حينما نتصور التاريخ مصابيح تضئ لنا مواقع تفكيرنا وتكشف لنا أبعاد قراراتنا، نمارس حينذاك ديمقراطية التفكير التي لا تغلق أمامنا أبواب الإحاطة المستنيرة بالمشاكل، وطرق فهمها، ومداخل معالجاتها. أما عندما نتخيل التاريخ جسما يتكون من جينات تستنسخ الفترة التاريخية اللاحقة من سابقتها، نكون قد دخلنا أرض الجبرية. عندئذ، ليس لنا إلا أن نتنعم في جنة الخمول الفكري التي لا ترى في السياق التاريخي إلا استنساخا متواصلا لنموذجه الأول. لكن المفارقة، أن المثال الأول للتاريخ العربي الإسلامي في بعده الفكري والعقائدي وفي سياقه التجريبي والعملي كان تجربة في التعددية فريدة في تاريخنا العربي والإسلامي.
وقد تأسرنا مقولة الأستاذ محمد عابد الجابري، حينما يسقط النظام الشمولي يسقط شموليا، لرشاقة التركيب، وطرافة التعبير اللغوي، أما أبعد من ذلك فليست إلا من عادي المعاني والدلالات. بل إنها، بلغة التزويق، تعوزها الدقة. فهي تقيم تقابلا بين الأنظمة ليس قائما في حيز الواقع، كما أنها ترسل تعميما لا يسعفه الدليل بقدر ما يجافيه. صحيح أننا نستطيع أن تنصور على صعيد الإطار المفاهيمي في مجال الحكم نظامين من حيث توفر إرادة الناس فيهما، أحدهما ينبثق، على نحو فياض، من إرادة الناس، وثانيهما يطغى، على نحو جارف، رغما عنها. وتتوقف هنا المقاربة، لأننا بمجرد أن نقف على عتبة التاريخ ثم نبحر في أعماقه حتى لحظتنا الحالية تتبدى لنا أحوال أخرى تغيب فيها الثنائية ويختفي منها التقابل. فلن نجد في واقع الحياة نظما تعكس على نحو شامل وواف أي من النظامين، وكل ما سنكتشف خطا ممتدا بين المثالين تتبوأ فيه الأنظمة السياسية مواقعها عليه قربا أو ابتعادا من أحد طرفي الخط الممتد. ومع ذلك تبقى السمة الجوهرية لمعظم الأنظمة السياسية اغتصاب متواصل ومتفاوت لإرادة الناس.
ولو أمعنا النظر في طبيعة الأنظمة السائدة سواء كانت توصف شمولية أو ديمقراطية، لوجدنا في غالب الأحيان أن ما يفرقها في اغتصاب إرادة الناس لا يكمن في وجود الاغتصاب. فالاختلاف بين الأنظمة في اغتصاب إرادة الناس ليس اختلاف النوع بل هو اختلاف الدرجة. أما اختلاف النوع ما بين هذه الأنظمة فهو في طرق الاغتصاب. فالدول الرأسمالية الديمقراطية الرئيسية طلقت سياسة العنف، قتلا أم تعذيبا أم سجنا، بشكل جوهري في تزييف إرادة الناس. فقد تبين لها أن كلفتها رهيبة على الاستقرار الاقتصادي وعلى الإنتاجية. كما أنها تعوق مساعيها لفتح أسواق العالم بقوة السلاح. ووجدت أن إطلاق الحريات الاجتماعية والاقتصادية، وتسيير الحريات السياسية يمكن سفينة النخبة أن تمخر عباب أمواج التحديات المجتمعية بسهولة. وقد أمنت التسيير السياسي حينما ضمنت أن الرأي السياسي الذي لا تسنده الملايين من الدولارات يبقى صرخة في واد، وأن المرشح الذي لا تحتضنه الشركات والأغنياء يعجز عن الوصول إلى جيرانه ناهيك عن البرلمان. أما الأخطر والأشد أثرا في تسيير المجتمعات حينما امتطت ظهر الإعلام الذي خلق عالما سياسيا واقتصاديا خياليا يتخبط الناس في جنباته.
وقد جهد الغرب من خلال إعلامه وفقهاء نخبته في تصوير اغتصاب الإرادة الإنسانية اغتصابا حينما يتم عنفا، ويصبح رضى حينما يتم تدليسا وتحايلا. ولقد أعمتنا كثرة الجلبة وشدة الصخب عن تبين الزيف في هذا الأمر ونحن نراه في أمور مختلفة. فنحن لا نقبل التدليس في البيع ونعتبره مفسدا للصفقة لكننا نقبل التدليس في إرادة الناس ونعتبرها حرية. أما في بلداننا، كما في بلدان العالم المتخلف، فاغتصاب إرادة الناس ما زال يجري عنفا، وإن تنوع العنف في حدته. وقد روضنا أنفسنا على النسبية حتى أصبحت درجات العنف أنواعا. فمن يقتل ألفا له توصيف غير من يقتل مائة. وفي هذا الخضم غيبت القضايا الأساسية، وهي أن اغتصاب الإرادة واحدة إن تمت بقتل آلاف أم آحادا، وأن صفة الإجرام واحدة إن كان الضحايا كثير أم قليل، وأن الاغتصاب قائم تم عنفا أم تدليسا.
