كتب العديد من الكتاب الأفاضل عن حوادث الشغب والنهب والسلب التي حصلت عقب سقوط النظام الفاشي في العراق يوم 9 نيسان 2003، وما بعده، كل من منظوره الخاص. ومساهمتي هذه هي محاولة مكملة لتلك الكتابات. ففي الوقت الذي سارعت فيه الجماهير وبمساعدة قوات التحالف، على إسقاط تماثيل الطاغية صدام حسين وضربها بالأحذية كأبلغ تعبير رمزي عن سخطها وتوجيه الإهانة لهذا الجلاد ونظامه الفاشي المقبور، كانت هناك جموع أخرى تقوم بنهب المؤسسات الحكومية وحرق المكاتب ونهب المتاحف وسرقة المؤسسات التعليمية، المدارس والجامعات.. لأغراض مختلفة سنأتي عليها لاحقاً.
بدءً، أود التأكيد على إن هذه المداخلة ليست لتبرير تلك الحوادث المؤلمة، وإنما محاولة لتفسير الظاهرة التي تحصل في جميع الحالات بعد سقوط أنظمة جائرة والتي حصلت في أغلب الثورات والتحولات الحادة والإنعطافات التاريخية الكبرى والمفاجئة كالتي حصلت يوم9 نيسان 2003. فما حصل في ذلك اليوم وما تلاه، هو أشبه بزلزال يحصل إثناء الثورات الشعبية العارمة ضد الأنظمة الجائرة. والثورات كما يصفها لينين هي " مهرجان المضطَهَدين". وفي هذه الحالات هناك مجال واسع للمجرمين أن يلعبوا دورهم في ارتكاب الجرائم الفظيعة نتيجة لغياب السلطة وحكم القانون. إن أعمال النهب والفوضى مدانة وكان بإمكان قوات الحلفاء السيطرة عليها وحصرها على نطاق ضيق. لكن قادة التحالف برروا مواقفهم بأنهم كانوا يتبعون مبدأ الأولويات وفي مقدمتها القضاء على مقاومة أتباع النظام أولاً.
إن ما حصل في هذه الحرب هو الوحيد من نوعه في التاريخ. ففي حالة الثورات والإنقلابات العسكرية، تبقى البنية التحية للسلطة ويتم إسقاط السلطة الفوقية فقط، كما حصل في ثورة 14 تموز 1958 مثلا، حيث تم إسقاط الوزارة بينما بقيت الإدارات والشرطة وموظفي دوائر الدولة يمارسون أعمالهم والقوات المسلحة تحافظ على الأمن والممتلكات في العاصمة وجميع أنحاء البلاد. أما في هذه الحرب، فقد انهارت السلطة من رئيس الجمهورية إلى آخر شرطي وفراش فيها. لذلك حصل فراغ هائل ورهيب من الصعوبة ملئه بسرعة.
إن أعمال فوضى ونهب للمؤسسات الحكومية بعد سقوط النظام، قد أعطى ذخيرة لمناوئي الحرب والمدافعين عن النظام لأنهم يحاولون استغلال الموقف لأغراضهم الخاصة والصيد بالماء العكر أولاً ، ولأنهم ينظرون إلى هذه الأمور نظرة سطحية تنم عن عدم إدراكهم للدوافع الحقيقية وراء هذه البراكين، خاصة وهي المرة الأولى التي تحصل فيها هذه التحولات الكبرى في العراق في وقت تساهم فيه وسائل الإعلام المتطورة في نقل الأحداث بالصوت والصورة على مدار الساعة بكل دقائقها وبشكل غير معهود في السابق. لقد راح بعضهم يشتم شعبنا ويتهمه بالوحشية والهمجية والتخريب والعمالة للأجنبي لما حصل ولأنه انفجر كالسيل العرم معرباً عن فرحته بتدمير أصنام الطاغية وضربها بالأحذية في التعبير عن مدى كراهيته للجلاد الذي سام الشعب سوء العذاب خلال 35 عاماً عجافاً. لا بل انبرى كويتب عراقي مدمن على العبودية والإذلال من حملة الآيديولوجيات المتحجرة الذين مازالوا يعيشون في كهوف الحرب الباردة، يتهم المثقفين العراقيين الذين أيدوا الحرب على الطاغية أنهم لو كانوا في العراق لشاركوا في النهب!!! فلا عتب على هذا الكويتب البائس ولكن عتبنا على أولئك الكتاب العرب المفترض بهم أن يقفوا إلى جانب الشعب المضطهد وضد الديكتاتورية ويدافعوا عن حريته وأن يسعوا لإيجاد إجابات منطقية علمية لما حصل من أعمال فوضى بعد السقوط لا أن يكيلوا الشتائم للشعب والمثقفين الأحرار.
