|
عائلتنا : النكبة والشتات والخسارات المتتالية
نهاد ابو غوش
(Nihad Abughosh)
الحوار المتمدن-العدد: 6929 - 2021 / 6 / 15 - 11:04
المحور:
سيرة ذاتية
الآن وبعد سنوات طويلة.. بل عقود.. صار بإمكاني أن أفهم سبب النواح الدائم لأمي حين كانت تكون وحدها، أو تظن أنها وحدها، كانت تردد ما يشبه القصائد الطويلة، بكائيات ومراثي أثناء عملها اليومي الذي لا ينقطع، وطوال حياتها المثخنة بالفقدان والخسارات : في البداية ومع النكبة غاب ولداها الكبيران، محمد ظل في قرية أبو غوش غرب القدس، لكنه غاب عن أمي نحو 20 عاما، وموسى هاجر إلى البرازيل وغاب 40 عاما وعاد لمرة وحيدة ثم مات في الغربة، عبد الله مات في عز شبابه (28 عاما) في السعودية، وحسين غاب بعد النكسة وبقي في يوغسلافيا (صربيا لاحقا) ، أما أنا، آخر العنقود، فكانت لي مساهمتي في مسلسل الغيابات في السجون الأردنية بعيدا عن الأهل. معظم اخوتي انتقلوا إلى رحمة الله لكنهم وثقوا نكبتهم وغياياتهم بالصور: التصوير لم يكن أمرا شائعا وربما الهدف الوحيد له كان إما لاستخراج بطاقة، أو لإرسالها للغائبين. ولأبي وأمي جيلان من الأبناء : أولئك الذين ولدوا في القرية قبل النكبة ، ومن ولدوا في اللجوء بعد النكبة وأنا منهم بل آخرهم. كان والدي أحمد حسونة ( أبو محمد) حريصا على أناقته وعلى مكانته كأب وحاكم مطلق في الأسرة، مع أن عينيه كانتا تظهران لمعانا يوحي أحيانا بالانكسار ، انكسار النكبة التي لا حول له ولا قوة في مواجهتها ومواجهة نتائجها، فقد داهمته وهو في أواخر الأربعينات من عمره تقريبا ولم يكن قادرا على بدء حياة جديدة وهو الذي كان في شبابه مضرب الأمثال في الجد والعزيمة وقوة الإرادة، طوّع الأرض وصخورها ووعرها، في شتات النكبة لم يكن امامه من خيار سوى الحرص على تعليم أبنائه وهذا ما حصل، كانوا يزهو بأبنائه رغم قسوته الظاهرية ويحرص على التقاط الصور معهم في المناسبات. قصة عائلتنا هي قصة شعبنا: النكبة والشتات والفراق والخسارات المتتالية، والآن يتجدد هذا الشتات مع عائلات الفلسطينيين في سوريا ولبنان، بل في كل مكان: نحن الأخوة من نفس الأم والأب، وابناؤنا، نحمل سبع جنسيات ونتوزع على جميع قارات الأرض: محمد وليلى ومنى وأبناؤهم فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية، عيسى ونهاد جنسية فلسطينية، علي وحسن، وأبناؤهم، هوية القدس، وبالتالي جنسيتهم لم تحسم بعد ( بانتظار مفاوضات الحل النهائي!) ، موسى وابناه جميل ومنير جنسية برازيلية وعلى الأغلب جميل يحمل الجنسية الأميركية، حسين وابنه صلاح الدين جنسية صربية، سهام ( أم هيثم) جنسية أردنية وابنها الدكتور هاني جنسية بريطانية، وربما في المستقبل القريب نتشعب إلى مجموعة إضافية من الجنسيات ، الأخوة الثمانية والأخوات الثلاث لم يجتمعوا معا في بيت واحد ولا حتى في بلد واحد طوال حياتهم، أمي كانت تقول " لما فتحت الدنيا ولما سكرت الدنيا " في الإشارة للحدود بينها وبين ابنائها. أنا مثلا لم التق أخي موسى ولا مرة في حياتي، زار الوطن حين كنت ممنوعا من دخوله الزميل والصديق المبدع جميل ضبابات كتب موضوعا شيقا ومؤثرا عن هذا الموضوع بعنوان : ابن العم البرازيلي موجود واسمه منير نشر في وكالة وفا والصحف اليومية وهذا رابطه ي العام 1927 تزوج أحمد حسونة أبو غوش من نعمة سعدات أبو غوش، في القرية التي تحمل اسم العائلة وتقع إلى الشمال الغربي من مدينة القدس. في العام التالي انجبت نعمة الابن البكر محمد وبعد عامين انجبت موسى... وحتى العام 1959 كانت الام التي توفيت في العام 1992 انجبت 8 ذكور و3 إناث. لكن بين العام الذي تزوجت فيه والعام الذي رحلت فيه عن الدنيا حدث الكثير من الاحداث التي هزت العالم وهزت ابو غوش ذاتها. فقد انتهت الحرب العالمية