أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - رآيت مناماً














المزيد.....

رآيت مناماً


عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 6915 - 2021 / 6 / 1 - 16:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لي جناحان أحلق بهما عالياً من فوق. في الأسفل، وليس بعيداً، أرى أشياء كثيرة أعرفها جيداً ويتوق لها قلبي ووجداني بشدة، لكن بُعد المسافة يفصلني، يقطعني عنها ويحرمني الاقتراب. لا أستطيع سوى التحليق حولها من بعيد في الجو، عيناي ترمقها بحنين وحسرة، قلبي يخفق وجعاً، ولا أستطيع لمسها وتحسسها والتدثر بها. أضرب بجناحي من فوق أحبة أعشقهم، أهل وأصدقاء ومعارف وعزوة، يكاد يقتلني الحنين لاحتضانهم ومصافحتهم والحديث إليهم بعد طول فراق. لا أستطيع. هذا المكان الذي أحلق فوقه عالياً أعرفه، أحفظه عن ظهر قلب. فيه بيتي الذي احتضن ولادتي وطفولتي وصباي وشبابي، حيث لهوت وضحكت وبكيت وعشت الحياة بكل تفاصيلها. تفاصيل كثيرة، كثيرة جداً تملء بحوراً من الذكريات السعيدة والحزينة، وتفيض. هؤلاء الناس وتلك الأماكن جزء لا يتجزأ مني، وأنا منهم. في الحقيقة، نحن كيان واحد لا ينفك ومن دونها ما عدت "أنا" كما كنت "أنا". رغم ذلك، أراني في المنام لا أستطيع أبداً أن أحط عليهم وبينهم ووسطهم، في حياتهم ومعاشهم. كأن قبة بلورية صلبة تقف صداً منيعاً بيني وبينهم. المأساة أنني أراهم، أراهم جيداً، بوضوح وصفاء بالغين. هم يتابعون حياتهم كالمعتاد في الأسفل لكن من دوني، وأنا عاجز عن الولوج إلى تلك الحياة التي كنت جزء أصيل منها في الماضي القريب. الجناحان حولاني إلى مسخ مشوه ومعذب، لا هو إنسان ولا هو طائر، بمقدوره الفكاك والنجاة من الخطر لكنه عاجز عن لمس واحتضان ومصافحة أحبته. بسبب الجناحان، أصبحت تائه عالياً، معزول عن دنياي وحياتي البسيطة التلقائية والواقعية فوق الأرض، مفصوم عن أهلي وأحبتي، عن جزء أصيل من نفسي.

نحن نحضر لمذبحة حيوانية سيحمر لها وجه الأرض خجلاً بعد أيام معدودة لأن إبراهيم رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل بأمر من الله. وحين التنفيذ، افتداه الله بذبح عظيم، الذي لا يزال تُنحر رقبته حتى اليوم بعد آلاف السنين تخليداً لرؤيا إبراهيم المقدسة في منامه. هذا هو عيد الأضحى الذي سنحتفل به، ونسفك فيه دماء ملايين الأضاحي دفعة واحدة، بعد أقل من شهرين. إلى هذا الحد الرؤيا في المنام مهمة ومؤثرة؟!

هل تذكرون رؤيا البقرات العجاف والسنابل الخضر التي عرضت على يوسف، معادل رئيس الوزراء أو وزير الخزانة في مصر القديمة، وكيف ربط بينها وبين مخاطر مناخية ومائية تتهدد الدولة الفرعونية القديمة؟ هل تكفي مجرد الرؤيا في المنام لكي تشكل أساساً متيناً لضبط وتخطيط ميزانية دولة كبرى بقدر الإمبراطورية المصرية القديمة، المعادل في العالم القديم لدول عظمى في العالم المعاصر مثل أمريكا أو روسيا أو الصين أو إنجلترا أو فرنسا؟! أم هي مجرد خرافة ساذجة لإلهاء عقول الدهماء وشحذ وتجييش عواطفهم؟!

إيماننا بقدرة الرؤيا جعلنا نثبت لمحمد بدل ذراعيه جناحين عظيمين ليس لهما مثيل في القوة والطول، لدرجة تحمله طائراً في الجو من مكة إلى القدس، وصعوداً من الأرض إلى السماوات العلى في رحلة الإسراء والمعراج. ربما كانت مجرد رؤيا لمحمد في منامه، لكن الإيمان المطلق بقدرة الرؤيا حولها إلى حقيقة مادية مؤكدة حدثت في الواقع، وهي ليست كذلك. رؤيا المنام هي وحدها القادرة على تحقيق المعجزات. ونحن نيام نستطيع تحقيق وتعويض كل ما نعجز عن تحقيقه في الواقع. نحن نحتاج المعجزات، فإذا لم توجد اختلقناها؛ ونخاف الحقائق لأنها صعبة، لذا نهرب منها بإنبات الريش فوق أذرعنا في رؤانا أثناء النوم.

