لقد انتابني الذعر لبرهة ما.
لقد اقترب مني، ذلك الوحش الضخم والمرعب، إلى مسافة لا تتعدى خمسة أمتار، واستمر في اقترابه مني ، وكأني غير موجود. لقد قذفت تلك الجرافة الضخمة أمامها تلة من التراب والصخور الكبيرة. وقد بدا سائقها، الذي كان متواجدا فوقي بمترين، جزءا لا يتجزأ من الجرافة. وكان من الواضح أن أمرا ما لن يوقفه. قفزت جانبا بكل ما أوتيت من قوة.
قبل عدة أسابيع، في حالة لا تختلف كثيرا عن هذه الحالة، اعتقدت ناشطة السلام الأمريكية راحيل كوري بأن السائق سيوقف الجرافة. ولكنه لم يفعل، وقد سحقها ليودي بحياتها.
لم احضر في ذلك اليوم للتظاهر (فسوف أقوم بالتظاهر اليوم)، بل لأرى ما يحدث على الأرض. على بعد ثلاثة أمتار من خيمة الاحتجاج التي أقامها أهالي قرية مسحة في احد كروم الزيتون، بصحبة ناشطي سلام إسرائيليين وآخرين من مختلف أنحاء العالم، مر ثلاثة وحوش كهذه هدفها التحضير لإقامة "الجدار الفاصل". لقد أحدثت زوابعا من الغبار وضجة صاخبة تصم الآذان، وكان من المستحيل التحدث جراء ذلك. لقد عملت الجرافات يوميا، 12 ساعة متواصلة، حتى في عيد الفصح، بدون توقف.
الجمهور في إسرائيل برمته يؤيد إقامة الجدار، وهو لا يدرك ما يفعل. يجب التواجد هناك لفهم المعنى الكامل لهذا المشروع.
أولا علينا القول بشكل لا يقبل التأويل: ليست لهذا الأمر أية علاقة بالأمن.
لقد بيعت هذه الفكرة للجمهور في إسرائيل على أنها "جدار أمني". ويسميها الجيش الإسرائيلي "عائقا". وأما الجمهور المتعطش للأمن فإنه يشتري هذه السلعة بنهم، ويقول انه أخيرا قد بدءوا يفعلون شيئا!
تبدو الفكرة بالفعل بسيطة تماما. ويمكن لأي شخص أن يستوعبها. فالأمر مفهوم ضمنا: على الفلسطيني الذي ينوي القيام بعلمية انتحارية في إسرائيل أن يعبر الخط الأخضر. وإذا أقمنا جدارا على امتداد الخط الأخضر فلن يتمكن المخربون من الوصول. لن تكون هناك عمليات انتحارية ولن يكون هناك منتحرون.
ولكن المنطق يقول انه لو كان هذا الجدار جدارا أمنيا حقا، لكان عليه أن يمتد بشكل مستقيم على طول الخط الأخضر. كل الإسرائيليين (فيما عدا المستوطنين) سيكونون في جهة (الجهة الغربية)، وكل الفلسطينيين سيكونون في الجهة الأخرى. على هذا الجدار أن يكون مستقيما وقصيرا قدر الإمكان، لأن هناك حاجة لمراقبته وحمايته والقيام بالدوريات على امتداده. وكلما كان هذا الخط أقصر، كلما كانت حمايته أنجع. هذا ما يقوله المنطق الأمني.
وها هو الخط يمتد متعرجا، فيما عدا بعض المقاطع القصيرة، وهو غير متلازم مع الخط الأخضر، بل على العكس، يتعرج مثل واد، يقترب من الخط الأخضر تارة ويبتعد عنه تارة أخرى.
ليست مجرد صدفة أن يتأثر جريان الوادي الطبيعي من تضاريس الأرض. فالمياه تبحث عن المنحدرات. إلا انه ليست هناك أية علاقة بين امتداد الجدار والطبيعة. تتجاهل الجرافات الطبيعة وتبترها دون هوادة. إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يحدد هذا الامتداد؟
عندما نكون هناك تظهر للعيان الإجابة على هذا السؤال. فالسبب الوحيد الذي يقرر ذلك هو مكان تواجد المستوطنات. لقد تم بناء الجدار المتعرج استنادا إلى مبدأ بسيط: على أغلبية المستوطنات البقاء غربي الجدار، مما يعني: ضمها الفعلي إلى دولة إسرائيل.