الثانية ودارت حروب كثيرة اخرى وذابت بلدان داخل حدود بلدان اقوى، وتهاوت احلام الكثير من البشر على امتداد العالم، وايضا وقعت كل فلسطين التاريخية تحت الاحتلال وفقد الفلسطينيون وطنهم التاريخي. ونتيجة لذلك انقطع اتصال آل ابو غوش مع الابنين محمد وموسى اللذين انقطعت اخبارهما بعد ان هجرت العائلة وظل الابنان اللذان كانا يعملان وقتها في القدس داخل البلاد التي احتلت عام 1948. لم يطق الابن موسى ما جرى، ولم يجد امامه في ذلك الوقت الا الهجرة من القرية التي تركتها العائلة، فانطلق نحو اميركا اللاتينية ليحط الرحال في البرازيل، التي كانت وجهة للكثير من سكان شاطئ المتوسط الهاربين من الاحتلال والجوع والفقر. تشتتت عائلة ابو غوش في انحاء العالم مثل ملايين الفلسطينيين الذين يسمون فلسطينيي الشتات، ويصل عددهم في الدول العربية حسب احصاءات رسمية نحو 6 ملايين فلسطيني في الدول العربية وغير العربية. منير (44 عام) الذي يتم تداول اسمه عبر صفحات فيس بوك الخاصة بالعديد من ابناء عائلة ابو غوش المتواجدين في دول العالم وفي القدس، هو واحد من الملايين الستة الذي عثر عليه قبل ايام معدودة! كان أصغر أبناء احمد ونعمة، نهاد ابو غوش الصحافي الفلسطيني الذي نادرا ما يستخدم فيس بوك، الا انه عندما استخدمه امس حمل بشرى لآل ابو غوش: فقد تم العثور اخيرا على ابن شقيقه موسى في البرازيل بعد رحلة بحث استمرت لسنوات طويلة. منير الان يبلغ من العمر 44 عاما ويسكن في مقاطعة سانتوس، لكن خلال الايام القليلة الماضية اصبح عليه ان يتعرف على آل ابو غوش ليس فقط في القدس ورام الله، انما أولئك المنشرون في الشتات ايضا. عليه ان يستخدم اللغة الانجليزية للدخول الى الحاضنة الاجتماعية الجديدة التي تتحدث لغات مختلفة، ولا تتقن البرتغالية التي يتقنها هو. "تشتتت عائلة ابو غوش في كل العالم. عليه الان ان يتعرف على كل الاقارب" قال نهاد لمراسل وكالة "وفا". يظهر "فيس بوك" منير فعالا بالسلام مع الاقارب. السلام ورد السلام. انها فقط البداية. مد اليد الى اليد التي كانت ضائعة لسنوات طويلة خلف البحار. بعد ان توفي موسى في العام 1999 انقطعت اخبار العائلة تماما في البرازيل، والآن على اجيال مختلفة من آل ابو غوش اختصار كل تلك السنوات على منير الذي يتلقى طلبات اضافة متتالة من العائلة. في صفحة منير يمكن ملاحظة حالة التيه في تحديد الاقارب. يرسل د. مراد ابو غوش رسالة الى حائط منير العام: مرحبا ابن العم البرازيلي كيف حالك؟ جيد ان نسمع منك! ابق على اتصال. يجيب منير: اهلا بابن العم. انا جيد وسعيد للحديث مع عائلتي. لكني اريد ان اعرف اولا: انت ابن ذلك العم؟ كان في الامر إشارة سرية معينة يعرفها كلاهما. وتستمر النقاشات بين ابناء العام، ليبين ان منير يحتفظ بهدية قديمة من مراد الذي التقى بالعم سلامة وزوجته اللذين زارا ابو غوش مرة واحدة في بداية التسعينيات من القرن الماضي والتقيا مراد لنصف ساعة عندما كان معتقلا لدى السلطات الاسرائيلية، واهداهما علما فاهدياه لمنير الابن الذي احتفظ به كهدية يتيمة من ارض الآباء والاجداد. الآن تذكر أبناء العم هذه الحادثة تماما. اذا هذه هي الإشارة السرية بين ابناء العم. وهناك ثمة صورة تحتفظ بها والدة منير وبقايا صور في ذاكرة مراد عن العائلة المشتتة في العالم. في الجانب الاخر من العالم تعيش عائلة منير، وفي ابو غوش اصبحت صفحات فيس بوك الاقارب تضج بالتهنئة. بعد ان انتهت ربى ابو غوش الاخصائية النفسية وهي حفيدة احمد ونعمة من زيارة صربيا قبل ايام لرؤية ابن خالها حسين الذي وجدوه ايضا في صربيا بعد سنوات طويلة من البحث قبل سنة. وضعت ربى الصورة تلو الصورة لابن الخال حسين في صربيا. قبل سنة عندما عثر على صلاح الدين ابن العم الصربي ابن