|
التعليم عن بُعد
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 6912 - 2021 / 5 / 29 - 09:59
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
لا شك أن عالم ما قبل الجائحة لن يكون العالم ذاته بعدها، فلقد ثبت أن النظام الرأسمالي - الذي سعى من خلال العولمة إلى تفكيك الدول، وتهميش دور الدولة الوطنية والقومية، وإلغاء الحدود الجغرافية لصالح الاقتصاد الحر- يتراجع الآن لصالح عودة دور الدولة الوطنية دولة حامية وراعية لمواطنيها في مجالات الصحة والتعليم والإسكان.
هذا فضلاً عن أن العولمة فرضت تحديات جديدة تمثلت في تراجع دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية للأطفال، في ظل مظاهر وسائل التواصل الاجتماعي والميديا عمومًا، وتراجع دور المدرسة عن القيام بدورها التربوي والثقافي.
ما يهمّنا هنا رؤية الأكاديمي المصري شبل بدران عن أثر جائحة كورنا في العودة إلى التفكير في «التعليم المستمر»، والتعليم المستمر في رأيه ينحصر في تعليم المتعلم كيف يفكر ويبحث، بنفسه عن المعرفة في مصادرها الواسعة والمتنوعة، وهذا النوع من التعليم سيغيّر بنية النظام التعليمي القائم: من وظيفة نقل المعرفة وتلقينها وحشو ذهن المتعلم بها ومن ثم استرجاعها، إلى تكوين الشخصية القادرة على التفكير النقدي المستقل، وإعمال العقل في ما تتعلمه من مصادر التعلم العديدة في ظل ثورة المعرفة والمعلومات.
لكن على الرغم من الجائحة التي داهم العالم، فإن الحكومات العربية لم تفكر في التعليم المستمر؛ وذلك لأنه تعليم قائم على فلسفة وأهداف غير موجودة في نظمنا التعليمية العربية المعاصرة، وانحصر الاهتمام بـ«التعليم عن بُعد» و«التعليم أونلاين» وغيرهما من الصيغ التعليمية التي لم تؤتِ ثمارها في عملية اللتعليم والعلم على مستوى العالم.
أما سلبيات التعليم عن بُعد في البلدان العربيىة، فإنه قد أخلّ بمبدأ تكافؤ الفرص وديمقراطية التعليم. وأظهر التفاوت الطبقي والاجتماعي بين فئتين: من يمتلكون وسائل الرفاهية والتمكن من وسائل التواصل الاجتماعي واللجوء إلى الدروس الخصوصية في المنازل، ومن لا يملكون أبسط مقومات الحياة، وهم في الغالب من الفقراء والكادحين الذين لا يقدرون على التعليم عن بُعد ولا يسعون إليه أساسًا، وهكذا أصبح التعليم عن بُعد وسيلة للقادرين والميسورين، هذا فضلاً عن أن الانتقال الفجائي من التعليم النظامي الحضوري إلى التعليم عن بُعد أحدث اضطرابًا كبيرًا لدى الفاعلين التربويين، أساتذة وطلابًا وأولياء الأمور وحكومات، لعدة اعتبارات؛ أولاً ان ضعف الامكانات المادية لدى العديد من الأسر العربية يحُول دون الاستفادة من الفرص المتاحة في التعليم الإلكتروني عن بُعد، كما أن تعدد الأطفال في هذه الأسر يعوق الحصول على هذا النوع من التعليم بسبب احتياج كل طفل إلى جهازه الخاص، وبسبب استخدام حاسوب واحد - إن وُجد أصلاً - من قبل جميع أفراد الأسرة.
وأشارت اليونسكو إلى أن 95% من الأطفال في النرويج يملكون حاسوبهم الخاص، في حين تنخفض هذه النسبة إلى 5% في إندونيسيا.
وثانيًا عدم ارتباط العديد من الأسر الفقيرة سواء في المدن أو الريف بشبكة الإنترنت، والمعلوم ان الحق في التعليم - كحق إنساني - بات يرتبط بالحصول على الإنترنت، وهو أمر يتعذر على نحو اكثر من 50% من الأسر العربية. وثالثًا عدم تعود نسبة كبيرة من الأطفال على توظيف التقانة الرقمية والإلمام بمهاراتها، وهذا ما يحُول دون متابعتهم التعليم عن بُعد، ودون الاستفادة من فرص التعليم الإلكتروني.
ورابعًا انتشار الأمية الأبجدية والرقمية في صفوف العديد من الآباء والأمهات، وهذا يحُول دون أن يساعدوا أولادهم في التعليم.
