهرت قواعد ومبادئ أخلاقية مختلفة تماماً خلال الصراع الايديولوجي الطويل في المسيحية. بالاضافة الى الأخلاق الرواقية المتطورة والمبادئ الأخلاقية المتوافقة مع مشاعر العبيد والمضطهدين، فقد استوعبت المسيحية أيضاً المفاهيم الفجة والمُثيرة للاشمئزاز للطبقات الطفيلية مالكة العبيد. تحتوي الأناجيل والرسائل على عددٍ من العبارات الأخلاقية التي لا تتعارض مع الأخلاق الشائعة في عصرنا. على سبيل المثال: "انما تُعرَف الشجرة من ثمارها". وكذلك: "لا ينبغي سكب النبيذ الجديد في جلود النبيذ القديمة"(جـ). و"ليس هناك نبيٌ على أرضه". و"لا يمكن لأحد أن يخدم سيدين في نفس الوقت" و"لا يؤاخذ المرء بما في داخله، بل بما يخرج من فمه". و"لماذا تنظرُ القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟" و"السبت انما جُعِلَ لأجل الانسان، لا الانسان لأجل السبت" و"من لا يعمل لا يأكل"، الخ. كل هذه الأفكار الأخلاقية المسيحية مستوحاة من الأنظمة الفلسفية الأخلاقية القديمة، وخاصةً من الرواقيين، وعلى الأخص سينيكا "عم المسيحية"، كما سماه انجلز. ومع ذلك، الى جانب هذه المبادئ الأخلاقية، تم التعبير عن الأفكار التي تتعارض مع الوعي الأخلاقي الأساسي. يتخلى يسوع المسيح علانيةً عن أمه وأخواته (متّى، الاصحاح 12، الآيات 47-50). ويسوع لا يدع تلميذه يدفن أمه الميتة بعد أن يطلب منه ذلك (متّى، الاصحاح 8، الآيات 21-22). وضرب مثالاً على لصٍ يُدير الأموال يتجنب العقوبة المبررة بذكاء، وفي هذا الصدد يُقدم النصيحة التالية بجديةٍ تامة: "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم" (لوقا، الاصحاح 16، الآيات 1-9). ويذكر الكتاب المقدّس بشكلٍ ساخر أن على الأثرياء أن يصبحوا أغنى وأن على الفقراء أن يُحرَموا مما لديهم. هذه ليست عبارةً عَرَضية. تكررت هذه الفكرة في الأناجيل 5 مرات: مرتين في انجيل متى، ومرتين في انجيل لوقا ومرة في انجيل مرقس (متّى، الاصحاح 13، الآية 12-متّى الاصحاح 25، الآية 29) (لوقا، الاصحاح 8 الآية 18، والآيات 19-26) (مرقس، الاصحاح 4، الآية 25). من الواضح أن هذه هي أخلاق مالكي العبيد والمُرابين. كانت الطبيعة المُتناقضة للأخلاق المسيحية انعكاساً مُباشراً للتكوين المُتغيّر للمجتمعات المسيحية. كانت في البداية تتألف من الفقراء اليهود المتمردين الذين تميزوا بالروح القتالية. عندما اضمحلّت هذه الروح (بعد هزيمة تمرد اليهود) تم التعبير عن مشاعر الجماهير المضطهَدة في المسيحية على شكل تمجيد الفقراء وادانة الأغنياء: "ولكن ويلٌ لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم. ويلٌ لكن أيها الشباعى، لأنكم ستجوعون!" (لوقا، الاصحاح 6، الآيات 24-25). "تعالوا الي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أُريحكم" (متّى، الاصحاح 11، الآية 28). "هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين، لأن كثيرين يُدعَونَ وقليلين يُنتَخَبون" (متّى، الاصحاح 20، الآية 16). ولكن، بينما كانت هذه الأخلاق تُعبّر عن تعاطفها مع العبيد والمظلومين وتعدهم بالمكآفأة في الجنة، لم يطرح مؤلفوا الأناجيل مسألة تحرير العبيد على الأرض. لقد اعتبروا العبودية أمراً طبيعياً لا يقبل الشك. عندما انضم مُلّاك العبيد والأثرياء الى المجتمعات المسيحية، عَكَسَت الأناجيل بشكلٍ أكثر وضوحاً الرأي القائل بأن العبيد هُم أُناسٌ بلا حقوقٍ على الاطلاق. على سبيل المثال، يُعطي يسوع هذه النصيحة لجمهوره في انجيل لوقا: "ومن منكم له عبدٌ يحرث أو يرعى، يقول له اذا دخل من الحقل: تقدم سريعاً واتكئ. بل ألا يقول له: أعدد ما أتعشى به، وتمنطق واخدمني حتى آكل وأشرب. وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت؟ فهل لذلك العبد فضلٌ لأنه فعل ما أمرته به؟ لا أظن." (لوقا، الاصحاح 17، الآيات 7-9)، بكلماتٍ أُخرى، على العبد أن لا يأتي من الحقل الى منزل سيده لكي يستريح ويأكل ويشرب، بل على سيده أن يستعبده في منزله كذلك. يؤمن مؤلّف هذه النصيحة أنه ليس من الضروري اطلاقاً ترك العبد يرتاح بعد يوم عملٍ شاق. ومع ذلك، على الرغم من كل التناقضات في المبادئ الاجتماعية والأخلاقية في الأناجيل، فان معياراً واحداً يسود في المسيحية: تعليم التسامح والاستكانة وغفران الاهانات. يتم تقديم هذه التعاليم في الاناجيل الى أقصى الحدود، بشكلٍ أساسي الى الحد الذي يستحيل تطبيقه. يعِظ يسوع: "أحبوا أعداءكم، باركوا لأعينكم، أحسنوا الى مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم" (متّى، الاصحاح 5، الآية 44)... "وأما أنا فأقول لكم: لا تُقاوموا الشر، بل من لَطَمَكَ على خدّكَ الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً" (متّى، الاصحاح 5، الآية 39). هذه هي الأخلاق التي كانت دائماً تجذب الكثير من الناس الى المسيحية، حيث اعتقد الكثيرون أن هذه أخلاق كاملة. ولكن يجب القول، أولاً، أنه باستثناء حفنة من الأفراد، لم يُمارس المسيحيون هذا