ثم إن مقولة حينما يسقط النظام الشمولي يسقط شموليا، ليست فقط مألوفة المعنى، بل ومغلوطة في السياق الذي جاءت فيه. فالحرب تسقط أي نظام يرتكز إلى إرادة الناس أم يقوم رغما عنها. فقد كانت تشكوسوفكيا تتهيأ لممارسة الديمقراطية صبيحة انتهاء الحرب العالمية الثانية، حينما أسقط نظامها الجيش الأحمر. كما فرضت نتائج الحرب نظامين للحكم مختلفين في ألمانيا المقسمة. كما أطاح التدخل الأمريكي بالنظام الديمقراطي في تشيلي، وأطاح التدخل العسكري المسنود غربيا بالتعددية الناشئة في الجزائر. ويمكن للمرء أن يأتي بالبرهان من أمثلة كثيرة على السقوط الشامل بالحرب لأي نظام شموليا كان أم تعدديا.
وحتى بدون الحرب، فليس حتميا سقوط النظام الشمولي، فقد يتمتع النظام الشمولي بأفق أرحب وليونة واسعة، فيقدم تنازلات تنقله من موقعه على الخط الممتد بين الشمولية والتعددية. لقد اعتبر ستالين من أكثر الحكام شمولية وإجراما، حتى ساواه البعض بهتلر، وحينما مات لم يسقط الاتحاد السوفيتي. كما أن الصين التي حدثت فيها تغييرات وهزات متنوعة، لم يتغير فيها النظام السياسي لأنها بدأت تتقن لعبة التسيير السياسي من خلال الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي وغيرهما.
لكن الأخطر في المقولة، ما قدم تفسيرا لأصوله ومكوناته في العالم العربي والإسلامي، وبالذات للمرجعية الأولي للحكم الشمولي. فهو تفسير متعسف ومختزل للتاريخ. فالتاريخ العربي الإسلامي عند الجابري ليس إلا تاريخ السلاطين وفقائهم. وحينما يكون التاريخ سلوك الحكام وتنظير فقائهم فليس أمامنا إلا مجرى واحد يرفد العقل العربي الإسلامي. فالحكام ظلمة وفقهائهم منظرون لظلمهم، فحصاد هذا التاريخ المبتسر والمزيف بحيرة فكرية تطفو على سطحها كل طيور الاستبداد. لكن أين في هذه الصورة مشاهد الثورات والانتفاضات المتتالية في العصرين الأموي والعباسي، وأين فيها مشاهد العلماء في أقوالهم كما في تحديهم للسلطة؟ وكيف يمكن للنزاهة العلمية أن تستخلص من هذا التفاعل بل التصارع الضخم حكما عاما يقول أن فكرنا قام على المماثلة التامة بين الحاكم ونظام حكمه وبين الله ونظام خلقه، أو أن المثال الذي يجذب العقل السياسي العربي هو مثال المستبد العادل؟ ولعل التناقض بين في المقولتين لمن كان له نظر. فإذا تصورنا أن البعض قد قال بهما بدلالات متنوعة، فلا بد أن الكثير من العرب يعرفون أن المخلوق لا يمكن أن ينتج نظاما يضاهي نظام الخالق، إن أردنا أن نتعسف في قراءة المفهوم في إطلاق يد الحاكم. بل أن المقارنة نفسها تشي بشيء أخر، وهو تطبيق النظام وليس تطبيق الأهواء. فالمسلمون يعتقدون أن الله سن نظاما للخلق من خرج عنه يعاقب ومن التزم به يثاب. فهو لم يقل سأعاقب وسأثيب خارج القانون الذي وضعته. فإذا كان رب العالمين يلتزم بما وضع وهو القادر على كل شيء، فينبغي على الحاكم أن يلتزم بالقانون. ولا يمكن التلاعب هنا بالقول أن التشبيه قد يعني أن الله وضع قانونه، والحاكم يستطيع أن يضع قانونه. فهذا لم يقل به حتى فقهاء السلطان. فالكل وبخاصة في أيام الخلافة كان يعني بالنظام ذلكم المتضمن في الشريعة الإسلامية. فلم تكن المشكلة حينذاك في ضرورة تطبيق القانون وإنما في تأويل القانون على هوى الحاكم. ومع ذلك فقد قامت ثورات ضد الظلم، ودفع علماء حياتهم ثمنا لتدريب الناس على مقاومة الظلم. ثم تقودنا الجرأة على التزييف إلى القول أن فكرنا تشكل عموما من معين ساقية فكرية من بين سواقي كثيرة.
