درويش محمى
الحوار المتمدن-العدد: 1632 - 2006 / 8 / 4 - 05:44
المحور:
حقوق الانسان
التقيت احد المغتربين السوريين بعد عودته من الوطن, الى السويد بلد المهجر, رجل اكاديمي ضاقت به السبل وهو يبحث عن حياة حرة و كريمة في بلده الام, فقرر البحث عنها في بلاد الهجرة والاغتراب, حاله كحال الكثير من السوريين التعساء, حيث وجد ضالته في اقصى شمال الارض بلاد الثلج والجليد والقراصنة, والتي هجرها اهلها بالملايين في النصف الاول من القرن العشرين, بسبب فقرها وقلة مواردها وشحة خيراتها, ولكنها اليوم بعد نصف قرن او اكثر بقليل, فردوس الدنيا, بلاد الحرية والثراء, بحيث لاتجد بين اهلها مظلوما اوفقيرا, قوم يكرهون الحروب ويتجنبونها, ويعملون بعقولهم قبل قلوبهم, ولايجيدون ثقافة الحقد والكراهية, لذالك تجدهم ينامون ويستيقظون باكرا, ويعمرون طويلا, والكنائس كالمساجد في بلادنا او اكثر تجدها في كل مكان, ولكنهم لايمزجون الدين بالسياسة, ولايزجون بالرب والكتاب في كل صغيرة وكبيرة, وبعد ان كان يهجرها اهلها اصبحت قبلة للمهاجرين والحالمين, ومنهم المغترب الذي التقيته وحدثني عن رحلته الى الوطن بعد عقدين من الزمن في المهجر والشوق والحنين للبلد واهل البلد وشمس البلد وهواء البلد وتراب البلد, وتوقعت ان يكون حديثه طويلا و مملا مقرفا , عن كل ما كان يحن اليه قبل سفره, ولكنني وجدت العكس, فهو لم يرو لي, سوى قصة عودته, وعن مجرياتها لحظة دخوله وعائلته مطار دمشق الدولي وحتى وصوله للبيت, ولانه كان على دراية بأخبار الحرب ونزوح الالاف من السياح والمغتربين من لبنان نحو سورية, ادرك مسبقا ان امامه يوما صعبا وعسيرا, فاحتاط الرجل وخطط, حيث احتفظ ببضعة الاف من الليرات السورية, قد تسهل عليه يومه, كما نصحه البعض من اصحابه المقربين, فالرشوة لها فعل ساحر, في كل ادارات الدولة ومؤسساتها, ويبدو ان رجال الدولة وموظفيها لم يكفهم جمال المطربة هيفاء وهبي وانوثتها, بل اخذوا من كلمات اغنياتها المنطق وفن البقاء على قيد الحياة, يرددون بلا خجل او حياء"بدي عيش"ويطلبون ما يسمونه البخشيش, ولانه كان يدرك ان المطار سيكون كيوم الحشر مكتظا بالبشر, خطط مسبقا بان يكون في المطار قبل ست او سبع ساعات من اقلاع الطائرة, حتى يكون في الصفوف الامامية للركاب, والافضل ان يكون الاول في "الدور", ويوفر على اطفاله الصغار, مشقة الانتظار والوقوف لساعات لاتمام اجراءات السفر الروتينية والمعقدة, وبالفعل وجد نفسه الاول في الطابور الطويل, وشعر في تلك اللحظة انه الاذكى والافضل, وانتابه شعور بالتفوق والكبرياء.
قبل موعد اقلاع الطائرة بساعتين, وجد نفسه اخيرا وجها لوجه مع الموظف الذي طلب منه تذاكر السفر والجوازات, وبعد فحص وتمحيص, قال له الموظف:" اسمك غير موجود على لائحة المسافرين", وتنبأ بان الموظف الذي قام باصدار تذاكر السفر في شركة الطيران السورية, يبدو انه لسبب ما قد اخطا ولم يقم باجراء تثبيت الحجز, وطلب منه"اعط الدور لغيرك وانتظر في اخر الطابور وراح نشوف اذا كان عندك حظ وفي محلات فاضية", حينها ادرك انه وقع ضحية للمافيا السورية, التي تعمل مع ولحساب اصحاب الجاه والنفوذ في الدولة, وعاد ليكون الاخير في طابور المسافرين, لاحول له ولا قوة, سوى ان يلعن في قرارة نفسه, اليوم الذي قرر فيه السفر للوطن, وادرك ان لا حظه سيسعفه ولا الالاف التي في جعبته, فتذاكر سفره قد بيعت لاخر بضعف ثمنها, وقد غُدر به, وشعر باحباط شديد وغثيان وكاد ان يغمى عليه, في تلك اللحظات العصيبة من حياته, سمع احد الاشخاص وهو ينادي باللغة السويدية, مستفسرا اذا كان يوجد سويديون في الطابور, فرفع يده وتقدم منه رجل ليعرف بنفسه وانه يعمل في القنصلية السويدية, وسأله مستفسرا ما اذا كانت لديه الرغبة بالسفرعلى متن طائرة معدة خصيصا من قبل الخارجية السويدية,لاجلاء الرعاية السويديين, ومن هول المفاجأة السارة والتعب والاجهاد الذي اصابه, لم يقل سوى كلمتين وباللغة السويدية "بكل سرور", ومد يده اليمنى ليصافح الملاك الذي امامه, ويده اليسرى ليجر بها عربة حقائبه الثقيلة,"اترك الحقائب وشأنها موظفو القنصلية سيتدبرون امرها واتبعني" وتبعه خطوات عدة ووقف وعاد ادراجه, ليفتح احدى الحقائب ويخرج منها علبة, وتوجه بها الى موظف المطار السوري, واعطاه العلبة التي بين يديه قائلا ًله:"هذه بضعة كيلوات من البرازق لا احتاجها" ومضى نحو الطائرة السويدية وقد استعاد مجددا البعض من كبريائه.