المبدأ بالمرة. ثانياً، ان الفكرة المنطقية التي تتضمنها هذه التعاليم، أي ضبط النفس واحترام الذات والآخر هي فكرة ليست مسيحية بالأصل، ولكنها مُقتبسة من النظام الأخلاقي الرواقي. ثالثاً، كانت تعاليم الانجيل هذه، في سياق الظروف الملموسة لمجتمع ملّاكي العبيد، هي دفاع واضح عن النظام القائم. على الرغم من أن الدعوة لمسامحة الاهانات كانت موجهة الى جميع الناس، الا أنه من الواضح تماماً أنها كانت دعوات موجهة الى العبيد والمضطهدين من أجل الاستكانة الى مضطهديهم، وليس العكس. كانت التعاليم المسيحية التي تحض على الاستكانة والتسامح تصطف، منذ البداية، الى جانب الاستغلاليين. ساعد الصراع بين الطوائف على توحيد المُجتمعات المسيحية وتقوية الأشكال التنظيمية للكنيسة المسيحية. أصبحت الطقوس المسيحية والعبادة المسيحية أكثر تعقيداً في سياق هذا الصراع. كانت العبادة المسيحية المبكرة بسيطة للغاية، وكانت الطقوس شبه معدومة. كان اسلوب التواصل البسيط بين الناس، وغياب الطقوس التي يُمكن أن تُفرّق بينهم، هي الشروط التي ضمنت للمسيحية شعبيةً أكبر من العبادات الأُخرى. من الجوانب الثورية للمسيحية أنها ألغت الطقوس الدينية القديمة التي قسمت الناس، وهكذا صارت ديانةً عالمية. اقتصرت الطقوس المسيحية الأصلية على التجمعات العَرَضية والأعياد في ذكرى مؤسس التعاليم. كان المشاركون في هذه الأعياد يأكلون الخبز ويقرأن الكتاب المقدس. كانت تجمعات لولائم الحب love – agape. جَلَبَ أتباع العبادات الأُخرى معهم عناصر مختلفة من الطقوس القديمة عندما انضموا الى التجمعات المسيحية. ان الدور الرئيسي في الطقوس المسيحية هو الألغاز والأنشطة الدينية التي تهدف الى كسب مباركة الاله. ان أقدم وأهم الألغاز المسيحية هي المعمودية والقربان الرباني Comm-union-. ان هذا القربان، حيث يتلقى المؤمنون الخبز والنبيذ، أي جسد المسيح ودمه، هو ببساطة نسخة مُعدّلة من طقوس قديمة تطورت على ما يبدو من الطوطمية وتطورت بشكلٍ خاص في الديانات الزراعية. خلال هذه الطقوس يقتل المؤمنون ويأكلون اله الحياة النباتية في شكله البشري أو الحيواني البديل. تضمنت عبادات ميثرا وآتيس وآلهة شرقية أُخرى مراسيم تلقّي الخبز والنبيذ. يبدو أن هذا الطعام والشراب المقدس كان يُعتبر تجسيداً للاله. تبنّت المسيحية طقوس تلقي القربان المقدس في عبادة ميثرا بدون أي تغييرات تقريباً. ومع ذلك، في المسيحية، فقد تم دمجها مع طقوس الفصح اليهودية القديمة المتمثلة في قتل حَمَل. تم تصوير مؤسس المسيحية، بعد أن ضحّى بنفسه، على أنه حَمَل. (يُصوّر يسوع في سفر الرؤيا على أنه حمل الهي). هكذا نشأت طقوس عيد الفصح المسيحي. تحوّل تلقي القربان المُقدّس مرةً في السنة الى حفل أسبوعي يأكل فيه المؤمنون جسد ودم الاله الذي ضحّى بنفسه. ظهر سر المعمودية بعد القربان المُقدس، وتمت استعارته أيضاً من عباداتٍ أُخرى. تعود طقوس التعميد بالماء الى طقوس المرور initiation القديمة (مرور المراهقين بطقوس ومراحل مُعينة لكي يصبحوا رجالاً في مجتمعاتهم). كانت طقوس المرور والتحضير لدخول الجمعيات السرية في الديانات الشرقية القديمة تتم دائماً من خلال التطهير الطُقُسي. اعتُبِرَت طقوس القبول في الطوائف السرية بمثابة ولادة ثانية. تم استخدام طقوس الاستحمام في الألغاز الاليوسينية وفي ألغاز ديونيسوس وايزيس. ولعبت دوراً أكثر بروزاً في طقوس الطائفة المندائية Manda (طائفة مجهولة الأصل بعقيدة ثنائية واضحة تعبد يوحنا المعمدان، هناك ما بين ألفين الى 3 آلاف من أتباع هذه الطائفة في جنوب العراق وايران). أصبحت المعمودية بالماء، في المسيحية، وسيلةً لغسل الرذيلة، وصارت ذات أهمية خاصة فيما يتعلق بالتعاليم حول "الخطيئة الأصلية" التي يُفتَرَض أن الناس قد تحرروا منها بموت المُنقذ. تُغسَل هذه "الخطيئة الأصلية" نفسها من المؤمن أثناء المعمودية بالماء. ظهرت ألغاز (أسرار) أُخرى في وقتٍ لاحقٍ فقط، ليُصبحَ مجموعها سبعة أسرار اليوم في الكنيسة المسيحية. تم وضع هذا الرقم في الأصل من قِبَل الكنيسة الكاثوليكية في مُجمع ليون المسكوني في القرن الثالث عشر، ثم اقترضته الكنيسة الأرثذوكسية الشرقية. وهكذا كانت المسيحية، بالشكل الذي تطورت عليه في القرنين الثاني والثالث، عقيدةً شديدة التعقيد ومشوشةً ومتناقضة. كانت تواجه صعوبةً شديدةً في الحفاظ على الوحدة التي كانت سطحيةً منذ البداية. كانت مزيجاً من التعاليم اليهودية حول وحدانية الاله القدير، والفكرة اليهودية عن المسيح المُخلّص التي تحولت الى مُخلّص روحي واندمجت مع صورة الآلهة الزراعية التي تموت وتُبعَث، والتعاليم الغنوصية عن التناقض بين الروح والمادة والوسيط الالهي بينهما Logos، وعلم الأخرويات والايمان بمملكة النعيم المستقبلية والروح الشريرة (الشيطان) المجوسية، والعبادة الشرقية القديمة للالهة الأم (والدة الآلهة). كما تبنّت العقيدة المسيحية العديد من العناصر الأُخرى، مثل طقوس الدفن القديمة مع