سلام عيد
الحوار المتمدن-العدد: 1632 - 2006 / 8 / 4 - 10:33
المحور:
الصحافة والاعلام
على مدى شهر, استقطب مونديال كرة القدم, استقطاباً حيّاً, اهتمام أكثر من ثلاثة مليارات إنسان في العالم كلّه, ورجع الفضل في ذلك إلى بثّ محطّات التلفزة الدوليّة الكبرى هذا الحدث, مباشرة, على مدار الأربع والعشرين ساعة.
شُلّت بلدان بأكملها, وقد عبّأتها محطّات التلفزة الكبيرة, قبالة شاشات التلفزيون, وخرجت الحشود إلى الشوارع لتحتفل بنصر فرقها, معلنة مظاهر الفرح والابتهاج, أو منتحبة انتحاباً جماعيّاً, حين كان يخرج الفريق الذي يمثّلها من المونديال.
على مدى شهر, وبفضل التلفزيون, تحوّل مونديال كرة القدم, حيث يركض 22 شخصاً وراء كرة, صفقةُ عابرات القوميات ووسائل الاتصال التي حرّكت 8 مليارات من الدولارات, إلى مسألة أساسيّة وحاسمة في حياة مليارات البشر الذين تسمّروا أمام التلفزيونات طوال فترة المنافسة.
وتحوّل (الاحتفال الجماعي) بالمونديال في ألمانيا (الذي نقله التلفزيون), إلى قضيّة (استراتيجيّة) للدولة لدى حكومات الأمم, سواء التابعة أم المركزيّة, فأقرّت عطلات عن العمل كي لا يضيّع مواطنوها المباريات, وكي يتمكّنوا من الاحتفال في الشوارع.
منذ أكثر من خمسة عشر يوماً, بدأت دولة إسرائيل إبادة جماعيّة عسكريّة, أوّلاً في قطاع غزّة, والآن في لبنان, وقد أودت خاتمتها العملياتيّة (إلى الآن) بحياة أكثر من 150 شخصاً (بين لبناني وفلسطيني)، من بينهم نساء وأطفال ورضّع أيضاً, إضافة إلى الدمار المخيف الذي يخلّفه في البنية التحتيّة والبيئة, قصف السكّان المدنيين العزّل.
إنّها مجزرة عسكريّة لم يسبق لها مثيل, تنفّذها قوّة كبرى, دولة إسرائيل اليهوديّة, التي تستخدم ضد السكّان العزّل طائرات إف 16, ومدفعيّة ثقيلة, ومدرّعات ومصفّحات وطائرات تجسّس بلا طيّار, تراقب كلّ الأجواء, وتطلق صواريخها الموجّهة إلى أهداف (اغتيالات) انتقائيّة, وطائرات مروحيّة أباتشي تشنّ هجماتها على مدى الـ24 ساعة, ومشاة تغطّيها المدرّعات, تتقدّم وتحاصر المدن.
أمام هذه المجزرة العسكريّة, التي تنضاف إليها الإبادة الجماعيّة التي سببها نقص العناية الصحيّة والأغذية لدى السكّان الذين تحاصرهم القوات اليهوديّة, لم تقرّ أيّة حكومة في العالم يوم عطلة وطني, ولم يحرّك أيّ من الشعوب التي تجنّدت للاحتفال بمونديال كرة القدم في ألمانيا, ساكناً, وقد (تصامّت) عن المأساة.
ما يزال المليارات ممن انفعلوا, وضحكوا وبكوا, مع المونديال, لا مبالين بالاغتيالات الجماعيّة لبشر تقصفهم قوّة غازيّة كبرى, في غمرة الإفلات من القصاص وصمت القوى ومنظّماتها الدوليّة المتواطئ.
ما الذي يجري لهذه البشريّة التي تهتزّ وتبكي مع 22 شخصاً مأجوراً يركضون وراء كرة, ولا تذرف دمعة واحدة أو تهتزّ لاغتيال جماعي لأندادها؟
كيف وصل بنا الأمر إلى هذا الضلال, إلى هذه الفرديّة المريعة, إلى هذه اللاأنسنة, إلى هذه اللامبالاة بالموت والحياة, إذ تنحصر عوامل الاستنفار الجماعي في الأصنام الرياضيّة والأشخاص البهلوانيين؟
للسؤال جواب: وصلنا إليه بالتلفزيون.
وصلنا إلى ذلك مع المجتمع الاستهلاكي, عن طريق التلاعب الإعلامي من أجل بيع المنتجات, والمشاهد, والبهلوانيّة, والأصنام الرياضيّة, وصيحات الموضة, والهواتف الخليويّة, وعموماً, كلّ ما من شأنه أن يدرّ الأرباح على الاتحادات الإعلاميّة الرأسماليّة, عابرة القوميّات أو المحليّة, التي تراقب السلوك الجماعي وتوجّهه بوساطة (الخبر) أو (التسلية).