خلال الرحلة التي استغرقت خمس ساعات تقريبا وحتى هبوطهم في مطار »ارلندا« على مشارف ستوكهولم, كان يتواجد على متن الطائرة اخصائيين نفسيين واطباء سويديون لتقديم العون المباشر للركاب وبشكل خاص للاطفال الذين قد يكون تعرضوا لنكسات نفسية من جراء مشاهد الحرب غير الطبيعية, وقد سأله احدهم "عن رحلته وعن حاله " فرد عليه "بلاباس"وعينين دامعتين اذبلهما الالم على الوطن المفقود والذي لن يعود اليه قريبا او ربما لن يعود اليه ابدا.
بعد هبوط الطائرة, كان بانتظارهم وجبات طعام لذيذة وسيارات اجرة وباصات, ليتم نقلهم وعلى وجه السرعة الى بيوتهم , وبعد نصف ساعة من وصوله البيت, تلقى مكالمة هاتفية من احد المراكز التي تسمى"مجموعة الازمات", وهي مؤلفة من اختصاصيين مدربين على مساعدة الناس الذين يمرون بازمات اويتعرضون لكوارث طبيعية و"غير طبيعية " كالحرب القائمة اليوم في لبنان, لتعرض عليه خدمات مجانية, وجدير بالذكر ان جميع الخدمات التي تلقاها من نقل وطعام ومساعدة كانت مجانية وعلى نفقة الدولة السويدية .
بعد مرور اسبوع من عودته الى السويد عادت الحياة الى طبيعتها, وهو يسرد لي قصته, ما عدا امرين اثنين, الاول انه لم يكن يعرف ان الشخص الذي شاهده في المطار, وانقذه في محنته كان القنصل السويدي بشحمه ودمه ولم يكن موظفا عاديا في القنصلية السويدية, كما كان يعتقد, والامر الاخر ان زوجته ماتزال غاضبة منه, لانه اعطى علبة البرازق لذلك الموظف السوري الفظ, على الرغم انه حاول مرارا وتكرارا اقناعها بالسبب الوجيه الذي دفعه للقيام بفعلته, وانه منح علبة البرازق لذلك الموظف ليس حبا فيه, بل حتى تنزل عليه اللعنة, مستشهدا بقصة البرازق السورية التي هضمت على طاولة التفاوض الوطني اللبناني وكيف جلبت اللعنة على لبنان واهل لبنان, والحرب القائمة في لبنان اليوم, صناعة سورية مثلها مثل البرازق السورية, لذلك تخلصت من تلك العلبة حتى تقلع الطائرة التي تقلنا وتهبط بسلام.
وما دمنا نتحدث عن الاغتراب والمغتربين, والسيدة بثينة شعبان وزيرة للمغتربين السوريين, لابد من توضيح رايها في عملية النزوح الجماعي للرعايا الغربيين والذين معظمهم من المواطنين السوريين واللبنانيين, في مقالها على صفحات الشرق الاوسط" كانت اول الاشارات الصادرة عن الغرب منذ ايام هي تحرّك الدول الغربية دفعة واحدة لاجلاء رعاياها من لبنان, فارسلت واشنطن ولندن وباريس السفن الحربية واستاجرت كندا واستراليا وغيرهما سفنا من المنطقة لاستعجال اجلاء رعاياها بعد ان اتخذت قرارا باعطاء اسرائيل الفرصة لارتكاب ما ترغب فيه من جرائم حرب في سبيل القضاء على المقاومة".
تمعنوا ياناس وقارنوا, بالله عليكم, وابتعدوا عن البرازق السورية فهي تجلب اللعنة.
#درويش_محمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