الاعتقاد السائد بأن الروح تحيا حياةً أُخرى، والممارسة الشامانية في طرد الأرواح، وطُرُق الشفاء السحرية، والعبادة القديمة المتعلقة بالناغوالية التي تحوّلت في المسيحية الى الملائكة الحارسة، وما الى ذلك، وبقايا الطقوس والمفاهيم الطوطمية القديمة (الحمل بلا دنس، والقربان المقدس). كان اضطهاد المسيحيين، من الظروف المهمة التي أثرت على تطور المسيحية المُبكرة. نشأت المسيحية كدينٍ للعبيد والمضطهدين، متضمنةً الاحتجاج العفوي للجماهير المسحوقة ضد نظامٍ اجتماعيٍ غير عادل. أصبح الدين خطيراً بعد أن اكتسب شعبية، مما أدى الى أن أثار قلق الطبقات الحاكمة، بل وحتى اتخذوا ضده مواقف مُعادية. بعد ذلك، بالَغَ المسيحيون أنفسهم في تضخيم اضطهاد السلطات الحاكمة للجماعات المسيحية. افتخر قادة الكنيسة بالتضحيات التي قدمها المسيحيون الأوائل للدفاع عن ايمانهم وأثنوا على بطولات الضحايا المسيحيين. يزعم مؤرخوا الكنيسة أن هناك عشرة اضطهادات عظيمة، عدا عن الاضطهادات الصغيرة. ولكن، فان عدد ومدى ما سُمّيَ بالاضطهادات لم يكن بالقدر الذي تم تصويره في التقاليد المسيحية اللاحقة. كانت أولى "الاضطهادات" تحت حكم الأباطرة نيرون ودوميتيان Domitian اسطوريةً وربما لم تحدث أبداً. ليس من الواضح تماماً ما اذا كان المسيحيون قد تعرضوا للاضطهاد في عهد تراجان Trajan. تم تسجيل الاضطهاد الأول على الرغم من أنه محدود، في عهد الامبراطور ديسيوس(249-251)، وكان أكبرها في عهد ديوكلتيانوس Diocletian وماكسيميان Maximian في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع. كانت أسباب الاضطهاد سياسةً صرف. رأت الحكومة أن الكنيسة المسيحية لم تكن مجرد وسيلة للاحتجاج على النظام السياسي القائم، بل كانت مُنافساً خطيراً. لكن هذه الاضطهادات أدت فقط الى فُقدان المُجتمعات المسيحية لعناصرها المترددة. أصبح التنظيم الكُنسي الفعلي أقوى في نضاله من أجل البقاء. حاول الأباطرة الفرديون وحُكّام المقاطعات أحياناً الاعتماد على التجمعات المسيحية وكهنتهم، ولكن دون جدوى. كان هذا يحدث بشكلٍ متقطعٍ في البداية. ولكن في أوائل القرن الرابع نشأ تحالف قوي بين الامبراطورية والمسيحية مما تحوّلت الى قوة اجتماعية مؤثرة. خَلص الامبراطور قسطنطين Constantine الى أنه بدلاً من مُحاربة الكنيسة المسيحية سيكون من الأفضل استخدامها لصالح الدولة. يُعتقد تقليدياً أن مرسوم ميلانو الذي صدر لعام 313، يُشير الى نهاية اضطهاد المسيحيين واعتبار المسيحية كدينٍ رسميٍ للدولة. ولكن، لم يتم اثبات وجود مثل هذا المرسوم على الاطلاق. لم يتحوّل قسطنطين الى المسيحية وظل وثنياً طوال حياته، لكنه دافع عن المسيحية وفضلها على الأديان الأُخرى لأنه رأى في منظمة الكنيسة المسيحية قوةً اجتماعيةً هائلةً يُمكن أن يعتمد عليها في نضاله. تم تعزيز تحالف الكنيسة المسيحية مع الدولة في سياسة الأباطرة الرومان الشرقيين والغربيين الذين دعموا الكنيسة بشكلٍ منهجي وتمتعوا بدعمها بالمقابل. أدى هذا التغيّر في مكانة الكنيسة المسيحية الى تغيرات داخلية كبيرة حيث تغيرت التركيبة الاجتماعية للمسيحية. في وقتٍ مُبكرٍ من القرن الثالث وحتى القرن الثاني، أي قبل فترةٍ طويلةٍ من تحوّل المسيحية الى ديانةٍ سائدة، فقد انضم، بالاضافة الى العبيد، أفرادٌ من الطبقات الحاكمة الى المجتمعات المسيحية. كانت النساء في العائلات الأرسطقراطية منجذباتٍ بشكلٍ خاص الى الدين المسيحي. كانت الكنيسة المسيحية تحظى بشعبيةٍ خاصة بين النساء الأرستقراطيات في روما. تُظهِر الحسابات التقريبية التي أجراها العُلماء أن المسيحية، قبل أن تتحول الى دين دولة، لم تكن بعد الدين الأكثر انتشاراً. حتى في المدن الكبيرة، انتمى جزء صغير نسبياً من السكان، ربما الخُمس أو حتى أقل، الى مجتمعاتٍ مسيحية. عندما أصبحت المسيحية دين الدولة نمت التجمعات المسيحية. انضمت قطاعات من الطبقة الوسطى من السكان وطبقة مُلاك العبيد الى الدين الجديد بشكلٍ جماعي. بعد ذلك، توقفت المسيحية عن أن تكون دين العبيد والمُضطهدين، وصارت ديانةً ساعدت الطبقات الحاكمة على السيطرة على الناس. تم التعبير عن مُعارضة هذا التحوّل في التوجه الطبقي للمسيحية من خلال الاتجاهات الديمقراطية في شكل حركات هرطقية مثل المونتانية (القرن الثاني) والدوناتية (القرن الرابع)، ولكن تم قمعها جميعها من قِبَل الكنيسة التي صارت أقوى بكثير. لكن كان انتشار المسيحية محدوداً لفترةٍ طويلة. كان الدين المسيحي في المقاطعات الغربية أقوى في المدن وأضعف في الريف. ظلّت بقايا المعتقدات الوثنية ماثلةً بين سكان الريف. ومن هنا بدأ استخدام الكلمة اللاتينية Paganus التي كانت تعني حرفياً "ساكن أو مواطن ريفي"، ليصبح معناها وثني، أو غير مسيحي. في الشرق الهلنستي، تمت الاشارة الى غير المسيحيين بالمصطلح اليوناني "τα εθνη" والذي يعني حرفياً "الشعوب". عندما أصبحت المسيحية الديانة المُهيمنة نشأت حركة خاصة من الرهبنة Monasticism.