وقفت على تلة يمر امتداد الجدار فيها، وعلى سفح هذا التلة تقع مستوطنة إلكناه. من الشرق، على بعد عشرات الأمتار فقط، تقع قرية مسحة الفلسطينية. وقد بقيت هذه القرية شرقي الجدار، ولكن معظم أراضيها موجودة في الجهة الغربية. سيفصل الجدار ما يعادل 98% من أراضي القرية عنها وهي كروم من الزيتون تمتد حتى الخط الأخضر بمحاذاة كفر قاسم.
مسحة هي قرية كبيرة – كجارتها بيديا، التي اعتاد زيارتها آلاف الإسرائيليين لشراء الحاجيات منها. وقد كانت قرية مسحة أيضا قرية مزدهرة، وفيها منطقة صناعية كبيرة تجثم الآن خالية خاوية.
لا يمكن الوصول إلى القرية إلا مشيا على الأقدام، عن طريق تسلق طرقات شديدة الانحدار. عند نشوب الانتفاضة، أقام الجيش حاجزين من التراب والصخور، على الطريق المؤدية إلى القرية. لا يمكن لأية مركبة عبور هذين الحاجزين.
"في البداية جاءوا ودمروا مصادر رزقنا" هذا ما قاله لي مختار القرية أنور عامر، محاولا كبت مرارته . وأضاف: "يأتون الآن ثانية ويسلبون أرضنا".
وبالفعل، تحوم رائحة الترانسفير العفنة فوق هذا الجدار. وامتداده يبقي العديد من القرى الفلسطينية في الجهة الغربية منه – مطوقة بين الجدار والخط الأخضر. لن يستطيع السكان التنقل، ولن يستطيعون إيجاد مصادر رزق لهم، ولن يكون بإمكانهم حتى التنفس. هناك بعض القرى، مثل مسحة، ستبقى في الجهة الشرقية من الجدار، إلا أن أراضيها التي تعتبر مصدر رزق سكانها، ستكون في الجهة الغربية منه. هناك بعض المواقع، مثل مدينة قلقيليا، التي سوف يلتف الجدار حولها من كل الجهات مثل الحلقة، وفتحة صغيرة فقط سوف تصل بينها وبين الضفة الغربية. إن أحد أهداف الجدار هو، بدون شك، تحويل حياة السكان إلى جحيم لإقناعهم تدريجيا على المغادرة. وهذا ما يسمى بالترانسفير الزاحف.
وكما تقذف الجرافة الضخمة الصخور والتراب أمامها، يقذف الاحتلال أمامه السكان الفلسطينيين خارجا – دائما باتجاه الشرق.
يمكن للمؤرخ أن يرى في ذلك عملية مستمرة، بدأت قبل 120 سنة ولم تتوقف للحظة واحدة. بدأت بطرد الفلاحين من الأراضي التي تم شراؤها من أصحاب المزارع المتواجدين بعيدا عن البلاد، واستمرت في "نكبة" عام 1948، حيث تمت لاحقا مصادرة أغلبية أراضي العرب في إسرائيل، ومن ثم الطرد الذي تم تنفيذه في حرب الأيام الستة، وتتلوها عملية الطرد الزاحف التي ينفذها الاحتلال بواسطة مستوطناته وطرقاته الالتفافية، وها هي الآن تستمر عن طريق بناء الجدار الفاصل. تتصدر هذه العملية الجرافة العبرية. لم تذهب تسمية شارون ب"البلدوزر" على مر عشرات السنين، هباء.
إن جدار مسحة وقلقيلة الذي يمتد حتى جبال الجلبوع، ليس الجدار الوحيد. فقد بدأ التخطيط لإقامة جدار آخر في الجهة الشرقية، سيمتد عبر أريئيل وكدوميم. أنه يتغلغل داخل المناطق الفلسطينية إلى عمق يصل حتى 20 كيلومترا تقريبا من المحور الرئيسي في الضفة وهو طريق رام الله-نابلس.
