|
الكتابة بلغة الصحراء: إبراهيم الكوني وآخرون
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1635 - 2006 / 8 / 7 - 10:39
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
"أخبرني أن كتابه كان يسمى كتاب الرمل، فليس للكتاب، ولا للرمل أية بداية أو نهاية" خورخه لويس بورخيس ولوج الصحراء، فتح لإمكانية السرد.. أن تعيش وترى وتحكي عمّا رأيت، والرؤية هنا لا تأبه كثيراً بالمنظور الحسي بل تتعداه. فالصحراء هي واحدة من محرضات روح المغامرة الإنسانية، وهي التي توسع أفق التصور اللائذ في ضباب الميتافيزيقيا.. هناك تختل قواعد الوعي التقليدية، ويغدو ما هو محال ممكناً، ويكون سؤال الوجود والمصير عالقاً أبداً أمام عين المرء وهو يبحث عن جنته المفقودة، أو قل حقيقة نفسه، وعن موقعه في هذا العالم. وأولئك الذين ولجوا الصحراء، أياً كانت دوافعهم، قد غادروها وهم مثقلون بوفرة من الحكايات، صحيح، غير أن الصحراء في الوقت نفسه مرتع فذ للخيال، وفضاء لا يضاهى لمسارات من السرد لا تنتهي، وهي التي ألهمت شعراء وروائيين ومغامرين ومستكشفين وجواسيس ومغرمين بأحابيل الجغرافيا وعتمات التاريخ، ومتصوفة ومهووسين بالتحرش بحدود الموت وغيرهم، غيرهم ليدخلوها، ويخرجوا منها وهم على غير ما كانوا عليه، هكذا، في هذا الأفق كتب لوكليزيو رواية "صحراء" ليخفف عن كاهله عبء الدهشة وعقابيل التاريخ، ومثله فعل، ولكن في مدار تجربة مختلفة، لورنس وهو يكتب "أعمدة الحكمة السبعة" في محاولة مستحيلة لتبرئة النفس وترويض خطاياها. وماذا نستطيع أن نقول عن انطوان ده سانت ـ أكزوبري الذي ما كان بمقدوره أن يقول شيئاً كهذا لو لم يؤنس غوايات الصحراء ( ماذا يبقى، عندما نعيش، وقد غدونا رجالاً، في ظل نواميس أخرى، من تلك الحديقة الملأى بظل الطفولة السحرية، المثلجة، المحرقة، والتي عندما نعود إليها الآن، نحاذي بشيء من اليأس، جدار الحجارة الرمادية الصغير، من الخارج، مدهوشين إذ نجد ضمن هذا السور الضيق إقليماً كنا قد خلقنا لا نهائيته، مدركين أننا سوف لن نعود فندخل هذا اللامنتهى أبداً لأنه إنما في اللعب، وليس في الحديقة، كان يجب أن ندخل ). وفي اللعب كان قد دخل وإلاّ لما كانت "أرض البشر" روايته، ولا كان موته على تلك الشاكلة التراجيدية في الصحراء الأفريقية وهو يسقط بطائرته، فيمنحنا لغزاً إضافياً في محنة الوجود، نحن بأمس الحاجة إليه. ووجب على أونداتشي أن يعبر برجله الغامض أتون الصحراء المحرق في "المريض الإنكليزي" كي يكتمل المشهد، ويترقرق المعنى ويتسرب في طبقات، ويحتدم السرد. أما إبراهيم الكوني فهو الذي ينجز كتاب الصحراء/ كتاب الرمال حيث لن يكون بمقدورك الإمساك بنقطة البدء، لأنه ربما لا وجود له، ولا بأية نهاية لأن المسار فيه دائري. ، فالصحراء بمساحاتها المديدة القاسية عالم يكرر نفسه كما لو أنه المتاه.. رمال ، ثم رمال، ورمال، وفي مكان ما جنة محجوبة أسمها "واو". يحقق إبراهيم الكوني مواءمة وتعادلاً بين فضاء الحدث والفضاء السردي، فسياق تطور الفعل الروائي، والتصعيد الذي يسم نمو الحبكة يفرض على الروائي اللجوء إلى السرد التتابعي الدائري، أي أن حركة القص تأخذ شكل متوالية زمانية مقفلة من دون تداخل أو تواز في الغالب. فالصحراوي بطل رواية الكوني يعرف من أين أتى، وماذا ينتظره على الطريق، ويحدس بمصيره فيجري نحوه راضياً قانعاً كأنه عائد إلى المكان الذي جاء منه، وهو يحمل ثقل وملابسات ذاكرة الصحراء، ويحفظ ـ لا في ذهنه فقط، وإنما في وجدانه وسلوكه أيضاً ـ نواميس عالمه المفتوح والمغلق في الآن معاً. ومن رواية إلى رواية.. من "خماسية الخسوف" إلى "التبر" إلى "المجوس" ـ وهذه بعض من عنوانات رواياته ـ وحتى في مجموعته القصصية "ديوان النثر البري" يخلق إبراهيم الكوني تنويعات شتى، في أثناء اشتغاله على الموضوعة ذاتها ليضيء، في كل مرة، جانباً آخر من حياة الصحراء، وليدشن في كل