مجموعة من الرُهبان
توقفت التجمعات المسيحية، بعد أن تحوّلت الى كنائس قوية، عن أن تكون ملاذاً من شرور العالم. لم تعد العضوية في الكنيسة تُخلّص المرء من الخطيئة. ثم بدأ أكثر المسيحيين تعصباً ترك عالم الخطيئة ليعيشوا حياةً مُنعزلةً مُكرسةً الى الاله، وهناك اتبعوا حياة الزهد. ظَهَرَ الرُهبان Monks الأوائل وأماكن المعيشة الرهبانية الأولى في مصر. يُعتَبَر القديس أنطونيوس Anthony والقديس باخوميوس Pachomius الرهبان الأوائل. ظهَرَت أديرة لاحقة في بلدان مسيحية أُخرى. تم استخدام الأديرة، في أوائل العصور الوسطى كملاجئ خلال الغزوات المُحتملة، ثم أصبحت هذه الأديرة ثرية بسبب التبرعات السخية وصارت قوةً اقتصادية رئيسية بالتدريج. ليس من السهل وضع تقييم عام للدور التاريخي للمسيحية الأولى. انها مسألة مُعقدة للغاية. شكّلَت المسيحية المُبكرة خطوةً الى الأمام بالمقارنة مع العبادات القديمة لأنها جعلت من المُمكن للشعوب متعددة القبائل أن تتحد معاً حول فكرةٍ مُشتركة، والفكرة هي المساواة، على الرغم من فهمها بشكلٍ تجريدي على أنها مساواة في الخطيئة. حتى أن لينين أشار الى الروح "الثورية الديمقراطية"(5) للمسيحية المبكرة. ذهبت المسيحية، من حيث الأخلاق الاجتماعية، أبعد من أخلاق الأديان القديمة البدائية. ولكنها كانت، مع ذلك، خطوةً الى الوراء مُقارنةً بالتعاليم الأخلاقية الرواقية على سبيل المثال. من وجهة نظر ثقافية، كان الايمان المسيحي، الذي- بالرغم من تناقضاته- تم تكييفه حتى تفهمه الجماهير، أدنى ثقافياً من ثقافة العصور القديمة بأسسها العلمية والفلسفة المتطورة وأعمالها الفنية الرائعة. توافقت هيمنة الايديولوجيا المسيحية، بايمانها بالمعجزات والنبؤات وازدرائها لمعرفة العالم الحقيقي، مع الانحلال الثقافي العام وتفكك الأخلاق والانحدار الى الهمجية التي بدأت مع سقوط الحضارة القديمة في أواسط العصور الوسطى. نحن نعرف العديد من الحالات التي دمّرَت فيها حشودٌ من المسيحيين المتعصبين الجاهلين آثار الثقافة القديمة والتي رأوا فيها عملاً من الشيطان، وقتلوا العلماء والفنانين. قام المتعصبون المسيحيون المتوحشون، في عام 415 في الاسكندرية وهي مركز العلم الهيلينستي، والذين حرضّهم الرهبان والكهنة بقيادة البطريرك كيريل Kyril بتدمير واحراق المكتبة الشهيرة التي تحتوي على كنوزٍ من المعرفة الهائلة وقتل العالمة البارزة هيباتيا Hypatia مؤلفة كُتُب قيّمة في الرياضيات والفلك والفلسفة. كانت احدى دوافع تدمير آثار العلم والفن في روما من قِبَل الغوثيين الغربيين West Goths عام 410، وأكثر من ذلك، من قِبَل الفانداليين Vandals عام 455، كان الدافع الى حدٍ كبير هو التعصب الديني. أظهر هؤلاء المسيحيون الجُدُد حماستهم الدينية الكبيرة بهذه الطريقة. بعد أن أصبحّت دين الدولة في الامبراطورية الرومانية أثناء انحلالها، انتشرت المسيحية، جنباً الى جنب مع الثقافة اليونانية-الرومانية، والجرمانية والسلافية. صار الغوثيين والفانداليين في القرن الرابع مسيحيين، وصار الفرانكيين Franks كذلك في أواخر القرن الخامس. تبنّت القبائل الجرمانية النائية بين القرنين السادس والتاسع المسيحية تدريجياً، مثل البافاريين Bavarians والفريسيين Frisians والألمانيين Alamanni والأنغلوساكسونيين Anglo-saxons. أما السلافيين فقد تحوّلوا الى المسيحية بين القرنين التاسع والعاشر. أصبحت كل أوروبا تقريباً مسيحية بحلول القرن العاشر. في الشرق، توغّلَت المسيحية على طول الطريق الى القوقاز (أرمينيا وجورجيا) في القرن الرابع، ولكن كان هناك معركة أصعب كان يجب شنها ضد الزرادشتية، ومنذ القرن السابع، معركةً ضد الاسلام، الذي تقريباً منَعَ انتشار المسيحية بشكلٍ أكبر في دول الشرق. ومع ذلك، لم تقضي المسيحية على الأديان الأُخرى بعد أن تغلغلت عند الشعوب الوثنية في أوروبا (وبلدان أُخرى). على العكس من ذلك، اندمجت معها، ودمجت في داخلها الطقوس المحلية وشخصياتها الأسطورية. هكذا تطوّر التوفيق بين المعتقدات الدينية. اندمجت الآلهة المحلية مع القديسين المسيحيين (على سبيل المثال، أشار السلافيون القُدامى الى الاله بيرون Perun القديم باسم النبي الياه Elyah). تم توقيت الطقوس الشعبية المُتعلقة في المقام الأول بالتقويم الزراعي لتتزامن مع تقويم الكنيسة (يوم الغطاس Epiphany والشروفيتايد Shrovetide والأحد الأبيض Whitesunday، الخ).بقيت أسماء صور الأساطير الأقل شأناً، مثل حوريات الماء المختلفة وعفاريت الغابة والبراونيز والايلفز والعمالقة، كما هي. لكن الكنيسة علّمت الناس أن يفكروا بها كقوى شريرة. بدأ المُبشرون المسيحيون، منذ زمن الاكتشافات العظيمة، أي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بأخذ الدين الى خارج العالم القديم، ليس فقط باستخدام الصليب، بل باستخدام السيف والنار كذلك. أصبحت المسيحية، بحلول أوائل القرن العشرين، الديانة الأكثر انتشاراً في العالم. كانت شؤون الكنيسة وعلاقاتها تعكس مجرى التاريخ السياسي. أدى الانقسام السياسي والثقافي للامبراطورية الرومانية الى غربية وشرقية (القرنين الثالث والرابع) الى الانفصال التدريجي للكنيسة الى شرقية وغربية. في الغرب، بسبب الانحلال، ولاحقاً الغاء سلطة الامبراطور وسقوط الامبراطورية (حوالي 476)، اكتسب رئيس الكنيسة، وهو أُسقُف روما المُلقب بالبابا، سُلطةً استثنائية. في الشرق، هناك حيث استمرت الامبراطورية، لم يستطع بطاركة الكنيسة (القسطنطينية وأنطاكيا والاسكندرية والقدس) أن يكتسبوا تلك السلطة. لم يفعلوا شيئاً عملياً ليستقلوا عن الأباطرة. تعرّض استقلال الكنيسة لضربة قوية بشكلٍ خاص خلال حركة تحطيم الأيقونات البيزنطية iconoclast في القرنين الثامن والتاسع. ومن أجل حرمان الكنيسة من أي استقلالية، حظر الأباطرة عبادة الايقونات (مما أضعف جاذبية طقوس الكنيسة) وصادروا الأراضي