إن حوادث الفوضى والنهب بعد سقوط أي نظام جائر مسألة متوقعة، إذ حصلت في جميع الثورات وبعد سقوط جميع الأنظمة الجائرة، خاصة تلك التي اضطهدت شعوبها فترة طويلة، كالنظام العراقي. إن الانفجار الشعبي يتناسب طردياً مع درجة الظلم ومدته. لا بل حصلت هذه الأعمال حتى في البلدان المتطورة التي تمتعت شعوبها بالديمقراطية مثل الولايات المحتدة وأسترالياً وبدون حروب أو ثورات. فقد نقلت وكالات الأنباء قبل سنوات عن حصول موجة عارمة من حوادث الشغب والفوضى ونهب المخازن التجارية في مدينة نيويورك ليلاً، إثناء انقطاع التيار الكهربائي لعدة ساعات. وكذا الحال في مدينة أسترالية ولنفس السبب. وهذا يدل على الطبيعة البشرية لدى البعض عندما تسنح لهم الفرصة في ارتكاب الجرائم في حالة غياب الخوف من المحاسبة واكتشاف الجريمة.
وقد كشفت وسائل الإعلام المرئية وغيرها عن حياة الترف والبذخ التي عاشها أزلام النظام وعشرات القصور الرئاسية الفخمة المفرطة في الأبهة، واليخوت التي تتوفر فيها حتى صالات العمليات الجراحية وغيرها من علامات الإسراف في البذخ التي كلفت المليارات من الدولارات التي نهبها أزلام النظام الساقط من ميزانية الدولة وقوت الشعب المحروم من ثرواته، في الوقت الذي كان فيه الشعب يتضور جوعاً ومرضاً وكان النظام وأعوانه من الإعلاميين والسياسيين العرب والأجانب يذرفون دموع التماسيح على معاناة الشعب العراقي وإلقاء اللوم على الحصار في موت العراقيين وتشريدهم. لقد كشفت الحرب أكاذيبهم. ولذلك يجب أن لا ننسى أن ما قامت به الجماهير من أعمال النهب كانت ردود أفعال عنيفة على تلك السياسات الغاشمة للتعويض عما فاتها والتعبير عن معاناتها وللإنتقام من النظام المقبور وإهانته. وكما يقول المنولوجست المرحوم عزيز علي: "الظلم لو دام دمر، يحرق اليابس والأخضر".
يمكن تقسيم الذين قاموا بأعمال الشغب والنهب (الفرهود- كما يسميه العراقيون) إلى قسمين:
الأول، الجماهير المضطهدة، والثاني، هم من أعضاء حزب النظام المقبور.
لقد قامت الجماهير المضطهدة بأعمال الشغب والنهب بعد سقوط النظام لأنها وجدت فرصتها للإنتقام من السلطة الساقطة والتعبير عن سخطها وكراهيتها لها ونهب أكبر كمية ممكنة من ممتلكات الدولة لأن هذه الجماهير قد تربت على مشاعر العداء والكراهية للسلطة بسبب المظالم عبر عقود من السنين وتعمقت لديها مشاعر السخط وعدم الانتماء. إضافة إلى الفقر والحرمان والجوع، كما شاهدنا على شاشات التلفزة، الجموع الغفيرة وهي تتدافع على مخزن للأطعمة في بغداد، كل يحاول أخذ أكبر ما يمكن حمله، ومن بينهم كان رجل عجوز طاعن في السن يحمل على ظهره بصعوبة بالغة، كيساً من الطحين فوق طاقته. لا أحد يمكن أن يتهم هذا العجوز بالنزعة العدوانية أو الإجرامية أو الرغبة في التخريب وإنما عمل ذلك بدافع الفقر والجوع فوجد فرصته مواتية للحصول على ما ينقصه من مادة غذائية يسكن بها ألام جوعه.
