تذكرة من العقل السياسي العربي:
الحدث الذي عرفته بغداد يوم 9 أبريل 2003 قد فاجأ الجميع بصورة مذهلة• والمفاجأة تكون أوقع في النفس عندما لا تكون منتظرة البتة• وتكون أكثر وقعا عندما تكون النفس تنتظر شيئا آخر غير ما حدث، وهذا هو الذي حصل!
والواقع أنه كانت هناك مفاجأتان، الأولى منهما هي التي خلقت الثانية• لقد كانت الإدارة الأميركية -ومعها كثير من مواليها والسائرين في ركابها- تعتقد أنه بمجرد دخول قواتها إلى العراق سيخرج الناس إلى الشوارع لاستقبالها بالورود والأعلام البيضاء• لم يكن أحد يتوقع أن تصطدم القوات الغازية بتلك المقاومة الباسلة التي أربكت خطط الإدارة الأميركية واضطرته إلى إرسال 120 ألف جندي إضافي إلى العراق لضمان صمود قواته•
هذه المفاجأة الأولى التي كذبت جميع التوقعات السابقة هي التي خلقت المفاجأة الثانية التي كذبت هي الأخرى جميع التوقعات التي أوحت بها سابقتها• لقد كان الناس، أصدقاء وأعداء، يتوقعون أن تطول تلك المقاومة شهورا إن لم يكن سنوات، ويبقى النظام الحاكم قائما تبعا لذلك• لقد كان لذاك الصمود الذي أظهرته المقاومة العراقية وللتحدي الذي قام به صدام حسين حين خرج إلى شوارع بغداد يتفقد الدمار الذي أحدثه القصف الأميركي، وسط هتافات الناس في شوارع بغداد في واضحة النهار وأمام عدسات كاميرات التلفزة العالمية، كان لذلك كله ما أضفى المصداقية على تصريح المسؤول الأميركي الذي لم يتردد في الإعلان إثر ذلك عن: أن معركة بغداد لم تبدأ بعد!•
غير أن الذي حدث بعد ذلك بيوم واحد هو العكس تماما• لقد حدث سقوط شمولي طال النظام العراقي كله، العسكري منه والمدني، بصورة لم تكن متوقعة بل لم تكن قابلة للتصور، مما جعل الناس ينتظرون شيئا آخر وراء الأكمة• ولكن الأكمة زالت من الوجود في رمشة عين•
فما الذي حدث بالضبط؟ للإجابة على هذا السؤال يجب التمييز بين الأسباب المباشرة أو القريبة وبين الأسباب غير المباشرة أو البعيدة، خصوصا والأمر يتعلق هنا بحدث تاريخي• والحدث يكون تاريخيا ليس فقط لأنه يكون له ما بعده بل أيضا لأن له ما قبله!
أما الأسباب المباشرة في سقوط بغداد فليس البحث فيها من اختصاصنا،فالأمر على هذا المستوى يتعلق بهزيمة عسكرية قد تكون لها بطانة سياسية وقد لا تكون، فلا بد من ترك الكلمة أولا لذوي الاختصاص من العسكريين• أما البطانة السياسة فهي لا تنشر أمام أعين الناس، في الغالب، إلا بعد أن تفقد صبغتها السياسية• لننتقل إذن إلى ما نعتبره الأسباب البعيدة أو الدفينة لما حدث• وهي في نظرنا الأهم من الناحية التاريخية• ذلك لأن الأسباب المباشرة تفقد أهميتها بمجرد ما تذوب لحظة حاضر الحدث ويتبخر الانفعال الذي يأسرها والذي يجعل منها، في نفس المنفعل بها، الدهر كله والحقيقة كلها•
كلا، الحقيقة لا تتعايش مع لحظة الانفعال! إنها ليست بنت الأسباب القريبة المباشرة بل هي من نتائج الأسباب غير المباشرة التي تحكم الحدث من داخل بنيته العميقة• ومن هنا ضرورة التعرف أولا على طبيعة بنية الشيء موضوع للحدوث، أعني هنا: سقوط نظام الحكم في العراق•
كان نظام الحكم في العراق يتميز بمركزية شديدة جعلت منه نظاما مطبوعا بـالشمولية المطلقة• فرئيس الدولة هو في الوقت نفسه قائد القوات المسلحة ورئيس الحكومة وزعيم الحزب•• الخ، والرئاسات التي تتفرع منه تمارس بمركزية مماثلة، مما يجعل من الدولة أو المدينة -بتعبير القدماء- عبارة عن هرم ضيق القمة عريض القاعدة، إذا ضربت قمته الضربة القاضية تشتت الباقي• الحكم الشمولي ينهار، ولابد، بمجرد سقوط مركز شموليته!
