|
-جزار كمبوديا الأعرج- يرحل دون قصاص
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 1635 - 2006 / 8 / 7 - 10:41
المحور:
حقوق الانسان
"جزار كمبوديا الأعرج" يرحل دون قصاص
لئن كان الكمبوديون و معهم العالم بأسره قد حرموا بموت زعيم الخمير الحمر الأكبر "بول بوت" في ابريل 1998 من محاكمة لو تمت لكانت الأشهر و الأكثر إثارة في القرن العشرين، ثم حرموا لاحقا من محاكمة اثنين من اقرب رفاقه هما ساعده الأيمن"خيو سامفان" و منظر الأيديولوجي "نون تشيا" باستلامهما و صدور عفو عنهما، فإنهم اليوم مصابون بإحباط مماثل في أعقاب الإعلان عن وفاة "تا موك" في 21 يوليو المنصرم، أي في وقت كانت الاستعدادات فيه لمحاكمته و بقية رفاقه الأحياء قد بلغت مراحلها النهائية وفق ترتيبات و تصورات الأمم المتحدة.
فالأخير لا يقل أهمية عن "بول بوت" لجهة دمويته و تاريخه الطويل في حرب الابادة و التطهير أثناء سنوات حكم الخمير لكمبوديا ما بين عامي 1975 و 1979، و التي قضى فيها نحو مليوني كمبودي إما قتلا أو بسبب المجاعة و المرض و الأعمال الشاقة في حقول الموت، بل انه طبقا لمصادر محلية كثيرة مسئول شخصيا عن قتل ما لا يقل عن 100 ألف نسمة في مركز التعذيب رقم 21 الذي كان يديره في القطاع الجنوبي الغربي من كمبوديا. و دليلنا هو نشوة الفرح التي سادت الشارع الكمبودي بمجرد القبض عليه في عام 1999 إلى درجة أن الخبر طغى في حينه على أخبار تصالح زعيمي البلاد المتنافسين الأمير ناراديد و رئيس الحكومة هون سين. غير أن الوجوه الكمبودية التواقة إلى رؤية من حرمهم من السلام و الأمن و الطمأنينة طويلا و تسبب في ابادة جماعية لأقاربهم و ذويهم و هم معلقون على أعواد المشانق، سرعان ما اكتشفت أن تحقيق العدالة ليس بالأمر اليسير في ظل تباين الرؤى داخليا و خارجيا حول شكل المحكمة و مقرها وكيفية اختيار أعضائها و نفقاتها، إلى غير ذلك من التفاصيل المتعلقة بالجرائم و الشهود والعقوبات وشروط العفو، و التي تأثرت كلها بأوضاع هذا البلد الصغير سيء الحظ و سلامه الأهلي الهش وعلاقاته بدول الجوار الأكثر نفوذا و قوة و محاولات الصين و الغرب الحيلولة دون فتح كل الملفات خشية فضح أدوارهم في الحرب الكمبودية.
و في هذا السياق يذكر أن موقف و اشنطون من محاكمة زعماء الخمير الحمر كان على مدى سنوات موقفا يتسم بالحذر و يصر فقط على العدالة دون الدخول في تفاصيلها الزمانية والمكانية والإجرائية، قبل أن تعلن عن تفضيلها لإجراء المحاكمة من خلال محكمة دولية خارج كمبوديا بحجة ضعف القضاء الكمبودي و تخلفه أولا ، ثم بحجة مطالبة الحكومة الكمبودية نفسها بذلك.
وقتها احتار المراقبون في تفسير الموقف الأمريكي الجديد، انطلاقا من انه ليس في مصلحة واشنطون تأييد مبدأ المحاكمة الدولية الشاملة لنظام الخمير الحمر، بسبب ما يمكن أن تكشفه المحاكمة من تفاصيل مذهلة للدور الأمريكي في الحرب الكمبودية، خاصة في ظل ما هو سائد في الأدبيات السياسية الجنوب شرق آسيوية من انه لولا انقلاب الجنرال " لون نول" المدعوم أمريكيا في عام 1970 ضد نظام الأمير "نوردوم سيهانوك" المحايد لما تمكن الخمير الحمر من حصد الأنصار و التقدم نحو السلطة في فنوم بنه، و بأنه لولا دعم واشنطون لاحقا لقوات الخمير الحمر وتزويدهم بالسلاح لمقارعة القوات الفيتنامية الغازية لكمبوديا لما تمكن أشخاص من أمثال بول بوت و تا موك من الاستمرار طويلا في الحرب و في ارتكاب الجرائم البشعة بحق مواطنيهم.
و لإزالة الحيرة تطوع المتحدث بلسان الخارجية الأمريكية في عام 1999 بالقول أن بلاده دولة تتمتع بالشفافية، و بالتالي فليس بامكانها إخفاء أشياء قامت بها في وقت من الأوقات و كانت لها أسبابها و ظروفها في سياق الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. لكن هذا لم يمنع البعض من القول بأن موقف واشنطون له علاقة برغبتها في إحراج الصينيين الذين لعبوا دورا تخريبيا أيضا في كمبوديا و تنتظرهم ملفات تدينهم بخروقات و جرائم كثيرة و ربما تسيء إليهم أكثر من أية إساءة منتظرة للأمريكيين.
