قيس مصطفى
الحوار المتمدن-العدد: 1635 - 2006 / 8 / 7 - 05:43
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
لعله كان مرغماً صاحب " قصائد اندروميدا " المجموعة الشعرية التي لاقت اهتماماً في المشهد الشعري ، أن يتجه اتجاهاً مغايراً في مقترحه الثاني " طريق قصيرة إلى عَراس "
على أن هذا الإرغام يبدو وكأنه صادر عن وعي مسبق بشكل القصيدة المفترضة ما يجعل حازم العظمة يتجه صوب القصيدة الأكثر اختزالاً، الأكثر حذفاً ، بل والأكثر حذفاً حد الخطورة ، إنه الحذف الذي يخلخل صورة ما ، لا ليخلق صورة أخرى مضادة ، أو ليعيد إنتاجها ، إنه الحذف الذي يصنع التباساً ما ، الحذف المبدد وربما القاتل أيضاً ، غير أن فيه جرأة وجسارة قلما يتحلى بها الشعراء ، تلك الجرأة التي تراهن على ذكاء المتلقي ، وقدرته على ملء الفراغات ، بما يجعل منظومتي الشاعر-المتلقي تلتئمان في منظومة واحدة.
كذلك فإن الصورة الشعرية غدت لا تسلسلية ، وكل الانقطاعات اللامعقولة تحيل من جانبها إلى طريقة في الرؤيا أو في القول ، ثمة اتجاه في الأداء الشعري اتجاه واضح لصياغة المكان ، وإعادة تأثيث محتوياته وفق رؤية خاصة أقرب ما تكون إلى رؤى التشكيليين الذين يقنصون الجمال في أماكن عصية على من سواهم ، وكأن عملية القص واللصق التي يقوم بها هي الواقع الأصلي لتلك الموجودات ، تلك الجملة من عمليات الفك والتركيب تجعلنا إزاء مشاهد طبيعية تنقلنا مباشرة إلى مناخ اللوحات الانطباعية وجمالياتها التصويرية ، ولعل هاتيك الجماليات هي الوسيلة الفضلى لمقاربة جوانية الشاعر من حيث كونها لا تستخدم الأشياء فحسب بل تستغل الوظيفة الذهنية لها والمستوى الفكري الذي يتوافق معها من أجل إبراز العوالم الداخلية التي يبني الشاعر على أساسها تصوراته لما يجب أن يكون :
"الشجرة هي نفسها الصورة ُ
الفضاء بين صخرتين ِ
، أجساد ٌ لمكان عراءٍ من الأرض ِ
، والأرضُ تقطعها من نهاياتها الأسلاكُ
ومن الجهة المضاءة الآنَ
على بعد أربع دقائق ٍ
الشمسُُ "
يمكن القول إن -الطريق إلى "عَراس"- طريق غنية بالشواهد البصرية ، التي تدلل على قوة المكان وأهميته, خصوصاً إذا كان تصور المكان يجري من الداخل أي هو تصور انتماء وانتماء حقيقي وليس تصوراً من الخارج مستحضراً من حالة اغتراب ، وهذه الحالة مجاوزة للسائد ، إذ إن حالة الاغتراب تختزل في كثير من الأحيان التجربة الجمالية في صدد إبراز العلاقة من المكان ، وذلك من خلال سعي الشاعر دائماً إلى ردم الهوة بين الذات ولا انتمائها وصولاً إلى الانتماء ، أما في حالة التماهي بين الذات والمكان فيغدو الأمر أكثر تعقيداً ، ويتطلب تنقيباً عن شعرية ما في مساحة تزداد ضيقاً كلما أقحم الشعر في معادلة الاختزال ، والمكان وفق حازم العظمة ، يلعب في التطلع الجديد دوراً وظيفياً مهماً ، فهو بالإضافة إلى كونه صلة الوصل بالمتخيل فإنه الدافع لتصفية الحساب مع اللغة أو المبرر للتصالح معها ، ومع الأنساق الشكلانية التي توزع عليها مقاطع القصائد ، وحتى علامات الترقيم تلعب دورها في إقامة وشائج مع كافة العناصر التي تؤطر المكان وتكونه يقول مايكوفسكي:
" عندما ننظم شعراً محدداً لينشر ، يجب أن نضع نصب أعيننا كيف أن القارئ المتوسط يحرص على أن يصل إلى ما يريد الشاعر وما يرمي إليه من تشكيل شعره بهذه الطريقة ، إن تعاملنا مع علامات التنقيط من نقاط وفواصل وإشارات استفهام أو تعجب لا يزال فقيراً ، ضعيف التعبير بالموازنة مع الألوان والانطباعات التي يأملها الإنسان المتطور اليوم في الإبداع الشعري "
الذي أحب "عَراس " يَلقى في آخر المجموعة دعوة صريحة للرحيل إليها, ومع أن الدعوة جميلة إلا أن فيها خذلان للمتلقي الذي ترك له الشاعر الخيارات مفتوحة في كل القصائد السابقة, إنها نرجسية الشاعر الذي يرى نفسه (الدينامو) الذي يحرك العالم وبأنه الوحيد الذي يملك مفاتيح باب الخلاص :
لنمض ِإذن
من مفرقة الغربان هذه
/ لن نمشي كثيراً ...
ليلتان حسبُ
نهاران ِ
/ حتى تخوم البيوت ِ
/ حتى شواطئ المستحمات ِ
عند أقدام "عَراس"
الشعرية الأكثر حضوراً عند حازم العظمة هي الشعرية المركبة التي تتمثل بالقصائد التي يشتغل فيها على الجملة الطويلة المكونة من وحدات قصيرة قائمة بذاتها وتشكل بالمحصلة ضربة شعرية كتلك الضربات التي يحققها السيمفوني في السير بمحاذاة ما تحبذه النفس ، إنه قادر على صناعة جملة شعرية على المدى الطويل ، من ثم فهو قادر على خلق جملة أخرى من داخل هذه الجملة ، في القصائد التي تستثمر الجملة الطويلة مقادير متوازنة من الحياد والتدخل ومن الأنا والآخر.
وبين السطور تنفجر ينابيع الحسية التي تؤسس لشغف لا يغفل أبداً أن سيتذكر فتنة الروح ، إلا أن العظمة لا يشتغل على الجملة الطويلة إنها تبدو وكأنها هاربة من مقصه وحسناً فعلتْ :
" الفتيات اللواتي تركنني منذ أكثر من مئة سنة كن لا يزلن على المصاطب الخفيضة يصلحن من زينتهن أمام المرايا التي بإطارات مصابيح كثيرة بيضاء
ثم بينما يتحركن أو بينما يلتفتن كن يتركن في الضوء طرفاً من الخصر أو من الوركين ِ
/ كأن يدعن نهداً واحداً طليقاً بينما يلتفتنَ ... "
الكتاب: طرق قصيرة إلى "عراس"
الكاتب: حازم العظمة
الناشر: بيت الشعر السوري /
بيروت 2005
#قيس_مصطفى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