|
النظم العالمي وأركانه
راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 6912 - 2021 / 5 / 29 - 18:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نهج سياسي هاش
يا حسرة بأن عالم البشرية قد تعذب بشدة وحاد ع جادة الصواب -سواء من حيث أخلاق أفراده أو من حيث علاقاته الإجتماعية- على نحوٍ يجعل حتى من مساعي السياسيين المحنكين وتدابير الرؤساء المحايدين عديمة الجدوى في إنقاذها. فلا الخطط والمشاريع التي رسمت من قبل السياسيين الأكفاء، ولا المبادﺉ والأصول التي وضعها الخبراء أصحاب الباع الطويل في مجال الإقتصاد، ولا التعاليم التي يسعى الأخلاقيون لترويجها بقادرة في النهاية أن ترسي أساساً متيناً يمكن أن يشيد فوقه مستقبل هذا العالم الحائر.
إن محاولات العقلاء حسنو النية -الذين ما إنفكوا يدعون الناس إلى التسامح والتفاهم فيما بينهم- سوف لن تسكن هذا العالم ولن تعيد إليه قواه المهدرة، وإن جذور الفساد الضاربة الإطناب -والتي قلبت موازين الجامعة البشرية- لا يمكن أن تقلع بواسطة الخطط العمومية في التعاون والتعاضد العالميان مهما كانت تلك الخطط واسعة وحكيمة حتى أنه يمكننا القول بأن تشكيل منظمة عالمية لتوحيد الجهود السياسية والإقتصادية -والتي تتردد كثيراً على الألسن هذه الأيام- لهي عاجزة عن تحويل السم الزعاف الذي يهدد حياة الناس الإجتماعية والسياسية إلى درياق شفاء. إذاً فلم يتبق من حلٍ سوى أن نتقبل -ومن صميم قلوبنا- العرض الرباني الذي قدمه لنا حضرة بهاءالله بمنتهى الوضوح والبساطة في القرن التاسع عشر لأنه يتضمن خططاً إلهية من أجل ضمان وحدة البشر في هذا العصر. وإن أياً من أجزاءها المركبة لهي قادرة لوحدها على مواجهة قوى هدامة من شأنها -لو أتيحت لها الفرصة- أن تجر البشرية اليائسة نحو حتفها المحتوم. أذا لم يتبق من حل أمام هذه البشرية الحائرة المنهكة سوى أن تولي وجهها شطر هذا النظم الرباني البديع. هذا النظم الذي أساسه رباني ومداه عالمي وأصوله مستندة على العدل والإنصاف وعناصره وأجزاءه بلا مثيل. ليس بإمكان أحد أن يدرك اليوم مدى عظمة نظم حضرة بهاءالله البديع ومختلف تفاصيله ويعرف سعة إمكانيته ونفوذه حتى ونحن في هذا العصر المترقي، أو أن يتصور مثلاً نتائجه المستقبلية وعظمته وجلاله. إن كل ما يمكننا الحصول عليه الآن عن ذلك النظم البديع لن يكون أكثر من مجرد لمحة سريعة عن بزوغ أول فجر موعود، ذلك الفجر الذي سيزيل -في الميقات المعلوم- ظلمة العالم الإنساني. وإن كل ما نستطيع فعله فقط في الوقت الحالي هو أن نبادر إلى ذكر الخطوط العريضة عن أساسيات نظم حضرة بهاءالله البديع التي وضحها مركز ميثاقه ومبينه المنصوص عليه.
لا يستطيع أيّ عقلٍ سليم أن ينكر بأن السبب في ما ألمّ بالناس من مصائب في هذه الأيام إنما يعود في أكثره بشكل مباشر إلى مضاعفات الحرب العالمية وتغافل صنّاع وثيقة السلام وضيق أفقهم. لا يتردد شخص محايد في الإعتراف بأن التعهدات المالية الباهظة التي تعهدت الدول بدفعها لتغطية مصاريف الحرب، وأيضاً نير الغرامات الحربية القاصمة والتي فرضت على الدول المهزومة قد تسببتا -أكثر من غيرهما- في سوء توزيع الذهب، وسوء التوزيع هذا قد أفضى إلى نقص هذا المعدن كغطاء للعملة السائلة وهذا النقص قد أدى بدوره إلى هبوط فاحش في الأسعار مما شكل عبئاً على كاهل الدول الفقيرة. كما أنه ليس بخافٍ على أي محققٍ منصف بأن ديون الدول قد سببت ضغطاً شديداً على سكان أوروبا فأدى ذلك إلى إرتباك في موازناتها المالية وشلل في صناعاتها القومية وزيادة في البطالة. كما لا يوجد أيضاً شخصٌ لا يعترف -مهما كان ساذجاً أو سطحياً- بأن سباق التسلح قد إزداد حدة كنتيجة لشعور عام بالرغبة في الإنتقام وعدم الثقة والخوف من التنافس الناتج عن الإستعداد للحرب وكلها أمور قد تم ترويجها وتأصيل جذورها بواسطة معاهدة السلام حيث تم إنفاق مبلغ ضخم للتسلح يفوق المليار ليرة في السنة الماضية فقط (1930) وهذا بحد ذاته كان كفيلاً بظهور الركود الإقتصادي والكساد المالي. وليس خافياً على أحد -ماعدا قلة قليلة فقط- ذلك التعصب الوطني ضيق الأفق والغاشم المعتمد على الرغبة في الحصول على حق تقرير المصير. ذلك التعصب الذي نتج بعد الحرب العالمية وتسبب في وضع تعريفات جمركية صارمة ووجه ضربة شديدة إلى آلية العالم المادية وحسن سير أموره التجارية.