مرة، أفقاً دلالياً جديداً. تناول روائيون عرب عديدون الصحراء حاضنة مكانية لها فرادتها، والتي تحدد تعرجات الأحداث وتؤطرها. ذلك لأن للصحراء قوانينها وسطوتها الثقيلة على إنسانها، وقدر هذا الإنسان ومصيره. لكن هؤلاء الروائيين رصدوا لحظات التحول في الصحراء، لحظات الاختراق التاريخية مع دخول المستعمر واكتشاف النفط وبناء المدن، وانتشار وسائل التقنية ومؤسسات الإدارة الحديثة، أي في شبكة علاقاتها مع خارجها.. نذكر هنا، رواية "فساد الأمكنة" لصبري موسى، وروايات "النهايات" و "سباق المسافات الطويلة" و "مدن الملح بأجزائها الخمسة" لعبد الرحمن منيف. أما ما فعله إبراهيم الكوني فإنه رسم الصحراء في عزلتها الكونية وعذريتها، وتمنعها، حتى بعد تصديها لغزو الأغراب "المجوس والفرنسيس"، وإصرارها على البقاء مهاداً للحكايات العجيبة والأساطير، وعالماً فسيحاً مقفراً لإنسان، كما لو أنه إنسان فجر الكينونة، في صراعه مع الطبيعة أولاً، ومع أقرانه من الإنس والجن ثانياً.. صراع مرير يتحمل الصحراوي بصبر ودأب وشجاعة نتائجه التي قد تصل ذروة المأساة.. يكافح من أجل البقاء، ولا يخشى الفناء إذا ما حلت الساعة الموعودة. وإذا كانت الثيمات التي يستخدمها الكوني هي عينها التي عرفها الأدب الإنساني منذ آلاف السنين، منذ "ملحمة كلكامش" و"أخذة كيش" وهي "الحب، الحياة، الحرية، الموت، الخلود، الغضب، الكره، والتعاطف، الخ" فإنه يفلسفها هذه المرة، من منظور ابن الصحراء، ذلك الرحالة الأبدي، العابر للمفازات التي تلوح بلا نهاية، الباحث عن فردوس مستحيل. وهذا البحث هو مسوّغ رفضه للاستقرار في أيما مكان، لكأن البحث عن "واو" هو الوجه الآخر للحرية التي يعتقد بأنه سيفقدها إذا ما اتخذ مسكناً دائماً، فيهيم على وجهه في مديات الرمال، حتى لو كان في ذلك هلاكه. والموت في عرف الصحراوي هو العتبة الضرورية التي لا بد من توطئتها للدخول في "واو". ووجب على الكوني أن يلتقط، وهذه مزية تحسب له، مفردات جديدة من تلك المتناثرة في عرض الصحراء، وغرسها في تربة الرواية العربية. إنها الكتابة بلغة الرمل.. كتابة الشبح المار خفيفاً من أسطورة إلى أخرى، سليل الذئب و "الودّان"، والموقِّع على عهد مقدس مع الجن، والمتطلع إلى جنته، تاركاً آثار وجود لا تلبث ريح "القبلي" أن تمسحها، وهي معبأة باحتمالات الجفاف والموت. إنسان الصحراء لا يترك عمراناً على الأرض في المكان، بل أساطير تحتويها الذاكرة وتتمثلها، تلتصق بالزمان. وإن حضرت مفردة "الصحراء" فلا بد من أن تحضر إزاءها مفردة "الماء" ليتواصل جدل الحياة/ الموت.. الحضور/ الغياب.. البقاء/ الفناء.. والماء شحيح أبداً، يقطع الصحراوي مسافات مهولة بحثاً عنه، وحين يعثر عليه يشرب منه حد الارتواء، ثم، وكما لو أنه يهرب من خطيئة ما، يمتطي جمله ( مهريه ) ليخوض ثانية في القفار، فقد يكتشف بئراً جديدة، أو لعل القدر يقوده إلى جنة "واو" التي يؤمن بقوة بأنها موجودة في جهة ما من صحرائه. روايات إبراهيم الكوني انفتاح على فضاء مغاير.. التماس للمختلف زماناً ومكاناً وأنماط علاقات، ورؤية ورؤيا.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحرش بالسياسة
-
القاهرة في ذكراها
-
صور قديمة
-
إدوارد سعيد: داخل الزمان.. خارج المكان
-
النخب العراقية في حاضنة المقاهي
-
حول المونديال
-
نخب سياسية.. نخب ثقافية: مدخل
-
حبور الكتابة: هيرمان هيسه وباشلار
-
قصة قصيرة: في أقصى الفردوس
-
حوار مع القاص سعد محمد رحيم
-
تحقيق: بعقوبة ابتكارالبساتين
-
قصتان قصيرتان
-
في رواية اسم الوردة: المنطق والضحك يطيحان بالحقيقة الزائفة
-
قصة قصيرة: الغجر إنْ يجيئوا ثانية
-
من يخاف الحرية؟. النسق الثقافي والمحنة السياسية
-
قصة قصيرة: زهر اللوز
-
شهادة: هكذا تكتبني المحطات
-
شقاء المثقفين
-
فضاء مكتبة.. فضاء الكون*
-
سحر ماركيز
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|