التابعة لها. تمت العودة الى عبادة الايقونات عام 842، لكن الأرض لم تُعاد الى الكنيسة، وتم تقويض استقلالها تماماً. هذا هو بالضبط السبب في أن البطاركة الشرقيين لا يخضعون لحكم بابا روما. ولكن، فقد استمر هذا الأخير في الحصول على المركز الأول في العالم المسيحي بشكلٍ مُتزايد. تراكمت الخلافات التنظيمية والعقائدية بين الكنيستين الشرقية والغربية، والتي عَكَسَت الصراع السياسي، وأدت في النهاية الى الفصل الرسمي بين الكنيستين عام 1054. ان الخلافات الرئيسية حول العقيدة لا تزال تقسم الكنيستين الغربية (الروم الكاثوليك) والشرقية (اليونانية الأرثذوكسية) هي كالتالي: 1- تأتي عقيدة الكنيسة الكاثوليكية بأن الروح القدس ينبثق من كُلٍ من الأب والابن، على عكس الكنيسة الأرثذوكسية الشرقية التي تؤكد أن الروح القدس ينبثق من الأب فقط. لطالما اعتبر قادة الكنيستين أن هذا الخلاف هو الأهم، وحتى الوحيد، الذي لا يُمكن المساومة فيه. 2- تعتقد الكنيسة الكاثوليكية أن القديسين يُقدمون خدماتٍ للاله. تُشكّل هذه الأعمال نوعاً من تبرير أفعال الكنيسة. 3- ممارسة الكنيسة الكاثوليكية للغفرانات التي تبيعها الكنيسة من الصندوق المقدس. 4- يرتبط بهذه التعاليم أيضاً التعاليم الكاثوليكية عن (المطهر) (المُعتَمَد في مجلس فلورنسا عام 1439) حيث يتم تطهير أرواح الخطأة المُحترقة في النار، حتى يتمكنوا من الذهاب الى الجنة. 5- تقول الكنيسة الكاثوليكية بالحَبَل بلا دنس، والذي نشأ في القرن التاسع وارتقى الى عقيدة عام 1854. 6- العقيدة التي تأسست عام 1870، القائلة بأن البابا لا يُمكن أن يُخطئ في المسائل الايمانية. تختلف طقوس الكنيسة الكاثوليكية عن طقوس الأرثذوكس: يتم التعميد برش الماء على الفرد بدلاً من الطريقة الأرثذوكسية في الغمر. يقوم الكاثوليك بدهن البالغين بدلاً من الرُضّع. مُناولة الناس الدنيويين الخبز فقط،، بدلاً من الخبز والنبيذ اللذين يكونان فقط لرجال الدين، واستخدام الخبز الفطير للقربان المقدس، ورسم الصليب على الجسد بخمسة أصابع عند الكاثوليك بدلاً من ثلاثة عند الأرثذوكس، واستخدام الكاثوليك للغة اللاتينية في الكنيسة، الخ. الاختلافات الكُنسية في الكاثوليكية: لا يُسمح لرجال الدين بالزواج (فقط الراهبات والرهبان في الكنيسة الأرثذوكسية الشرقية)، واللوائح ضد ترك الكهانة، ومؤسسة الكرادلة، والموقع الأساسي للبابا، والاعتراف بواحد وعشرين مُجمعاً مسكونياً بدلاً من السبعة التي تعترف بها الكنيسة الشرقية، واللوائح ضد العلمانيين في قراءة وتفسير الكتاب المُقدّس على الرغم من تعديلها (تعديل اللوائح)، وتحريم الطلاق. في مُعظم هذه الاختلافات، من الواضح أن الكنيسة الكاثوليكية هي منظمة قوية طوّرَت على مر القرون طُرقاً وأساليب متنوعة ومرنة للتأثير على المؤمنين وتتمتع بسلطة سياسية هائلة في العديد من البلدان. استمرت العزلة بين الكنيستين الكاثوليكية والارثذوكسية حتى يومنا هذا، على الرغم من أنه لم يعد هناك أي اشتباكات دموية بين مؤيدي الكنيستين. حاولت الكنيسة الكاثوليكية في مناسباتٍ عديدة، السيطرة على الكنائس الشرقية من خلال تقديم تنازلات صغيرة من حيث الطقوس مما أسفر عن مجلسي فلورنسا عام 1439 وبرست عام 1596. استولى هذا الأخير على جزء من سكان بيلاروسيا وأوكرانيا الغربية وكانوا يعتزمون تقريبهم من بولندا الكاثوليكية. لكن هذا الاتحاد لم يُخفف من الخلافات الدينية، بل جعلها تشتد. ظلت هذه الوحدة قائمةً حتى أربعينيات القرن العشرين. أدى الصراع الطبقي في أوروبا خلال العصور الوسطى الى ظهور عددٍ من الطوائف والاتجاهات الهرطقية التي عكست الاحتجاج العفوي ضد الاضطهاد الكُنسي الاقطاعي. كان من بينهم البوليسيانية Paulicians في بيزنطة (من القرن السابع الى القرن التاسع) والبوغوميليين Bogomiles في بلغاريا (من القرن العاشر الى القرن الثالث عشر وما بعده) والباتارينيين Patarines والكاثاريين Catharists والألبيجينسيين Albigenses والويدينسيين Waidensians في البلدان الغربية (من القرن الحادي عشر الى القرن الثالث عشر). كان الأساس الايديولوجي لجميع هذه الطوائف هو الزرادشتية وعقيدتها الثنوية حول العداء المستأصل بين الخير والشر: العالم المادي كله والجسد البشري من خلق الروح الشريرة (الشيطان Satanail)، أما الروح الانسانية وكل شيء روحي فقد خلقها الهٌ طيب. وهكذا، اعتقاداً منهم أن العالم المادي كان كله شريراً، فقد بشّر أعضاء هذه الطوائف بالعودة الى الحياة التقشفية البسيطة التي عاشها المسيحيون الأوائل، ورفضت الكنيسة وطقوسها. لقد قامت الكنيسة، مع سلطة الدولة الاقطاعية، بقمع جميع مظاهر المُعارضة الجماهيرية العفوية، بلا رحمة. من أجل تصفية هذه الطوائف بالكامل، أنشأ البابا في نهاية القرن الثاني عشر محكمةً كُنسيةً خاصة سُميت بمحاكم التفتيش المُقدسة. تم احضار المهرطقين أو حتى المُشتبه بهم أمام محاكم التفتيش التي كانت، بعد التعذيب الوحشي، يحرقون المُتهم على عمودٍ خشبي. تسلمت الرهبانية الدومينيكانية محاكم التفتيش، منذ القرن الثالث عشر فصاعداً. لم يضطهد المُحققون الهراطقة فحسب، بل اضطهدوا "الساحرات" أيضاً. تم نشر كتاب (مطرقة الساحرات) Malleus Maleficarum البغيض عام 1487 كمُرشدٍ لصيد الساحرات وأعداء الكنيسة الآخرين. أحرقت محاكم التفتيش أو عذبت حتى الموت مئات آلاف الضحايا الأبرياء. كانت هذه المحاكم نشِطةً بشكلٍ خاص في اسبانيا (محاكم التفتيش الملكية التي بدأت عام 1478). عززت الحياة السياسية والثقافية الأكثر نشاطاً، مُقارنةً بأوروبا الشرقية، الأدب الديني والفلسفي الأكثر شمولاً. بُذِلَت مُحاولات لجعل العقائد الكُنسية أكثر توافقاً مع ما بقيَ من تعاليم وعلوم العصور القديمة. أدى هذا الى ظهور تعاليم كُنسية خاصة تُدعى بالتعاليم المدرسية (السكولاستيكية) في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ناقش السكولاستيون بأسلوبٍ "علمي" مُختلف القضايا الدينية، وحاولوا التوفيق بين تعاليم الكتاب المقدس وفلسفة أرسطو الذي كان الكاتب الكلاسيكي الوحيد الذي كان لا يزال يُذكر في مناقشاتهم. تم وضع العلم، أو ما كان يُسمى آنذاك بالعلم، وكذلك الفلسفة، في خدمة الدين. كان هذا عندما تطوّر القول "الفلسفة هي خادم اللاهوت" Philosophia est ancilla theologiae.