أما القسم الثاني من النهابين والمخربين فهم من المجرمين من أعضاء حزب البعث الذين قاموا وما زالوا يقومون بالجرائم المنظمة. لقد ترك الحزب ولحد الآن دون أن يضرب في بنيته التنظيمية وخاصة في الأيام الأولى من سقوط النظام. وهناك تقارير تفيد أن أعضاء الحزب وملشياته تسلموا تعليمات من القيادة العليا قبل السقوط بعدة أيام، تأمرهم بالقيام بإلحاق أشد الأضرار بممتلكات الدولة في حالة سقوط النظام وأن يشعلوا الحرائق في المؤسسات الثقافية والعبث بأمن المواطنين ونهب البنوك وحرقها من أجل إثارة سخط الناس ضد قوات الحلفاء والترحم على عهد صدام حسين. وعلى سبيل المثال، تم حرق أكثر الوثائق والكومبيوترات في دوائر الأمن. فمن المستفيد من اختفاء هذه الوثائق غير رجال الأمن أنفسهم من أجل إخفاء جرائمهم؟ كذلك ما هي فائدة المضطَهَدين أو لنسميهم الغوغاء، من حرق مكتبة الأوقاف والمكتبة الوطنية وتحويل ما يقارب المليون طن من الوثائق النفيسة والمخطوطات النادرة إلى رماد؟ ولو جئنا إلى المتحف الوطني في بغداد، فالكل يعلم أن بناية المتحف قد صممت بشكل حصين أشبه بقاصة مصرف، لا يمكن دخولها إلا من خلال بوابة حديدية واحدة سميكة جداً لا يمكن فتحها إلا بعدة مفاتيح محفوظة عند مسؤولي المتحف. كذلك بات معروفاً أن موظفي المتحف قاموا قبَيْل حرب الخليج الثانية عام 1991التي حررت الكويت، بجمع محتويات المتحف وحفظها في صناديق خاصة وخزنها في سراديب أمينة، حفاظاً عليها من القصف الجوي. أما سرقة التحافيات بعد تلك الحرب فقد تمت بأوامر وعلى أيدي أعضاء العائلة الحاكمة. أما في هذه المرة فقد تمت سرقة المتحف من قبل فريقين من اللصوص على حد قول خبير في اليونسكو في إفادته لمراسل بي بي سي: فريق محترف وخبير بشؤون التحافيات الأثرية وتجارتها. لا شك أن هؤلاء أغلبهم من أعضاء الحزب الحاكم وذو علاقة بالمتحف ومعرفة واسعة بمحتوياته، فكانوا انتقائيين في سرقاتهم حيث سرقوا النسخ الأصلية وتركوا المستنسخة. أما الفريق الثاني من النهابين فهم الغوغاء حيث ترك المسؤولون بوابة المتحف مفتوحة لهم ليعيثوا فساداً ولتغطية جرائم المحترفين في سرقة الكنوز الأثرية.
كذلك تلقى الحزب تعليمات للإستمرار بأعمال الشغب والنهب وعدم الظهور بصفتهم الحزبية البعثية بل التسلل إلى الأحزاب والتنظيمات الإسلامية ورفع شعارات وترديد هتافات إسلامية، شيعية كانت أم سنية، معادية لقوات التحالف ومطالبتها بالرحيل فوراً وكذلك الدعوة للمقاومة المسلحة وإعطاء انطباع للعالم بأن الشعب العراقي لا يرحب بهذه القوات وإنهم يحنون لأيام صدام. وبرحيل قوات التحالف تتوفر الفرصة لعودة نظام البعث الفاشي وصدام حسين إن كان حياً، لينتقم من الشعب الذي رحب بسقوط النظام أشد انتقام. فهل أعمال النهب قد انتهت أم هي البداية لما هو أعظم وعلى المدى الطويل؟ وهذا موضع مقالنا القادم.