أما مثال المستبد العادل فهي يثير إشكالية التناقض الجوهري، وربما التناقض الشكلي تبعا لتحديدنا لمفهومي المستبد والعادل. فالعدل هو إقامة أحكام القانون، والاستبداد هو إقامة أحكام الهوى. فكيف يمكن أن نجمع بين الأمرين؟ فإن كان هذا هو الفهم الذي يراد لنا أن نظنه فهو ملهاة مأساوية لا تليق بمن يريد أن يستخدم عقله، أو يريد أن يحترم عقول الناس. أما إذا كان القول أن المستبد هنا رديف للحزم فالمسألة مختلفة. وهو مطلوب من أي حاكم حينما يطبق القوانين أن يكون حازما في تطبيقها، وإلا ضاعت حقوق الناس ومصالح الدول. ولذلك يقولون حاكم قوي حينما يكون حازما في قراراته في نطاق القوانين، وحاكما ضعيفا حينما يكون مترددا. وحتى في البلدان المتقدمة مثل أمريكيا، يكون فيه الرئيس قويا أم ضعيفا تبعا لقدرته على حسم رأيه في البدائل المعروضة عليه. ولقد كان رأي المسلمين يكاد يكون إجماعا على توصيف الدول التي جاءت بعد الدولة الراشدة بأنها ملك عضوض. أي كان هناك فهم عام لدى جمهور المسلمين أن الحكام اغتصبوا إرادة الأمة حينما توارثوا الحكم أو استولوا عليه عنوة. فلو كان هذا النظام متماثلا في مخيال المسلمين مع نموذج أمير الجيش فلم ميزوه بالدونية في مقابل الحكم الراشدي؟ ثم نقول أن المرجعية العربية الإسلامية هي تعظيم للحكم الشمولي!
ثم إن الملك العضوض لا يعني بقاء الحاكم في الحكم من دون تحديد المدة كما يريدنا أن نفهم الأستاذ الجابري، بدليل أن الحكم الراشدي لم يحدد مدة حكم الخليفة، بل هو عدم العودة إلى رأي الناس في الحاكم وتوريث الحكم. كما أن مسألة تحديد المدة ظاهرة حديثة في التاريخ الإنساني عموما. ولا يمكن لنا أن نطلب من العرب في القرون الماضية أن يستعملوا آليات لتجديد السلطة لم يصل إليها الفكر الإنساني إلا حديثا. فالفكرة الأولي لدى المسلمين كانت أن يكون تعيين الحاكم مرتبطا برأي الناس، واستمراره في الحكم مرهون باحترامه للعقد معهم. ولو تابع المسلمون تطبيق الفكرة ولم ينزلقوا إلى مستنقع الحكم العضوض لربما كانوا قد طورا مفاهيم الحكم السياسي الجماهيري قرونا قبل النهضة الأوروبية.
ولكن الشمولية في البلدان العربية مرجعياتها أكثر حداثة. فالأوروبيون ذهبوا إلى العالم الجديد، وحرقوا وقتلوا سكانه، ثم تمكن البعض منهم من بناء نظام جمهوري يقوم على الحريات، في أمريكا الشمالية. لكن هذا البعض الذي تمكن من الحرية وضع قيدا على نموها في الأجزاء الأخرى من العالم الجديد، أمريكا الوسطى والجنوبية. بل أن التدخل العسكري الأمريكي كان ظاهرة على مدى ما يقرب من القرنين لمنع الحرية أن تضرب أوتادها هناك لأن شيوعها كان يؤثر على المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة. وقد كان هذا حال المنطقة العربية بعد سقوط الدولة العثمانية، تدخل متواصل مباشر وغير مباشر من الغرب لمنع ممارسة الناس لحقوقها في الحكم. فالعرب تواقون ككل الناس لأن تكون أمورهم بين أيديهم، لكن مصالح الغرب كانت تفرض بجيوشها أو بجيوش نخبها منع أن يتحول التوق إلى حقيقة سياسية. فهل يريد البعض منا أن نصدق أن استمرار الشمولية في بلداننا تعود إلى أننا قد تطبعنا على عشق النظام الشمولي. ترى في أي عالم يعيش هؤلاء الذين لا يرون تضحيات الناس وقوافل الشهداء منهم وهي تريد أن تسترد حقوقها المسلوبة. هذا نوع جديد من فقهاء السلطان.