إن جائحة كورونا التي اجتاحت العالم ومازالت، قيدته في المنازل، وألزمته بإجراءات احترازية محددة، وجعلتنا نعيش عولمة جديدة في أنماط السلوك اليومي والعمل، لكنها قدمت إلينا فرصة كي نعيد الاعتبار إلى المدرسة والأسرة والمعلم والمنهج الدراسي، وهي مكونات لم يلحق بها أي تطور أو تحسن خلال تلك الجائحة، بل استمر الجدل محصورًا بـ«العودة إلى المدرسة أو البقاء في المنزل» وبتوظيف بعض تقنيات التعلم الجديدة، والواضح أن تلك الأوضاع سوف تستمر إلى ما بعد زوال الجائحة من دون تعديل أو تطوير.
والسؤال الذي يطرحه هنا هو: هل التعلم عن بُعد سوف يحل المشكلة؟
ووفقًا لتصوّره الجواب كلا؛ لأن هذا النوع من التعلم بالإضافة إلى مفاقمته حالة اللامساواة وعدم الجاهزية في البلدان العربي، فإنه يثير تساؤلات فلسفية واجتماعية واقتصادية عميقة، ويثير مخاوف من حصول تغييرات اجتماعية غير مدروسة وغير مسبوقة في موقع المدرسة العلمية التعليمية، وإذا كانت هناك ضرورة ملحّة لإدخال تغييرات على النظام التعليمي التقليدي، يجب أن تكون في اتجاه تقوية دور المدرسة لا إضعافها وتفكيكها؛ لأن المدرسة هي المكان الذي يجب ان يجد فيه الأطفال والطلاب الأمان والمساحة للحركة والإبداع، والتنشئة الاجتماعية القائمة على قيم المواطنة وحقوق الإنسان.
ولأن عملية التعليم والتعلم لا تتم من فراغ، وإنما تتم داخل المؤسسة التعليمية لما فيها من تفاعل اجتماعي وثقافي، ذلك لأن مهمها لا تنحصر في اكساب المتعلمين المعلومات والمعارف، بل هي المجتمع الصغير الذي يتعايش فيه الطلاب ويفكرون معًا ويتأملون معًا في حياتهم وظروفهم ومستقبلهم.
التكنولوجيا ليست بديلاً عن الإنسان؛ لأنه لن يكون في استطاعة الإنترنت أو التعليم عن بُعد او التعليم أونلاين أو «شبكبات التلفزيون التعليمية» نفسها أن تزرع في نفوسنا وفي نفوس طلابنا القيم الإنسانية النبيلة والمشاعر والعواطف.
نحتاج دائمًا إلى دفء الاتصال الشخصي والإنساني، وذلك عن طريق الأسرة ومن خلال وجود معلم يثير في نفوس طلابه القيم والرموز الغالية التي تضيء العقول والقلوب، وتدفع مسيرة الإنسان نحو التقدم الحقيقي الذي يحقق سعادته نحو بناء مجتمع العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
ستظل المدرسة والمعلم هما حافظ القيم الإنسانية والثقافة الوطنية والهوية في المجتمع، ولا شك في أن تلك وظيفة غالية الثمن، ولن تستطيع التكنولوجيا أو التقدم العلمي تجاوزها، وإذا كانت الجائحة بدّلت الأدوار والوظائف على مستوى الدول والحكومات، فإنها في مجال التربية تعيد الاعتبار إلى الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية وإلى العلاقات الإنسانية.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ميشيل كامل
-
شماعة كورونا!
-
الأزمة الأوكرانية والتصعيد الأمريكي!
-
الاتحاد الأوروبي وإعادة تقسيم العالم اقتصاديًا
-
عن العقل والعقلانية
-
التنظيم الدولي للجماعة
-
رحلت نوال السعداوي المدافعة عن المرأة
-
يعقوب صرّوف.. العالم والأديب
-
قاسم أمين.. رائد تحرير المرأة
-
بايدن والتحدي الذي تفرضه الصين
-
الجائحة زادت من التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية
-
عن احتجاجات تونس
-
الشيخ علي عبدالرزاق.. المفكر العقلاني
-
التعليم في ظل جائحة كورونا!
-
وداعًا.. شاعر العراق الكبير الفريد سمعان
-
حديث عن التقدم
-
الدول الفقيرة ولقاحات كورونا!
-
زكي نجيب محمود الفيلسوف والأديب
-
رحل اسحاق الشيخ ولم يرحل
-
السياسة الخارجية التركية بين الفشل وافتعال الأزمات
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|