أما وقد رحل "تا موك" غير مأسوف عليه، فان الحسنة الوحيدة ربما تكون في خلق دافع أقوى للمجتمع الدولي و الحكومة الكمبودية للمضي بسرعة في تقديم من تبقى من رموز الخمير الحمر الأحياء للعدالة، علما بأن هؤلاء باتوا اليوم قلة من بعد رحيل وزير دفاع الخمير "سون سين" مع تسعة من أبنائه و أحفاده قتلا في عام 1997 على يد "بول بوت" بسبب ما قيل عن اتصاله بالأمير راناريد، و رحيل الأخير قتلا أيضا على يد "تا موك" طبقا لبعض الروايات بسبب صراعهما على النفوذ، و موت القائد الآخر"كي بوك" في عام 2000 ، و أخيرا موت " تا موك" في مستشفى عسكري عن 80 عاما.
مفارقتان رافقتا موت الجزار الأعرج الذي يلقب أيضا بالولد السيء (باد بوي) و الرجل العجوز والعم موك. الأولى انه وجد في صفوف الكمبوديين من يمشي في جنازته و يبكي عليه. و هؤلاء معظمهم من أبناء القرية التي لجأ إليها في الثمانينات بعد تشتت قوى الخمير الحمر بفعل الضربات الفيتنامية و الانقسامات الداخلية، ممن أفادوا بأنه تخلى في سنوات ما قبل اعتقاله عن وحشيته وتحول إلى إنسان ودود، بل تخلى أيضا عن أفكاره الماوية المتطرفة و صار اقرب إلى الرأسماليين، في إشارة إلى تحوله إلى البزنيس من خلال انضمامه إلى رفاق آخرين في أعمال التهريب عبر الحدود التايلاندية و استغلال مناجم الأحجار الكريمة في مقاطعة بايلين الكمبودية الشمالية.
المفارقة الثانية هي أن الرجل شيع و دفن وفق التقاليد البوذية، هو الذي هجر التعاليم البوذية في سن السادسة عشر، وراح منذ ذلك الوقت يهاجمها ويستهدف أرواح المؤمنين بها و يبالغ في تعذيبهم وقتلهم حتى قيل أن وحشيته تجاوزت حتى معايير الخمير الحمر السوداء في القتل والابادة. فعلى العكس تماما مما تبشر به البوذية من سلام، قضى "تا موك" معظم سنوات حياته منخرطا في العنف و مقاوما للحلول السلمية، ابتداء من محاربته للقوات اليابانية الغازية في الأربعينات فقوات الاستعمار الفرنسي فالقوات الكمبودية الوطنية فقوات الغزو الفيتنامي. و لم يثنه فقده لإحدى ساقيه أثناء إحدى العمليات في الثمانينات و استعانته بساق خشبية عن مواصلة العنف، بل أن هذه الحادثة التي كانت سببا في تسميته بالأعرج زادته قسوة و وحشية ضد مواطنيه، حتى أن رفاقه لم يسلموا أيضا من بطشه و تطرفه. و يروى انه وصف سيده و زعيمه بول بوت بعد مقتل الأخير بأنه "لا يساوي روث البقر"، مستدركا أن "روث البقر ربما كان أكثر فائدة منه".
إن حادثة موت "تا موك" قبل الاقتصاص منه و استنطاقه حول الكثير من الأسرار و الألغاز التاريخية التي صاحبت بروز جماعة الخمير الحمر و وصولها إلى السلطة ثم خروجها منه، يجب أن تكون درسا للدول الأخرى من تلك التي تضيع وقتها في تفاصيل محاكمة طغاتها، و تتباطيء في تقديمهم إلى العدالة، الأمر الذي يحتمل معه رحيل المتهم إلى القبر مع أسراره الكثيرة.
د. عبدالله المدني *باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية تاريخ المادة: 6 أغسطس 2006 البريد الالكتروني: [email protected]
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طالبان قد تستفيد مما يجري في الشرق الأوسط
-
نهاية الإرث السياسي لآل باندرنيكا
-
باعاشير طليقا!
-
لماذا ننادي بعلمانية الدولة
-
هل -مرعي بن عمودي الكثيري- هو السبب؟
-
درس انتخابي من -كيرالا
-
بعض العرب إذ يحللون نووية إيران
-
سنغافورة كنموذج للمجتمع غير المسيس
-
كل الطرق تؤدي إلى آسيا
-
صناعة المعلوماتية ما بين الهند و الصين
-
الشباب الكوري يقود ثورة تكنولوجيا المعرفة
-
وزيرستان
-
عبدالرحمن في قبضة العدالة
-
رجل آسيا المريض يزداد عجزا
-
المساواة الجندرية كحل لمعضلة اليابان الديموغرافية
-
استباقا لازمة محتملة حول عرش الأقحوان
-
من يمول التطرف و العنف في بنغلاديش؟
-
خان عبدالولي خان
-
الزيارة التي تأخرت نصف قرن
-
آسيا تدشن العام الجديد بإطلاق تكتل جديد
المزيد.....
-
الأمم المتحدة تحذر: توقف شبه كامل لتوصيل الغذاء في غزة
-
أوامر اعتقال من الجنائية الدولية بحق نتانياهو
-
معتقلا ببذلة السجن البرتقالية: كيف صور مستخدمون نتنياهو معد
...
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
-
الإطار التنسيقي العراقي يرحب بقرار الجنائية الدولية اعتقال ن
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وغالانت لأ
...
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف سيؤثر أمر الاعتقال على نتانياهو؟
...
-
أول تعليق للبنتاغون على أمر الجنائية الدولية باعتقال نتانياه
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|