كان أول وأشهر سكولاستي هو القديس انسلم Saint Anselm، رئيس أساقفة كانتربر،، وبيتر أبيلارد Peter Abelard، وألبيرت العظيم (البيرتوس ماغنوس Albertus Magnus) والقديس توما الاكويني الذي لا يزال يُعتَبَر بين الكاثوليكيين عالماً وفيلسوفاً غير مسبوق. كانت مراكز العلوم السكولاستية هي جامعات باريس واكسفورد وبولونيا في ايطاليا. على عكس هؤلاء اللاهوتيين، اللذين حاولوا تبرير العقيدة المسيحية، فان قادة الكنيسة الآخرين، الذين أدركوا أن العلم والدين لا يتوافقان، كانوا يميلون الى التصوّف. لقد كافحوا من أجل الاندماج المباشر مع الاله، والتزموا بالزهد وكانوا يصلون بأنفسهم الى حالةٍ من النشوة "الروحية". كان لديهم ازدراء للعقل البشري والحس السليم. كانوا يميلون الى الرد على أي شخص يُشكك في عقيدة الكنيسة، باقتباسٍ من ترتليان: "أنا أؤمن لأن الأمر سخيف" Credo quia absurdum. كان لهذا الاتجاه الصوفي جذوره في القِدَم. ان أشهر ممثلي التصوف في العصور الوسطى كان القديس برنارد من كليرفو the Abbot of Clairvaux في القرن الثاني عشر. كانت الكنيسة، خلال العصور الوسطى، مُتشككةً للغاية في العلم الحقيقي. قوبِلَت محاولات اجراء علم حقيقي بمقاومة شديدة لأن رجال الدين اعتبروا ذلك، ولأسباب وجيهة، تهديداً لسلطة الكتاب المقدّس. كان الاضطهاد في العلوم كبير بشكلٍ خاص خلال عصر النهضة. تم سجن المفكرين الأحرار أو اعدامهم أو اجبارهم عن التخلي عن قناعاتهم. قضى الفيلسوف والعالم البريطاني روجر بيكون (القرن الثالث عشر) سنواتٍ عديدةٍ في سجن الدير. تم ادانة تعاليم كوبرنيكوس وحظرها. وتم كذلك اعدام الفيلسوفين والعالمين الايطاليين جيوردانو برونو Giordano Bruno ولوسيليو فانيني Lucilio Vanini بوحشية. اضطر عالم الفلك العظيم غاليليو غاليلي الى التخلي عن نظريته حول دوران الأرض حول الشمس بسبب ضغوطات الكنيسة. كما تعرّض العديد من العلماء الآخرين للاضطهاد. قامت الكنيسة الكاثوليكية، منذ عام 1559 بوضع قائمة "دليل الكتب المُحرمة" Index librorum prohibitorum وهي قائمة من المؤلفات العلمية المحظورة التي كانت الكنيسة تُحدثها دورياً. كان عدد شهداء العلم، بالاضافة الى الضحايا من الهراطقة والساحرات الذين أُعدمتهم محاكم التفتيش أكبر بمراتٍ عدة من أولئك الذين ماتوا دفاعاً عن المسيحية المُبكرة. لم يضطهد أي دين العلم والتفكير الحر بقدر ما قامت المسيحية بذلك. في أوائل القرن السادس عشر، شهدت بلدان دول أوروبا الوسطى والشمالية، صعوداً مفاجئاً لحركة برجوازية في الأساس تستهدف الاقطاع وتعبيرها الكُنسي (أي الكاثوليكية)، وطغيان وابتزاز البابوية. أصبحت هذه الحركة معروفة باسم الاصلاح. أنشأ هذا الاصلاح عدداً من الكنائس البروتستانتية التي انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. كانت أهم هذه الكنائس هي اللوثرية التي أصبحت مسيطرةً في ألمانيا والدول الاسكندنافية، والكالفينية في سويسرا وهولندا، والكنيسة البريسبيتارية Presbyterianism في سكوتلندا، والكنيسة الانغليكانية (الأسقفية) في بريطانيا. تختلف عقائد جميع الكنائس البروتستانتية عن الكاثوليكية، أولاً، في اعترافها بالكتاب المقدس باعتباره السلطة الوحيدة في الشؤون الدينية (تمنح الكنيسة الكاثوليكية والأرثذوكسية سُلطةً كبيرةً للكنيسة)، ثانياً، في اعترافهم بسيادة الايمان (الكاثوليكية تعتبر أن "الأعمال الصالحة" والتبرعات لها الأهمية القصوى)، ثالثاً، في اعترافهم بلغزين (سرّين) وليس سبعة: المعمودية والقربان المُقدّس، اللذين لا يكونا فعّالين الا اذا كانا مصحوبين بالايمان، وليس مجرّد فعل تلقائي كما في الكاثوليكية. كل هذه المبادئ كانت موجهة مُباشرةً ضد جهاز الكنيسة الكاثوليكية الاقطاعي المركزي القوي. نَقَلَت البروتستانتية مركز العلاقة الدينية من الكنيسة الى الفرد. بعد أن دمّرَ الاصلاح تنظيم الكنيسة وحرر شمال أوروبا من السلطة البابوية، نقل هذه السلطة الى أيدي قوىً أُخرى. قامت الكنيسة اللوثرية في ألمانيا والدول الاسكندنافية بتسليم هذه السلطة الى الأُمراء والملوك، وسلّمَت الكالفينية السلطة الدينية للبرجوازية الجمهورية، والكنيسة الأُسقفية في انجلترا سلّمت السلطة الدينية الى الملكية المُمركزة. كان الشكل الأكثر اتساقاً من البروتستانتية البرجوازية هو الكالفينية بروحها التقشفية الصارمة وتعصبها الكئيب وتعاليمها حول مسألة الأقدار predestination. مثّلَت الطوائف التي انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية أثناء الاصلاح ولاحقاً- تجديديي العماد Anabaptists، والبوهيميان بريثرين Bohemian Brethren، الخ- مثّلَت الحركات الديمقراطية الشعبية. لكن هذا لم يمنعهم، وخاصةً الطوائف البروتستانتية مثل الكويكرز Quakers والميثوديين Methodists والمعمدانيين Babtists والمينونايتيين Mennonites، من تسهيل الاستغلال الرأسمالي لجماهير المؤمنين. انقسمت البروتستانتية منذ بداياتها الى عددٍ من الاتجاهات والكنائس ولا تزال تنقسم الى طوائف مُختلفة. أما الكاثوليكية، فعلى العكس من ذلك، فقد كانت ولا تزال ديناً مركزياً بشكلٍ صارم. فقط في عام 1870 انفصلت مجموعة صغيرة من الكاثوليك (رجال دين وعلمانيون) في سويسرا وجنوب ألمانيا بشكلٍ رئيسي عن الكنيسة لأنهم رفضوا الاعتراف بالعقيدة الجديدة القائلة بأن البابا كان بلا خطيئة. قام هؤلاء الكاثوليك القُدامى ببعض التغييرات الديمقراطية