لكن على هذا النحو تُستخدم تقنيات التلاعب في استلاب الضمائر عبر (المشهد التلفزيوني), كما تُستخدم في إخفاء الحقيقة أيضاً, وإسدال ستائر من الدخان, واختلاق (اهتمام اجتماعي) أو (لامبالاة), إزاء الأحداث المختلفة الجاريّة, المحليّة منها أو الدوليّة.
ويرتبط (إظهار) هذا الحدث أو ذاك أو (إخفاؤه) بالمصالح التي من المحتمل أن تكون لدى الحكومات والاتحادات الإعلاميّة في الحدث ذاته.
وعلى هذا النحو, (باعت) المحطات الدوليّة, بالجملة, مونديال ألمانيا وأبرزته (فصرف الانتباه, مدّة شهر, عن المشكلات الفعليّة), وبالطريقة نفسها هي تخفي المجزرة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة ولبنان, على النحو ذاته الذي تعتّم به على ما يحدث في العراق وفي مناطق أخرى من العالم تخضع للغزو والتصفية العرقيّة العسكريّة التي تحدث في إطار مراقبة الأسواق والموارد الاستراتيجيّة.
التلاعب الإعلامي
إنّ التقنية الأولى التي تستخدمها القنوات الكبرى (سواء قنوات التلفزة أم الراديو أم القنوات المكتوبة) هي إخراج اللغة عن سياقها, وتشويه للأمور ذو دلالة, يسمح بتفسير مغاير لما يحدث في الواقع.
وهكذا, على سبيل المثال, فيما يتعلّق بلبنان وغزّة, تستعيض الصحافة الدوليّة عن كلمة اجتياح (وهو ما يحدث فعلاً) بكلمات (صراع) أو (مواجهة) أو (أزمة), نازعة عن إسرائيل طابعها كقوّة معتديّة, وواضعة غزّة ولبنان, البلدين المجتَاحين, على قدم المساواة مع القوى الغازية.
وبالطريقة ذاتها, يُحلّون عبارة (قتل الأشخاص) محل كلمة (اغتيال) (وهو ما تقوم به إسرائيل فعلاً في لبنان وغزّة), الأمر الذي يفرغ التصفية العرقيّة العسكرية الإسرائيليّة ضد المدنيين العزّل من معناها الفعلي.
وثمّة جانب آخر من جوانب تشويه اللغة لإخفاء الحقيقة, يتمثّل في تصوير أعمال المجموعات المحاربة التي تقاوم الاجتياح (بموارد لوجيستيّة وسلاح ضعيف في مواجهة قوّة كبرى) على مستوى القوّة الإسرائيليّة الغازية ذاته.
على هذا الشكل, يطلقون اسم (الحرب) سواء على مجازر إسرائيل العسكريّة ضد المدنيين, أم على الأعمال الدفاعيّة التي تقوم بها مجموعات المحاربين الذين يدافعون عن أراضيهم, مساوين المعنى بين (الغازي) و(المغزو).
والتقنية الثانية التي تستخدمها كبرى القنوات لتشويه فهم المجزرة الإسرائيليّة في غزّة ولبنان هي (إخضاع الخبر للتسلسل), الذي تزيل عبره الجاذبيّة الاجتماعيّة المعبّئة ضد الإبادة الجماعيّة, وتنقصها إلى حدّها الأدنى.
لنرَ كيف يفعلون ذلك:
حين ترغب القنوات الكبيرة بفرض (محور إعلام) أو (خبر) فإنّها تفرضه. وتفرضه بوساطة منهجيّة: عبر تكرار متسلسل وبتغطيات حيّة.
إذا بثّت محطات التلفزة العابرة للقوميات تغطية حيّة, فإنّها تفرض المعلومة فرضاً تامّاً على القنوات والوسائل المحليّة التي تعيد بثّها, وتُحكِم قبضتها على المجتمعات الموجودة في نطاق تأثيرها.
وهكذا, كما تكون الوسيلة تكون الرسالة (وفق نظرية ماك لوهان), فالتلفزيون يشكّل جسامة الرسالة المعولمة على صعيد الكوكب, وببساطة, فإنّ ما ليس على الشاشات لا وجود له.
لكن القنوات لا تخفي, في هذه الحالة, القتل الجماعي الذي تقوم به إسرائيل في غزّة ولبنان, بل تشوّهه وتجرّده من مدلوله بوصفه حدثاً بالغ الأهميّة ومأساة إنسانيّة عالميّة.
