أخي العزيز الشيخ الفنطوزي المحترم
تحية حارة من ثلوج القطب الشمالي
لا شيء عندي هذه الأيام أفضل من رؤية وجهك الباسم الكريم وأنت تخطب في الجموع أمام العدسات والدبابات بعمامتك المهيبة التي كان يمكن أن تكون على رأسي لولا صدفة تاريخية لعينة حولت مجرى حياتي نحو عالم الذهول والبحلقة في الحيطان وانتظار مالا ينتظر والسهر حتى الغبش الأزرق من أجل اصطياد كلمة أو فكرة أو نشوة أو العثور على حلم يقظة جميل.
وبقدر حبي لك، فأنا أيضا خائف وقلق عليك، لأني أرى على شاشات كثيرة، من منابر كثيرة، ومن شوارع كثيرة، ومن أماكن كثيرة، أنك مشغول هذه الأيام بتجسيد عالمك الروحاني، وتحقيق طموحاتك البريئة في الصلاة والحب والجمال والأمل.
خوفي عليك هو من داخلك.
فأنا أعرفك جيدا،وصادفتك في حروب وسجون ومنافي ورسائل كثيرة، وكثيرا ما كنت ألتقي بك وبأمثالك في مدينة قم الإيرانية، وأنت خارج، كقمر نجفي متوهج، من أزقة هذه المدينة التي أحببتها بكل ما فيها من حنان ودفء وتناقض، فهذه طبيعة المدن الآسيوية، الخائفة: فوقها منائر/ وتحتها معاصر!
كنت تخرج من المسجد بعد الصلاة، وكنت أذهب أنا، مع جوقة الفارين من الحزن والكآبة والسلطة والجنون والمنفى، إلى منزل التعساء في شارع جهار مرديم ـ الأئمة الأربعة ـ لنشرب بقايا العمر، ونصغي على آخر ما تبقى من بقايا الأغاني المهربة مثلنا، مثل الخمر، مثل الموسيقى( أنت تعرف أن الموسيقي ممنوعة هناك لأنها تحرك الشهوة، مع أن أي أبو بريص أو صرصور أو قط لا يحتاج لموسيقى عبد الوهاب أو موزارت كي يمارس الحب فهو شعور غريزي في كل حيوان وإنسان ونبات).
قلقي عليك أيضا في كونك ظهرت على الشاشة يوم دخول جيش الاحتلال مدينة النجف المقدسة، وكنت تبدو ثائرا وجاهزا وقابلا للموت والانفجار والتشظي وأنت تصرخ:
مدينة: نعم.
مسجد: لا.
وفي هذا الاختزال والاختصار يكمن كل العرب والفواجع التي مرت والتي في الطريق.
كيف يمكن، سيد فنطوزي، اختصار الوطن بضريح مهما كان هذا الضريح عظيما ومقدسا ومهيبا؟.
وماذا كان سيحدث لو كان إمام الفقراء علي بن أبي طالب عليه السلام حيا ودخل المحتلون؟
هل كان سيقول:
ضريح النبي: نو.
المدينة: يس؟
لست وحدك من يختصر الوطن في شعار أو رمز أو واقعة أو عقيدة أو كتاب أو معركة.
في هذا يستوي اليمين واليسار.
الثوري واللاثوري، الاشتراكي والحرامي، الليبرالي العراقي والفاشي، وزراء الأنابيب الملقحين عبر الهاتف الخلوي، أو الحزب الطليعي.
كلهم، صدقني، كلهم، وخلال القرن الماضي، اختصروا الوطن في مفهوم أو فكرة أو أيديولوجية.
لذلك حين سقط الوطن، سقط وحيدا، لأن الجميع أنت وأنا والآخرون، كنا نعيش في وطن الكلمات، وطن المفهوم، وطن الرموز، وطن السجون، وطن الكتب المقدسة، يمينا أو يسارا.
لم تسقط جيوش الاحتلال العراق أبدا.
نحن أسقطناه منذ عشرات السنين.
وجدوه خاويا فتداعى.
الأوطان الحقيقية المعافاة لا تسقطها جيوش الاحتلال مهما كانت قوتها، بل يسقطها نزلاء البيت الذين يعيشون على فكرة الوطن المستعار، أو الوطن الأجير، أو الوطن المرحلة العابرة، أو بتعبيرك أنت دار الزوال التي هي ليست أكثر من غرفة انتظار نحو الوطن الآخر، الوطن الروحي، الوطن الأبدي، دار الحق.
لست وحدك أيضا في ذلك.