محمد قالت لما ابو غوش وهي شقيقة ربى مازحة "في العام القادم ربما نذهب الى البرازيل لنجد منير". "في العام القادم (هذا العام) تحولت الامنية الى حقيقة" قالت ربى لمراسل "وفا". "لقد وجدنا منير قبل ايام بعد عملية بحث طويلة استمرت سنوات" اضافت. في الحقيقة فشلت ريتا ابنة نهاد التي زارت البرازيل لغرض تقديم محاضرة في احدى الجامعات، لكنها استغلت الوقت للبحث عن منير ولم تجده "بحثت واقتربت من الولاية التي يعيش فيها ولم تجده" قال نهاد. "وجدناه هذا العام (...) فقط قبل ايام". انها قصة تكتب بالدموع. حتى العام 1967 انقسمت العائلة وتشتتت بين دول العالم، لكن نهاد يقول "حتى ذلك التاريخ انعزلنا عن اخينا محمد في الارض التي احتلت عام 1948، وبعد ذلك التاريخ استطعنا رؤية محمد لكن انقطعنا عن اخواننا في الخارج". خلال السنوات الماضية التي تلاشت فيها الحدود المعنوية بسبب ثورة التكنولوجيا اصبح الفلسطينيون اكثر انفتاحا على بعضهم البعض، فالرسائل الورقية الكلاسيكية التي كان يرسلها موسى لأشقائه وشقيقاته وتصل بعد شهرين قادمة من البرازيل، اصبحت تصل عبر فيس بوك خلال جزء من الدقيقة. "هكذا حصل. انا ارسلت لمنير الرسالة لأعرفه على نفسي "قال العم الاصغر نهاد". "اصبحنا اقرب." لقد انجبت نعمة ابو غوش من احمد ابو غوش 11 ابنا وبنتا، لهم احفاد كثيرون ينشرون في كل العالم. في العام الذي هجر فيه احمد ونعمة من القرية التي تقع على طريق القدس- يافا لم يحملا سوى جنسية واسم القرية الصغيرة (ابو غوش). الآن يحمل الابناء والاحفاد جنسيات كثيرة. إنه مشهد سوريالي. يقول نهاد: "ابو غوش يحملون هويات اسرائيلية، وفلسطينية، واردنية، وبرازيلية، وكندية، واخرى يعيشون في القدس بدون ملامح كاملة لجنسيتهم". تشير بيانات رسمية حديثة للجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء الى ان حوالي نصف الاسر الفلسطينية لديها خدمة انترنت. والفلسطينيون الذين وجدوا في "فيس بوك" بابا مفتوحا على ذويهم في الشتات، وجدو فيه ايضا طاقة صغيرة للبوح بالحنين الى الاقرباء الذين طوت الحدود سمات وجوههم خلفها. مثل وجه منير صاحب العينين الملونتين. تشير البيانات الى ان نسبة من يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي ضمن الفئة العمرية 10 سنوات فاكثر، تصل الى 3 ارباع الفلسطينيين. من بين هؤلاء اولاد وبنات واحفاد احمد ونعمة الذين لم يلتقوا مطلقا تحت سقف واحد او وطن واحد. فحتى في ذلك العام الذي زار فيه موسى القرية في بداية التسعينيات كان نهاد ذاته مسجونا وحسين في منفاه في يوغسلافيا السابقة.
#نهاد_ابو_غوش (هاشتاغ)
Nihad_Abughosh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقاط على حروف الانتصار
-
أزمة اليسار الفلسطيني ومقومات نهوضه
-
كنت شاهدا على المأساة
-
صيغة جديدة تضم الجميع في فلسطين
-
بيان للناس والرفاق والرفيقات والأصدقاء
-
عن فيصل الحسيني في ذكرى رحيله: الزعامة مسؤولية!
-
بعض صور الزهو الفلسطيني
-
الكشف عن مجازر مروعة ارتكبتها العصابات الصهيونية خلال النكبة
-
بعض دروس الحرب الرابعة على غزة
-
معركة فلسطين ما زالت مفتوحة ومستمرة
-
رسائل من السجن
-
الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة وتغيير قواعد الاشتباك
-
عن التحولات العاصفة في فلسطين واستحقاقاتها
-
ثلاثة أطوار للحركة الوطنية الفلسطينية خلال قرن من الصراع
-
القدس بؤرة الصراع
-
هبة القدس وتباشير التجديد للحركة الوطنية الفلسطينية
-
ترشيد المقاومة
-
فصول من معركة القدس المفتوحة
-
حول الإعدامات الميدانية وعمليات القتل خارج نطاق القانون
-
في اليوم العالمي للحرية الصحافة: المجد لنجوم فلسطين الساطعة
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|