إلا أن هذه ليست الصورة كاملة. يخطط أريئيل شارون الآن "الجدار الشرقي" – الذي سيفصل الضفة الغربية عن غور الأردن. عندما سينتهي العمل على إقامته، ستكون الضفة الغربية بمثابة جزيرة داخل المناطق الخاضعة لإسرائيل، وستكون منقطعة عن العالم من كل جهاتها. الجهة الجنوبية من الضفة (الخليل وبيت لحم) ستكون منفصلة عن الجهة الشمالية (رام الله ونابلس وجنين)، التي ستكون هي الاخرى مقسمة لعدة قطاعات (1).
تشبه هذه الخريطة خريطة الطريق في جنوب أفريقيا، أبان حكم الأبارتهايد ("الفصل"). حيث أقامت الحكومة العنصرية آنذاك عدة "بانطوستانات" (على اسم قبيلة البانطو) بدت وكأنها مناطق حكم ذاتي، ولكن حكامها السود تم تعيينهم من قبل الحكومة البيضاء. كل بانطوستان كان محاطا بمناطق تابعة للدولة العنصرية، منقطعة عن أي اتصال بالعالم.
هذا ما يقصده شارون تماما عندما يتحدث عن "دولة فلسطينية". فهذه الدولة ستكون مؤلفة من عدة قطاعات، كل منها محاط بمناطق إسرائيلية، دون حدود مشتركة مع الأردن أو مصر. منذ عشرات السنين يعمل شارون جاهدا على تخطيط هذه الخريطة، وقد أقام عشرات المستوطنات وفقا لها.
يأتي الجدار ليخدم هذا التطلع، وليس له أية صلة بالأمن. لن يأتي هذا الجدار بالسلام طبعا. بل سيأتي بمزيد من الكراهية، وبالتالي سيأتي بالمزيد من الانحلال الأمني وسفك الدماء. إن فكرة كون عائق من الباطون والترسانة يمكن أن يمنع الكراهية، هي فكرة مثيرة للسخرية.
يستمر العمل الآن من الصباح الباكر إلى ساعات الليل المتأخرة، دون كلل. شارون يتحدث عن "خريطة الطريق" وفي هذه الأثناء، يتبلور "الأمر الواقع" على الأرض.
غير أن لهذا الجدار معنى أعمق بكثير. فإن الشعبية التي يحظى بها هذا الجدار في إسرائيل، من شارون وحتى متسناع وبيلين، ليست مجرد أمر لا يمكن الاكتراث له، فهو يلبي حاجة داخلية.
لقد كتب هرتسل في كتابه "دولة اليهود"، وهو وثيقة مبادئ الصهيونية، الجملة التالية: "من أجل أوروبا سنكون هناك (في فلسطين) جزءا من الجدار ضد آسيا. سنكون هناك بمثابة كتيبة طلائعية للحضارة ضد البربرية". (الكلمة الألمانية التي استخدمها هرتسل – WALL – تعني الخندق أو السور).
الفكرة بأننا سنشكل كتيبة طلائعية لأوروبا ونحتاج إلى سور عال بيننا وبين البربرية الأسيوية – أي العالم العربي، مضمنّة في الفكرة المبدئية. ومن الممكن أن تكون لها جذور أعمق بكثير. عندما بدأ اليهود الانعزال في الجيتوهات، وذلك قبل وقت طويل من فرض هذا الأمر عليهم من جهات خارجية، أحاطوا انفسهم بسور، لإيجاد فصل بينهم وبين المحيط المعادي لهم. إن الجدار والفصل هما مصطلحان انغرسا عميقا في العقل الباطني لدى اليهود.
ولكننا، نحن المجتمع اليهودي الجديد في هذه البلاد، لم نكن نريد التواجد في جيتو يهودي جديد. لم نبحث عن الفصل، بل على العكس – بحثنا عن الانفتاح على الخارج. لم نبحث عن "فيلا وسط الأدغال" مثل رؤيا إيهود باراك، ليس رأس جسر أوروبي أمام البربرية الآسيوية، مثل رؤيا هرتسل، بل مجتمع منفتح يعيش بسلام ونمو من خلال مشاركة مع شعوب المنطقة.
لا يعتبر هذا الجدار مجرد أداة للاستيلاء، وليس فقط أداة إرهابية تزعم أنها أداة حماية في وجه الإرهاب، وليست فقط أداة تخدم المستوطنين تحت غطاء من الأمن. إنه فوق كل شيء عائق في وجه الدولة، جدار يسد الطريق الرئيسية لمستقبل من السلام والأمن والنمو.