نحن أيضا، كتاب ونخب الوهم، والسعال، والعقائد، أسقطنا الوطن الأصلي، الوطن التراب، الوطن الهواء، الوطن الماء والشجر والحياة، واختصرناه في زعيم أو عقيدة أو منهاج...الخ.
لذلك حين دخل المحتل، دخل وطن التراب الفارغ الخاوي المهجور، ولم يجد أحدا لأننا جميعا كنا نقيم في الرموز والمعاني والمفاهيم والكلمات.
سقط وطن التراب لأننا بجهلنا وحروبنا وكذبنا وسخف معاييرنا خناه منذ عشرات السنين حين اختزل في مفهوم أو عقيدة أو كتاب.
سقط الوطن الأم.
وظل وطن الرموز.
لذلك طلبت أنت من الجيش الأمريكي أن يحتل المدينة، التراب، والهواء، والشجر، والحياة، ويبتعد عن الرمز والقبر والموتى.
وأنت بذلك كنت تخون الرمز.
أنت لم تدافع عن وطن.
ولا عن إمام.
أنت خنت الإمام.
كان يجب، في الأقل، أن لا تلجأ لهذا الاختزال القاتل، وعلى مقربة منك كان يقف أطفال وشبان سيتعلمون منك مثل ما تعلمت أنت من أجدادك أن الوطن هو مسجد أو ضريح.
لأول مرة أراك شريدا ومنفيا ومهجورا وأنت في بلدك الأصلي. وكان جنود الاحتلال يبدون كأنهم سكان البلد.
المنفى، يا سيدي الفنطوزي، هو عقلية وذهنية وطريقة تفكير أيضا، وليس مكانا فحسب، فهناك منافي أجمل من كل الأوطان، وهناك أوطان مقابر ومباغي وزرائب.
هذه ليست المرة الأولى وأنت تقول نعم لاحتلال المدينة، ولا لاحتلال الضريح.
اقرأ مذكرات قائد الحملة البريطانية الذي دخل النجف سنة 17، وكتب مذكراته بلغة مصدوم: كيف أنه ابلغ بوفد من رجال الدين يرغب بزيارته، وكيف توقع مطالب ضخمة وخطرة وتعجيزية لا تقبل بغير رحيل الاحتلال، لكنه فوجئ( هنا خطورة موقفك أمام الأطفال) أن كل طلباتهم كانت ما يلي:
ـ نعم: لاحتلال المدينة.
ـ لا :للاقتراب من الضريح.
التاريخ نفسه.
والموقف نفسه.
يقول أنه أوعز حالا وقد دهش وفرح بعدم الاقتراب من الضريح، فهذا هو الشيء الوحيد الذي لم يكن يتوقعه.
لا أريد منك أن تحمل السلاح اليوم كي تقاتل، فليست هذه مهمتي، والدفاع عن الوطن لا يحتاج فتوى، فحتى صلال الأرض تلدغ من يدخل جحرها، لكني قلق من هذا الاختصار ليس من جهة بقاء أو رحيل المحتل( فهو سيرحل يوما بلا أدنى شك، وأنت أيضا سترحل معه إلى دار الحق، وطنك الحقيقي، ونحن بشر نحب ونعشق هذه الحياة، فليست هذه غلطتنا) بل من جهة أننا لم نتعلم درسا أو عبرة من الحقبة الفاشية القذرة، ولا يبدو أننا فهمنا تاريخ حقبة الجنون والقهر على نحو عقلاني.
ولو أن كل واحد منا وسّع مفهوم نعم/ لاحتلال المدينة، لا/ لاحتلال الرمز فستكون الصورة كما يلي:
سيقول فريق:
نعم ..لاحتلال الأعظمية.
لا.. لاحتلال مسجد أبي حنيفة.
وسيقول الشيوعي:
نعم لاحتلال باب المعظم.
لا للاقتراب من قبر الرفيق فهد المدفون في مقبرة باب المعظم( والذي لم يسلم من الحملة البوليسية في أواخر السبعينات حين مسحوا القبر من سطح الأرض).
وسيقول القومي:
نعم لاحتلال بغداد.
ولا لاحتلال قبر عبد السلام عارف.
هكذا سيدي الفنطوزي أحتل الوطن المهجور.
فهذا الوطن لم يكن يسكنه أحد قبل أن تهاجمه الجيوش، بل كان مأوى عصابة هربت وباعت ما أن شعرت بخطر يهدد مصالحها وليس وطنها، فهي مثلنا لم تكن تسكن في وطن التراب، بل في وطن الامتيازات، والقصور، والصكوك، والشرطة.
لم تسقط بغداد.
نحن من سقط.
سقط مفهوم الوطن الحزبي، الوطن البوليس، الوطن الرمز، الوطن الكلمات، الوطن الاكذوبة.
وهذا الجيش لم يحتل وطنا، بل احتلنا.
كنا أجراء في مزرعة وليسوا مواطنين.
كنا سكانا بالإيجار ولسنا مالكين.
كنا عبيدا، ولسنا أصحاب أرض.
تهاوى الوطن الورقي على صيحات ساخرة من الجميع: الشامت، والمناضل، والحزين، والرافض.
لكن الأكيد أننا كنا جميعا خارج الوطن.
كان العراق وحيدا مثل ناقة داهمتها الذئاب.
وهذا الطاغية لم يكن يحكم وطنا، وشعبا، كان زعيم عصابة، وحاكما لعبيد.
وحدهم شهداء الحرية، وليس ضحايا الحروب، خارج حلقة التصنيف هذه، فحتى هؤلاء خنا حلمهم وحياتهم.
والخوف، كل الخوف، سيد فنطوزي، من أن يتحول هذا التشريع المخرب، تشريع الوطن/ الرمز/ المفاهيم/ إلى منهج حياة، وعندها سندخل، وقد دخلنا اليوم، دوامة عذاب جديدة.
ليس هذا ما يقلقني عليك فقط.
أنا حزين لأني سمعتك في هذه المحنة القاسية وأنت تتحدث من منبرك عن اللحى والحجاب.
هل هذه هي المشكلة الآن؟
شعب جائع وخائف ومهان وحائر وأنت مشغول بطول اللحية والحجاب؟
أي شيء يحجب الحجاب ونحن عراة رغم كثافة الثياب وسمك الجدران ومتانة الأبواب؟
أي عري أفظع من هذا ونحن على الشاشات مغارة وحوش ولصوص حتى دخلنا في ذاكرة العالم كحرامية ، مهما حاولنا فلسفة الأسباب. لن نقنع أحدا أو عنزة أو خروفا.
فهذا العدد الهائل من الوحوش واللصوص الذي أسقط دولة، بعد أن اسقط الجيش المهاجم سلطة، مؤشر خلل مدمر، ولا ينفع بلع الحروف، أو الكلام بلغة صوفية، أو لغة التحليل النفسي.
كنت أتوقع أنك ستتحدث عن التنمية والمحبة والسلام والحب والصداقة والتسامح والغفران، لكنك كنت حزينا لأن شرف النساء في خطر( لا أدري لماذا يكون وجه المرأة عورة، ولا يكون وجه غارنر أو بول بريمر عورة كذلك؟!).
ألا تشعر بالحرج أن يكون خبير إرهاب هو الذي يتحكم بحياتك وصلاتك وخبزك ومسجدك ومدرسة أطفالك؟.
كيف يكون وجه المرأة عورة ولا تكون وجوه جيوش الاحتلال خطيئة؟.
مرة أخرى، سيدي الفنطوزي، الملهاة نفسها، والسبب نفسه: أنت تنتمي، مثلي، مثلنا، إلى الوطن المفهوم، الوطن الشرح، الوطن القراءة، الوطن المنهج، الوطن الكلمات.
لا يهمك، كما لا يهم غيرك، أن يكون الوطن محتلا، ما دام المفهوم سليما، والرمز معافى، والقاعدة مطبقة.
فما دامت المراة محجبة، فليس مهما أن يكون الوطن عاريا.
وما دامت اللحية طويلة، فليس مهما أن يطول الحزن.
لأنك مثلنا لا تسكن في وطن، بل في كتاب.
ولأنك مثلنا تنتمي إلى عقيدة، لا إلى حياة.
ولأنك أكثر غربة من جندي الاحتلال.
كلاكما غزاة !
هو موجود بقوة السلاح.
وأنت موجود بقوة الوهم.
هل ستنتهي الكوارث لو حلت مشكلة اللحى؟
هل سنكنس بها جيوش الغزاة؟
ونؤسس بها دولة القانون وحكم المؤسسات؟
وهل سنأكل بها خبزنا؟
ونحقق أمننا؟
وهل باللحى ندخل العصر ونخرج من الورق والغبار والصدأ والوهم والنوم والشخير؟
وإذا حلت مشكلة اللحية العلوية، فكيف نحل مشكلة اللحية السفلية، خاصة وهي صارت من الحزن والإهمال والكآبة والقلق والانتظار والنسيان والذهول وشحة الماء ونقص أدوات الحلاقة، مثل غابات الأمزون، مثل شجرة عملاقة تكفي لقيام دورة أولمبية فوقها في الجمباز، مثل ضفيرة لا أول لها ولا آخر تكفي كي يصعد عليها فريق تسلق كامل إلى قمة جبل حصاروست !