كيف يفعلون ذلك؟
كما ذكرنا, فإنّه عن طريق التلاعب, يمكن للتلفزيون الدولي أن يفرض ابتداءً من مونديال كرة القدم حتّى الموضوعات الأكثر سخافة على وجه الأرض كما لو كانت ذات (نفع عام), ويمكنه أن يجرّد أحداثاً بالغة الأهمية في تحديد مصير البشريّة, من قيمتها.
أي أنّه, بالطريقة ذاتها, يمتلك المقدرة على فرض ما يهمّ النظام, والمقدرة على إخفاء ما يضرّ بالنظام.
كيف يفعلون ذلك؟ ببساطة, بأن (يقيّموا) الخبر أو أن (يخضعوه لنظام تسلسلي).
وما يبرز كخبر رئيسي, إلى ما يعطي طابع التغطية الحيّة, هو ما يقرؤه المشاهد ويسجّله حدثاً مركزيّاً.
وهنا تكمن الخديعة: لا تظهر الإبادة الجماعيّة في غزّة ولبنان على أنّها (خبر رئيسي) يبرز عن المحطات الكبيرة, بل تبدو على شكل (ملحق إخباري) في حزمة كبيرة من الأخبار اليوميّة.
وعلى الرغم من وجودها في كلّ نشرات الأخبار, فهي لا تمتلك أهميّة وديناميكيّة تغطية المراسلين الحيّة لمسارح الأحداث المختلفة, مع آراء الشهود, وأبطال المجزرة, يروون المأساة رواية حيّة ومباشرة.
في حالة غزّة ولبنان, لا تخفي الـ CNN والمحطات الكبيرة الخبر, بل تصغّره, تشوّهه, تختزل معناه, بهدف منع قيام رد فعل انفعالي لدى المشاهد الذي يستهلك الخبر بلا مبالاة تقريباً.
يوضع الخبر (في حالة غزّة ولبنان هذه) في المؤخرة, يُعرّى من أهميّته ومن عناوينه التي تصدم, وتجرّد الصور من موسيقاها, و(تُزال مأسويته) عنه, فيتحوّل إلى (خبر أكثر).
من جهة أخرى, تنتقي القنوات, والـ CNN على رأسها, الصور متجنّبة, بدقّة, إظهار وجوه اغتيال المدنيين في أعمال القصف الإسرائيلي وضحاياها, أشخاص عاديون يُغتالون, من بينهم نساء وأطفال.
يسدّد التلاعب الإعلامي بالإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في الشرق الأوسط على الكبير: والكبير هو التلفزيون.
ليس للإخضاع لنظام تسلسلي أو لبث الأخبار عبر الإنترنت حدث كبير: فالوكالات التي تضع عناوين أخبار الإبادة الجماعيّة في غزّة ولبنان, في المنسوب الأول هي المورّدة لمحطات الراديو والتلفزيون واليوميات التي تقرّر فيما بعد, أمور تقييم الأخبار وعرضها أمام الرأي العام.
أي أنّهم لا يخفون الخبر, بل يتلاعبون به (بالإخضاع لنظام تسلسلي) و(التقييم).
تبثّ جميع المحطات والتلفزيونات المحليّة أخبار الإبادة الجماعيّة التي تقوم بها إسرائيل, لكنّها لا تسمّيها إبادة جماعيّة بل صراعاً, فما من جيش قوّي ومتفوّق يهاجم، بل ثمّة (معارك) بين ندّين, الجيش الإسرائيلي وعصابات (البلد المُجتاح) التي (تهاجم إسرائيل).
في حالة غزّة ولبنان, تستخدم الاتحادات الإعلاميّة التلفزيونيّة, ومكرّروها المحليّون, التقنية التي عادة ما تسلّح بها التغطيات لتعبئة مليارات المشاهدين, لتحويل الإبادة الجماعيّة التي تقوم بها إسرائيل إلى نوع من (الخبر البيروقراطي) والممل.
إنّه السبب الرئيسي الذي من أجله تكاد مجزرة إسرائيل في غزّة ولبنان ( لا توجد) لدى المليارات من المشاهدين ممن استهلكوا مونديال ألمانيا (22 شخصاً يركضون وراء كرة) كما لو كان سبباً أساسيّاً وحاسماً من أسباب حياتهم.
يتألّف العالم من ملايين الأفراد الذين يسترشدون بمسلّمة أساسيّة: أشاهد التلفزيون وأوجد بعد ذلك.
وتتكفّل محطات التلفزة الكبيرة بأن لا توجد الإبادة الجماعيّة العسكريّة الإسرائيليّة في غزّة ولبنان.
ترجمة سلام عيد
بقلم: موقع ريبيليون
#سلام_عيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