الحقيقة مرة، مرة أشدة مرارة من الحنظل. الجناحان يمنحاني قدرة افتراضية وهمية لابتلاع مرارة الواقع والنجاة من ألم الحقائق. أعرف أنني خائف، متوتر وغير مطمئن. حياتي مضطربة وغير آمنة. وهذا الخوف الدفين هو ما ينبت لي جناحان أحلق بهما عالياً في منامي هرباً من مخاطر الواقع. أنا غير آمن على نفسي ولا زوجتي ولا ابنتي ولا ابني ولا أحبتي وأعزاءي. أنا غير آمن على عملي ولقمة عيشي، على حاضري ومستقبلي. أنا أعيش في عالم من الخوف، خوف من كل شيء، حتى من مجرد الكلام والفضفضة بمكنون النفس والشعور والقناعة. أنا إنسان خائف وغير آمن في يقظتي. وهذا هو الذي ينبت لي ريشاً لتتحول يداي إلى جناحين أنجو بهما في نومي بعيداً عن أخطار الحقيقة. لكن هذا لا يصبح نوماً مطمئناً وصحياً، بقدر ما يكون كابوسا مرضياً. أنا في الحقيقة شخص مريض.

لكنني ليست شيئاً في فراغ أو من فراغ. أنا من وسط وبيئة، تشكلت منها. مخاوفي هي ذات مخاوفها، ورؤاي هي ذات رؤاها، ومرضي من مرضها. ثقافتي وحضارتي مثلي تماماً، تحيا في منامها بجناحين لتنجو من مخاطر واقع أليم. لقد سيطرت علينا الرؤيا لدرجة جعلتنا نعيش في الرؤيا المنامية، في الافتراض الوهمي، وليس في الواقع الفعلي، على حقيقته حتى لو كانت مرة ومبرحة. نحن نجيد الهروب، لا المواجهة.

لا أستطيع بعد تحمل ألم هذا الريش النابت فوق أذرعي. أريد بتر جناحي. أريد العودة إلى حياة البشر السوي أمشي على الأرض، أواجه حقيقة الواقع، أمسك بها وأشتبك معها وأعالجها مهما كانت حارقة ومؤلمة. لكن هل سيبقي البتر شيئاً من ذراعي لأحيا به حياة طبيعية؟ البتر لن يفيد. لابد من نتف الريش ريشة ريشة حتى تنظيف الذراعين بالكامل. عملية مؤلمة وشاقة وتستلزم صبر أيوب.

يبقى السؤال: إذا نتفت كل الريش، هل سأطيق العيش بلا جناحين وسط بيئة كبرى مجنحة؟!



#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذات صباح أسود حالك
- فليبقى القضيب منتصباً
- آل البيت السامي
- شرعية يوليو
- عراق في مهب الريح
- الانقلاب المبارك
- جمال وثورته
- الأنبياء المؤسسون
- ابن الله
- وطن عربي حقاً؟
- وما نيل الأوطان بالتمني، لكنها تؤخذ غلابا
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 7
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 6
- وحي السماء
- قول الصدق
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 5
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 4
- سلام على إسرائيل
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 3
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 2


المزيد.....




- جدل حول اعتقال تونسي يهودي في جربة: هل شارك في حرب غزة؟
- عيد الفطر في مدن عربية وإسلامية
- العاهل المغربي يصدر عفوا عن عبد القادر بلعيرج المدان بتهمة ق ...
- المرصد السوري يطالب بفتوى شرعية عاجلة لوقف جرائم الإبادة
- عبود حول تشكيلة الحكومة السورية الجديدة: غلبت التوقعات وكنت ...
- بقائي: يوم الجمهورية الإسلامية رمز لإرادة الإيرانيين التاريخ ...
- الخارجية الايرانية: يوم الجمهورية الإسلامية تجسيد لعزيمة الش ...
- الملك المغربي يعفو عن عبد القادر بلعيرج المدان بتهمة قيادة ش ...
- بكين: إعادة التوحيد مع تايوان أمر لا يمكن إيقافه
- العالم الاسلامي.. تقاليد وعادات متوارثة في عيد الفطر المبارك ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - رآيت مناماً