على أن هذا النموذج من الحكم المركزي الشمولي ليس خاصا بالعراق، بل هو قائم بصورة أو بأخرى في الأقطار العربية بل في معظم بلدان ما يسمى بـالعالم الثالث• ويهمنا هنا أن نبحث في أصوله ومكوناته• وبالنسبة للأقطار العربية هناك مرجعيتان لهذا النوع من الحكم الشمولي، لابد من استحضارهما إذ نحن أردنا فهم ما حدث، وما قد يحدث من أحداث مماثلة: مرجعية عربية إسلامية، ومرجعية غربية حديثة•
لنبدأ بالمرجعية التي يقدمها لنا تراثنا،• وأستسمح القارئ في أن أنقل هنا فقرات مما سبق أن كتبته في الموضوع منذ 15 سنة في كتابي العقل السياسي العربي (صدر في فبراير عام 1990)• فهي تعرض لطبيعة الحكم الشمولي في التجربة التاريخية العربية الإسلامية عرضا تاريخيا لا علاقة بالوضع الحالي، الشيء الذي يحرر نظرتنا من الانغلاق في التجربة العراقية وحدها•
بدأت في طرح الموضوع في الكتاب المذكور بإثارة الانتباه إلى عبارات في نصوص منسوبة للجاحظ تشير إلى قيام هذا النوع من الحكم الشمولي المباشر في بغداد زمن العباسيين كجزء من الموروث الحضاري الذي انتقل إليها من الفرس• والخاصية الأساسية التي أبرزتها تلك النصوص في هذا النوع من الحكم هو أنه يقوم على المماثلة التامة بين الحاكم ونظام حكمه وبين الله الخالق ونظام خلقه• ثم عرضت ثلاثة نصوص لمرجعيات فكرية في تراثنا يتضح الموضوع من خلالها بصورة أفضل•
النص الأول لأبي الحسن الماوردي يقول فيه: إن مما يجب على الملك الفاضل أن تكون عنايته بأمر خاصته أقدم وأكثر وأعم وأوفر، حتى يروضهم رياضة لا يكون في أهل مملكته وضمن ولايته من هو أسرع إلى طاعته وأبعد عن معصيته وأقوى عزما في نصرته وأحسن أدبا في خدمته منهم، اقتداء بالله عز وجل واحتذاء على مثاله في خلقه• وذلك أن الله عز وجل، لما خلق خلقه وأوجب حكمته، أمرهم وزجرهم وتعبدهم بما هو أصلح لهم وأنظر لأمورهم في دينهم ودنياهم••• اصطفى ملائكة جعلهم جنودا على خليقته موكلين بأمور بريته وعوانا لأهل دعوته وجعلهم أقرب الخلق إليه منزلة••••
والنص الثاني للطرطوشي يلح فيه على ضرورة وجود السلطان في الأرض، موضحا أنه: كما لا يستقيم سلطانان في بلد واحد لا يستقيم إلهان للعالم، والعالم بأسره في سلطان الله تعالى كالبَرِّ الواحد في يد سلطان الأرض• وأيضا : وأقل الواجبات على السلطان أن ينزل نفسه مع الله منزلة وُلاته معه••• فهذا طريق الطبيعة الشرعي والسياسة الاصطلاحية الجامعة•
أما النص الثالث فهو للفارابي ويخص تصوره للمدينة الفاضلة التي يجب أن تحاكي في نظامها نظام الكون• يقول: وكما أن في العالم مبدأ ما أولا (السبب الأول، الله)، ثم مبادئ أخر على ترتيب (العقول السماوية، الملائكة) وموجودات عن تلك المبادئ (الأفلاك والأجرام السماوية)، وموجودات أُخَر تتلو تلك الموجودات على ترتيب (أشياء الطبيعة في الأرض) إلى أن تنتهي إلى آخر الموجودات رتبة في الوجود (المادة غير المتشكلة)، كذلك في جملة ما تشتمل عليه الأمة أو المدينة : مبدأ أول (الخليفة الرئيس، الملك)، ثم مبادئ أُخَر تتلوه (خاصة الخاصة) ومدينيون آخرون يتلون تلك المبادئ (الخاصة) وآخرون يتلون هؤلاء إلى أن ينتهي إلى آخر المدنيين رتبة في المدينة والإنسانية (العامة)، حتى يوجد فيما تشتمل عليه المدينة نظائر ما تشتمل عليه جملة العالم: فتكون المدينة حينئذ مرتبطة أجزاؤها بعضها ببعض ومؤتلفة بعضها مع بعض ومرتبة بتقديم وتأخير بعض، وتصير شبيهة بالموجودات الطبيعية، ومراتبها شبيهة أيضا بمراتب الموجودات التي تبتدئ من الأول وتنتهي إلى المادة الأولى والأسطقسات (الماء والهواء والنار والتراب) وارتباطها وائتلافها شبيها بارتباط الموجودات المختلفة بعضها ببعض وائتلافها• ومدبر تلك المدينة شبيه بالسبب الأول الذي به سائر الموجودات•
ثم أردفت قائلا: لقد كان من الممكن أن نسترسل طويلا في هذا الموضوع فننتقل إلى الفلسفة الإسماعيلية••• التي انتهت في وقت من الأوقات إلى تأليه الإمام بصورة صريحة•••! وكان من الممكن أن نعرج على عالم الشعر والخطابة والمقامات، حيث تهيمن الإيديولوجيا الريعية، المؤسسة على مدح الأمير وعطائه والتي تروج من خلال تعابير أدبية متنوعة للإيديولوجيا السلطانية ولقضيتها المركزية : المماثلة بين الإله والخليفة••• كان من الممكن أن نواصل البحث في هذا الموضوع في مختلف المجالات لو كان هدفنا الاستقصاء والإحاطة• إن هدفنا هنا ينحصر في تقديم نماذج دالة وكافية لإثبات الأطروحة التي نريد بلورتها وهي أن العقل السياسي العربي مسكون ببنية الماثلة بين الإله و الأمير (سواء كان الأمير فرعون أو بختنصر أو خليفة أو ملكا أو سلطانا أو رئيسا أو زعيما)، البنية التي تؤسس على مستوى اللاشعور السياسي ذلك النموذج الأمثل للحكم الذي يجذب العقل السياسي العربي، منذ القديم إلى اليوم، نموذج المستبد العادل: لا فرق في ذلك بين شيعي وسني، بين حنبلي وأشعري ومعتزلي، بين متكلم وفيلسوف (ويمكن أن نضيف الاتجاهات الفكرية المعاصرة بمختلف أسمائها• وأضفت: وسنرى في خاتمة الكتاب النتائج التي تترتب على تغلغل بنية هذه المماثلة في اللاشعور السياسي العربي وذلك بالنسبة لمهام تجديد العقل السياسي العربي وتحديثه•
ومن النتائج التي سجلتها في خاتمة الكتاب: أن الحكم في الإسلام قد تحول من خلافة راشدة قائمة على الشورى إلى ملك عضوض (أي إلى نظام شمولي) بسبب وجود ثغرات دستورية في تصور العرب للحكم برز مفعولها واضحا خلال الفتنة التي حدثت في أواخر عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان والتي كانت منطلقا لتلك الفتنة الكبرى التي عانى ويعاني منها الإسلام إلى اليوم• من تلك الثغرات عدم تحديد مدة ولاية الخليفة الذي يخلف النبي -لا في النبوة فالنبوة قد ختمت- بل في الإمارة على المسلمين، أي القيام بوظيفة الأمير فيهم••• وبما أن العرب لم تكن لهم تقاليد راسخة في ميدان الحكم والدولة بل كانت تجربتهم تنحصر في نظام القبيلة، فإن نموذج الأمير الذي كان حاضرا في مخيال المسلمين عقب وفاة النبي هو نموذج أمير الجيش، الذي لا تتحدد مدة ولايته سلفا•
لم يستقل سيدنا عثمان فقتلوه وهو يقرأ القرآن! أما صدام حسين فلا ندري بعد ما جرى له!
أكاديمي ومفكر –المغرب(الاتحاد)