في قيادة الكنيسة وقاموا بتبسيط الطقوس. في عام 1920 انفصل بعض رجال الدين والمؤمنين الكاثوليك في تشيكوسلوفاكيا عن روما، ولكن لأسباب سياسية بحتة: بسبب عداء الفاتيكان للدولة المُنشأة حديثاً. تأسست الكنيسة التشيكية المُستقلة. ولكن لم تؤثر هذه الانقسامات الا على جزءٍ صغيرٍ فقط من المُجتمع الديني الكاثوليكي الذي يبلغ عددهم أكثر من 580 مليون شخص حول العالم. تُمارَس الكاثوليكية في معظم أنحاء بلدان جنوب وغرب أوروبا. انه الدين السائد في البرتغال واسبانيا وايطاليا وايرلندا والنمسا وبولندا، وهي شبه مُهيمنة في فرنسا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والأجزاء الشمالية الغربية من يوغسلافيا (السلوفاك والكروات)، وتنتشر في المناطقق الجنوبية والغربية من ألمانيا الغربية، وشمال ألبانيا. يتواجد الكاثوليك في سويسرا وبريطانيا. لا تزال الكاثوليكية تُمارَس في الاتحاد السوفييتي بين الليتوانيين واللاتيفيين الشرقيين. في البلدان غير الأوروبية تسود الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية. يتواجد الكاثوليك كذلك في الولايات المتحدة وكندا (الكنديون الفرنسيون)، وقام المُبشرون بتحويل عدد كبير من مُختلف بلدان افريقيا وآسيا واستراليا الى الكاثوليكية. تنتشر العقيدة اليونانية الأرثذوكسية بجذورها البيزنطية في شرق وجنوب شرق أوروبا. لا يزال اليونانيون والبلغار والصرب والجبل الأسود وعدد كبير من المقدونيين والرومانيين يلتزمون بها. في روسيا، حيث تم تبني المسيحية رسمياً في القرن العاشر (في عهد فلاديمير عام 988) أصبحت الكنيسة الأرثذوكسية هي المُهيمنة. تم قبول الايمان الأرثذوكسي من قِبَل الروس والبيلاروس والأوكرانيين والمولدافيين والكارليين والكومي والمردفينيون وعدد كبير من شعب ماري والأودمورتيين وشعوب سيبيريا. في القوقاز، انضم الجورجيون وبعض الأوسيتيين والأبخاز وشعوب أُخرى الى الكنيسة الأرثذوكسية. دعمت الكنيسة ايديولوجياً النظام الملكي القيصري وكانت خاضعة لها عملياً. حاول مطارنة موسكو الذين ترأسوا الكنيسة الأرثذوكسية، ومنذ عام 1589 البطاركة، بشكلٍ دوري، تحصيل بعض الاستقلالية عن الدولة، ولكن دون جدوى. حَرَمَ بُطرس الأكبر الكنيسة من أي مظهر من مظاهر الاستقلالية حتى بالغاء البطريركية ووضع المُجمع المقدس الحاكم المؤلّف من رؤساء هَرِمين مُطيعين للقيصر على رأس الكنيسة عام 1721. أصبح رجال الدين الأرثذوكس "بيروقراطيين بالرداء المسيحي". تحوّلَ احتجاج الجماهير ضد الاضطهاد الاقطاعي الذي عززته الكنيسة بشكلٍ مُستمر، الى حركات مُعادية للكنيسة الرسمية. ومن هنا جائت طوائف القرون الوسطى مثل الستريغونيكي strigoiniki (القرنين الرابع عشر والخامس عشر) وجيدوفستفويتشي zhidovstvuyushchye (القرن الخامس عشر). أدت نفس الظروف الى ظهور حركات انشقاقية واسعة النطاق في منتصف القرن السابع عشر، عندما حارب عدد كبير من رجال الدين والعلمانيين ضد السياسات الكُنسية للبطريرك نيكون، وضد تنقيحه للكتب الليتورجية واصلاحاتٍ أُخرى. لم تكن الاختلافات الأُخرى بين المؤمنين القُدامى والنيكونيين عقائدية، بل طقوسية. أصر المؤمنون القُدامى على رسم الصليب على الجسد باصبعين بدلاً من ثلاثة أصابع، وغنّوا هللويا ليس ثلاث مرات بل مرتين، الخ. شَرَع المؤمنون القُدامى بشف من أجل هذه التفاصيل، بدون أي خوف من النفي أو الاعدام. لكن المؤمنين القُدامى لم يظلوا مُتحدين. انقسموا الى مجموعتين رئيسيتين: البوبوفتسي Popovtsy (الطوائف الكهنوتية) الذين كانوا مدعومين من قِبَل التجار الأثرياء والذين كان لهم قساوسة خاصين بهم واعترفوا بالقيصر، والبيزبوبوفتسي (الطوائف اللاكهانية) مُمثلةً بعناصر أكثر راديكالية، وخاصةً من الفلاحين، الذين رفضوا أن يكون لهم أي علاقة بالاصلاحيين، ولم يخضعوا لسلطة الحكومة واعتبروا القيصر والكنيسة مُهرطقين مُناهضين للمسيح. اضطهدت الحكومة والكنيسة الأرثذوكسية الروسية المؤمنين القُدامى بوحشية، واختبأوا في مناطق غابات الفولغا والشمال السيبيري. تم اعلان كنيسة المؤمنين القُدامى قانونيةً فقط عام 1905. منذ القرن الثامن عشر فصاعداً، تطورت طوائف جديدة في روسيا عاكسةً مرةً أُخرى استياء الفلاحين وقطاعاتٍ أُخرى من السكان من اضطهاد مُلّاك الأراضي الاقطاعيين واستبداد البوليس والكنيسة. في وقتٍ مُبكرٍ من القرن الثامن، ظَهَرت طائفة تخلت عن كل العقيدة والطقوس الرسمية، وما الى ذلك. بدلاً من الخدمة الكُنسية، أقام الخريستوفري Khristovery (المؤمنون بالمسيح) تجمعاتٍ للرقصات التي كان المُراد منها الوصول الى النشوة، والتي تم فيها لقاء الروح القدس بالراقصين وقيامهم بالتنبؤات في حالة النشوة (بقايا الشامانية). في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، انقسمت مجموعة من المتعصبين (السكوبتسي Skoptsy) عن طائفة الخريستوفري، مُطالبين بوضع حدٍ لجميع رغبات الجسد الخاطئة، وبالتالي اخصاء جميع الأعضاء. بالاضافة الى هذه الطوائف الصوفية، تشكلت هناك طوائف عقلانية. حاول مؤسسوها تفسير المسيحية بروح العقل. كان منها الدوخوبوريين Dukhobors(منذ خمسينيات القرن الثامن عشر فصاعداً) والمولوكانيين Molokans (منذ عام 1765 فصاعداً) وأخوّة ديسنوي Desnoye Brotherhood والالينتسيين Ilyintsy منذ منتصف القرن التاسع عشر، وعدد آخر من الطوائف. عكست هذه الطوائف، من ناحية تطلع الفلاحين العفوي الى الحياة المشاعية الأبوية (لم يعترفوا بالمُلكية الخاصة للأرض، الخ)، ومن ناحيةٍ أُخرى، رغبة غامضة في التطور الرأسمالي الحُر، بعيداً عن قيود الاقطاع. لكن كانت هذه الطوائف، في كل حالةٍ على حدة، تعبيراً عن الاحتجاج على حكم الكنيسة الرسمي وضد التبرعات القسرية ومضايقات البوليس. بدأت الطوائف البروتستانتية، منذ منتصف القرن التاسع عشر فصاعداً، بالتغلغل من دول أوروبا الغربية الى