ولكن ومع كل هذا فلا يصح إعتبار الحرب العالمية -رغم كل خسائرها البشرية والمادية وما أثارته من نعرات وتعصبات- المسئول الأوحد عن حالة الضياع والإضطراب التي أحاطت كل جزء من أجزاء المدنية المعاصرة. النقطة الرئيسية التي أحب أن أؤكد عليها هي أن السبب الحقيقي لإضطراب هذا لعالم ليس هو وقوع أمثال تلك الحوادث والتي هي أمر طبيعي وصحي في مرحلة التغير المؤقتة التي يمر بها العالم وإنما هو بسبب عجز قادة الدول -الذين أمسكوا زمام دولهم ومصير شعوبهم بأيديهم- عن مواءمة نظمهم الإقتصادية وآلياتهم السياسية مع متطلبات عصر دائم التحول وسريع الإيقاع. لنا أن نتساءل: ألا يعود -بالدرجة الأولى- سبب هذه الإضطرابات التي تزلزل أركان العالم المعاصر إلى عجز قادة وزعماء العالم عن تشخيص حاجات عصرهم هذا بشكلٍ صحيح وعجزهم أيضاً عن التحرر الكامل من الأفكار الجاهزة التي تحد من حرية حركتهم، وعجزهم أيضاً عن تغيير آليات حكوماتهم على نحوٍ يتطابق تماماً مع موازين ومعايير وحدة الجنس البشري الذي كان ولا يزال المقصد الرئيسي لدين حضرة بهاءالله؟!! حيث أن تحقق مبدأ الوحدة البشرية -والذي يعتبر حجر الزاوية في نظم حضرة بهاءالله البديع- لهو أمرٌ مستحيل إلا عن طريق إخراج الخطة الفريدة التي سبق الإشارة إليها إلى حيز الوجود.
يتفضل حضرة عبدالبهاء بما مضمونه: "عند كل إشراق لصبح الهدى كان جوهر ذلك الإشراق أمراً من الأمور ... أما في هذا الدور البديع والقرن الجليل فإن أساس دين الله ولب شريعة الله هو الرأفة الكبرى والرحمة العظمى والألفة مع جميع الأقوام والصداقة والأمانة والمحبة الخالصة غير المشوبة تجاه كل الأمم والطوائف وإعلان وحدة العالم الإنساني ...".
إن مما يؤسف له فعلاً هو مدى غفلة قادة المؤسسات البشرية عن روح عصرنا هذا، فكل همهم ينحصر في إدارة أمور شعوبهم طبقاً لقوانين وموازين تعد من مخلفات العصور السابقة، بمعنى أنه يناسب عصراً كان بإمكان الناس فيه أن يعيشوا في داخل بلدهم معتمدين على أنفسهم ومتبعين سياسة الإكتفاء الذاتي. بعبارةٍ أخرى فإن هؤلاء القادة يريدون تطبيق تلك الموازين في زمن ليس أمامه إلا أحد خيارين: فإما أن يسلك الدرب الذي رسمه وحدد معالمه حضرة بهاءالله ويصل بالتالي للوحدة الكاملة وإما أن يختار الطريق الآخر المؤدية للهلاك. ولهذا فإن مما يليق بقادة كل دول العالم كبيرها وصغيرها، شرقيها وغربيها، غالبها ومغلوبها أن يفعلوه -في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ البشرية- هو أن يصيخوا السمع إلى نداء حضرة بهاءالله المحيي للنفوس، وأن يجعلوا همهم منصباً على توحيد البشر فيطيعوا أمره الأعظم ويقوموا قيام الأبطال بلا أدنى تردد أو تقاعس ليظهروا تجاهه الوفاء حتى يحصل البشر المتألم المتعذب -نتيجةً لذلك القيام- على درياق النجاة المعد له من قبل الطبيب السماوي. كما يتوجب عليهم أن يرموا بأفكارهم العتيقة في زوايا النسيان وينأوا بأنفسهم عن كل التعصبات القومية ويتذكروا بروحهم نصيحة حضرة عبدالبهاء -المبين المنصوص- التي وجهها إلى أحد ذوي المناصب العليا في الحكومة الأمريكية في معرض رده على استفسار الأخير عن الطريقة المثلى لخدمة دولته وشعبه فيما مضمونه: "يجب عليك أن تسع في خير كل أمم الأرض وشعوبها تماماً كما تسعى في خير أمريكا، وساعة ما تعتبر العالم كله بمثابة وطنٍ لك عندئذٍ ينبغي أن تعمم نظام الحكومة الفيدرالية -بالشكل المتبع في الحكومة الأمريكية- على ملل الأرض وأقوامها". كما ويتفضل حضرته أيضاً في الرسالة المدنية -والتي حوت معلومات جد مهمة عن موضوع تحديد النظام المستقبلي للعالم- بما مضمونه: "إن أعلام التمدن الحقيقي ستخفق مرفوفة في أرجاء العالم متى ما قام بضعة ملوك عظماء كالشموس المشرقة أصحاب الهمم العالية ذوو الحمية والغيرة والعزم الراسخ والرأي الثاقب بوضع مسألة الصلح العمومي على بساط المشاورة. يتشبثوا بكل وسيلة من أجل عقد مؤتمر لدول العالم لتأسيس معاهدة قوية وميثاقاً وشروطاً محكمة ثابتة معلنة مصدق عليها من قبل الهيئة البشرية جمعاء على سبيل التوكيد، كما ينبغي لسكان الأرض أن يأخذوا في الإعتبار قدسية هذا الأمر الأتم الأقوم الذي هو في الحقيقة سبب رخاء عالم الملك وينبغي أن تصب جميع قوى العالم وجهوده نحو تثبيت هذا العهد الأعظم وإبقاءه. كما يجب أن يتم ترسيم حدود كل دولة في معاهدة الصلح هذه وتوضيح برنامج عمل كل حكومة، وتعيين وإقرار جميع المعاهدات والإتفاقيات الدولية وعلاقات الدول بعضها ببعض وكذلك تحجيم القوة العسكرية لكل دولة بحدٍ معلوم ٍ حيث أن إزدياد المقدرات الحربية لدولة معينة يسبب توجساً لبقية الدول، كما ينبغي وضع أساس هذه المعاهدة على نحوٍ لو أخلت إحدى الحكومات من بعد ذلك بشرطٍ من شروطها تقوم ضدها كل دول العالم -بل الهيئة البشرية جمعاء- لتدميرها ومحوها بكل شدة وحزم. ولو نجح جسم العالم العليل في أن يستخلص لنفسه هذا الدرياق الأعظم فإنه بالتأكيد سيسترجع توازنه ويستعيد عافيته وينعم بالصحة الدائمة إلى الأبد".
كما يستطرد قائلاً بما معناه: "إن بعض الأشخاص يستصعبون حدوث هذا الأمر إلى درجة الإستحالة ولكنه ليس كذلك بل أنه لا معنى لكلمة المستحيل في ظل رحمة الله وألطاف المقربين إلى عتبة الخالق سبحانه وبفضل الهمم التي لا مثيل لها للنفوس الكاملة المحنكة والأفكار المتفردة. الهمة الهمة، النخوة النخوة فكم من أمورٍ كانت تعتبر في الماضي من المستحيلات التي لم يكن أحد يجرؤ حتى على مجرد تصور حدوثها وإذا بها نجدها اليوم وقد صارت شيئاً غاية في السهولة. إذاً فلماذا يعتبر حدوث هذا الأمر الأعظم الأقوم -والذي هو في الحقيقة الشمس الساطعة على المدنية الإنسانية وسبب لفوز العالم وفلاحه ونجاته- أمراً مستحيلاً وممتنعاً؟ وفي النهاية لابد أن تتجلى معالم هذه السعادة في عالم الوجود".
-"النظام العالمي لحضرة بهاءالله"-
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عنوان الموضوع: نهج سياسي هاش
-
بهاءالله في القرآن (41) -عزيز وحكيم
-
بهاءالله في القرآن (40) -أسماء والقاب موعودي عصرنا في القرآن
...
-
بهاءالله في القرآن (39) –التشابه بين الانجيل والقرآن
-
في إسراء ومعراج رسول الرحمة (ص) .
-
بهاءالله في القرآن (38) - زيت العقل والحكمة
-
براهين أصالة النوع الإنسانى
-
بهاءالله في القرأن (37)- بهاءالله
-
بهاءالله في القرآن (36) - نور على نور
-
بهاءالله في القرآن – (35) بهاءالله، نور الله، جلال الله وعظم
...
-
بهاءالله في القرآن (34) - يُعرفُ الله من أقواله
-
بهاءالله في القرآن (33) - اسماءالله الحسنى
-
بهاءالله في القرآن (32)-حكومة الله على العالم
-
إلي مدّعي التجديد في الدين
-
بهاءالله في القرآن (31) - يوم الله العظيم
-
بهاءالله في القرآن (30)- خضوع حضرة بهاءالله أمام الله
-
النظام العالمي الجديد....ماهيته ( 6- 6)
-
النظام العالمي الجديد....ماهيته (6-5)
-
بهاءالله في القرآن (29) -يأس الناس وإنکار وعد اللقاء
-
النظام العالمي الجديد....ماهيته (6-4)
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|