روسيا- مثل الستونديون Stundists والمينونايت ولاحقاً المعمدانيون، الخ. كانت تصير أحياناً فريبةً من الطوائف الروسية الصرف، ولكنها حلّت محلها في أغلب الأحيان. كانت الكنيسة المسيحية، في جميع بلدان أوروبا، ولقرونٍ عديدة، معقلاً للنظام الاقطاعي. عندما بدأت الرأسمالية في التطور، بُذِلَت مُحاولات لتكييف العقيدة والتنظيم الكُنسي المسيحيين مع النظام الجديد الرأسمالي. أدى هذا الى ظهور الكنائس والطوائف البروتستانتية. عندما انتصرت الرأسمالية في نهاية المطاف وألغت النظام الاقطاعي، كانت الكنيسة الكاثوليكية مرنةً بما يكفي لتكييف نفسها مع النظام الاجتماعي الجديد. لكن ظهرت تغيرات جديدة في جميع الكنائس المسيحية، عندما ظهرت حركة الطبقة العاملة الاشتراكية في أوروبا والولايات المتحدة. كانت الكنائس، من أجل الحفاظ على تأثيرها على الجماهير، تميل بشكلٍ مُتزايدٍ نحو الأفكار الاشتراكية، وقامت الكنائس، وخصوصاً الكاثوليكية، بتصعيد دعايتها بين العمال. نشأت الاشتراكية المسيحية في أربعينيات القرن التاسع عشر، أولاً في فرنسا، ثم في بريطانيا وألمانيا وبلدانٍ أُخرى. تشكلت نقابات عمالية مسيحية في ثمانينيات القرن التاسع عشر في بلجيكا عام 1886 وفي فرنسا عام 1887. تحوّلَت هذه النقابات الى منظماتٍ دولية في أوائل القرن العشرين. صارت هذه النقابات قويةً بشكلٍ خاص في دولٍ كاثوليكية مثل بلجيكا وايطاليا وألمانيا الغربية حيث توجد أحزاب سياسية كاثوليكية قوية. صارت هذه الأخيرة أحزاباً حاكمة في بعض البلدان، وكان لها تأثير كبير على عددٍ من المزارعين والعمال المتدينين. نشأت هناك أيضاً منظمات شبابية ونسائية ورياضية كاثوليكية. كان على الكنيسة اعادة النظر في موقفها من العلم. أظهرت النجاحات الهائلة في العلوم الطبيعية الدقيقة في القرنين التاسع عشر والعشرين بوضوح عدم توافقها مع الفهم الانجيلي القديم للعالم. على الرغم من أن الأصولية المتطرفة لا تزال تحتل مكانةً بين اللاهوتيين المسيحيين (خاصةً في الولايات المتحدة) والتي تُصِر بعناد على التفسير الحرفي للكتاب المقدس ولا تقدم أي تنازلات للعلم، الا أن هناك لاهوتيين ذوي نظرة أبعد بدأوا بمحاولة التوفيق بين العقيدة المسيحية والعلم، وتم هذا بمساعدة التفسير المجازي للكتاب المقدس ونصوصه. وهكذا نشأت "الحداثة" المسيحية، وهي تيار تلفيقي، انتشر بين اللاهوتيين الكاثوليك والبروتستانت.
أ- الأسفار القانونية هي الأسفار التي أجمعت عليها معايير كُنسية مُعينة ب- النصوص الأبوكريفية، وهي النصوص التي لم تُجمع عليها بعض الكنائس، وتُعتبر بشكلٍ رسمي على أنها تحريف للدين. 1- Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works (Russian edition), Vol. 22, p. 483 2- يوجد الصليب كرمز ديني في كل بلد تقريباً، مثل الصين القديمة والهند القديمة وافريقيا والأمريكيتين. حتى بين الاستراليين يُصنع الفانينغا vaninga الطوطمي أحياناً على شكل صليب كبير. توجد فرضيات مُختلفة حول الأهمية الدينية للصليب. يعتقد البعض أنه رمز للنار (ربما في البداية صليب خشبي كان يُستخدم سابقاً لاشعال النار). يدّعي البعض الآخر أنه كان رمزاً شمسياً للخصوبة، وما الى ذلك. والتفسيرات المُختلفة للصليب المعقوف (شكل من أشكال الصليب أيضاً) عديدة بنفس القدر. يرتبط رمز أركان العالم الأربعة أيضاً بين هنود أمريكا الشمالية، بعبادة العناصر الأربعة. 3- Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works (Russian edition), Vol. 19, p. 314 4- يعتقد بعض العلماء أن اسم يسوع (يوشع اليهودي the Jewish Yeshua) لم يكن يُستَخدَم في الأصل للاشارة الى شخص، بل اله، وان عبادة الرب يسوع (قصة العهد القديم حول يسوع نافين Jesus navin أو يوشع بن نون الذي أوقف الشمس) كانت موجودةً في فلسطين لفترةٍ طويلة. 5- Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, (Russian edition), Vol. 22, p. 477 جـ- تمثل هذه المقولة في اللاهوت المسيحي أن الإيمان الجديد الذي كان يسوع يحمله، لا يمكن احتوائه في إطار قديم. وفي المبادئ الأخلاقية الشائعة، تُمثّل معنى أنه لا يُمكن للسلوك أو المبادئ الجديدة أن يحملها أشخاص ذوي عقلية قديمة. 5- الدولة والثورة، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، تاريخ النشر غير مذكور، ص45
ترجمة للفصل الثالث والعشرين من كتاب: History of Religion, Sergei Tokarev, Translated From Russian To English by Paula Garb, Progress Publishers, Published 1986, Translated 1989. Chapter twenty three: Christianity
#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)
Malik_Abu_Alia#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول مسألة وتاريخ نظرية الفكر العلمي
-
الثورة المُضادة في المَجَر عام 1956- خطاباتها وأسلحتها (7)
-
تاريخ الدين: الدين الروماني القديم
-
مسألة تشكيل مقولات جديدة في المنطق الدياليكتيكي
-
الثورة المُضادة في المَجَر عام 1956- خطاباتها وأسلحتها (6)
-
تاريخ الدين: الديانة اليونانية القديمة
-
أزمة نزع الأيديولوجيا في الفلسفة
-
الثورة المُضادة في المَجَر عام 1956- خطاباتها وأسلحتها (5)
-
تاريخ الدين: اليهودية
-
المفهوم اللينيني حول الآيديولوجيا العلمية ونُقّاده
-
الثورة المُضادة في المَجَر عام 1956- خطاباتها وأسلحتها (4)
-
الآيديولوجيا كظاهرة للوعي الاجتماعي
-
تاريخ الدين: الدين في الشرق الأدنى
-
الدمج التاريخي-الثقافي عند الخوارزمي
-
الثورة المُضادة في المَجَر عام 1956- خطاباتها وأسلحتها (3)
-
مسألة الحقيقة في الفلسفة الماركسية
-
سبارتاكوس في التأريخ السوفييتي
-
تاريخ الدين: الدين في مصر القديمة
-
ابن سينا في تاريخ ثقافة العالم
-
بمناسبة الذكرى الألفية لميلاد ابن سينا
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|