|
عشتار وموت الله
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6879 - 2021 / 4 / 25 - 13:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم ٣٨ - عشتار علامة موت الآلهة
نزول عشتار إلى العالم السفلي يشكل أحد العلامات المهمة في تاريخ الخيال الإنساني، والخيال الفني بالذات. قررت عشتار أن تقوم برحلة لعالم الأموات، لأسباب غامضة، ربما للقضاء على الموت أو لإنقاذ تموز وإرجاع الحياة على الأرض، وكان عليها أن تجتاز سبعة أبواب متتالية قبل الوصول إلى المكتب الرئيسي لإدارة الجحيم، وعليها في كل بوابة check point أن تترك شيئا من أشيائها الأرضية وممتلكاتها الشخصية للحراس المسؤولين عن السماح بالمرور، فتخلصت من تاجها في البوابة الأولى ثم الحلي والأقراط والقلائد والأساور، ثم الملابس الحريرية قطعة قطعة لتجتاز البوابة الأخيرة عارية لتمثل أمام أختها أريشكيجال التي تسيطر على عالم الأموات. وكانت ملكة العالم السفلي تفور غضبا لتجرأ عشتار على زيارة عالمها الخاص بدون دعوة. سنترك ما يجري بين عشتار وأختها في الوقت الراهن، المهم والخطير في الحقيقة هو ما يحدث فوق الأرض في غياب عشتار، حيث بدأ الموت والجفاف والذبول يجتاح الحقول والأودية، فجفت العيون والمنابع والأنهار والآبار، أختفت السيول وغابت الأمطار، أصفرت ألأوراق والأعشاب وتيبست الأشجار، وتحولت حقول القمح والشعير إلى أراض قاحلة تلعب بها الرياح الساخنة، وتحول البشر والحيوانات إلى كائنات عقيمة تهيم على وجه الأرض المحترقة. وذعرت الآلهة لهذا الإنتشار المفاجيء للموت الذي بدأ يزحف على وجه الأرض، فكان عليهم أن يتدخلوا لينقذو عشتار من قبضة أريشكيجال وبراثن حراس الجحيم. ونلاحظ هنا أن الآلهة قد تدخلت أيضا لإنقاذ تاناتوس من قبضة سيزيف الذي كبله بأغلاله، لينقذ البشرية غياب الموت ومن أبدية غير محتملة، أما في حالة عشتار فتدخل الآلهة هدفه إنقاذ البشرية من الفناء والعدم. وتمكنت الآلهة من إنقاذ عشتار والرجوع لعالم الأحياء، ولكن الثمن كان باهضا، فقد كان عليها أن تجد من يحل محلها في العالم السفلي، ووقع الإختيار على رفيقها تموز لينزل لعالم الموت ويأخذ مكانها. هذه الأسطورة السومرية يمكن أن تكون مثالا لما يمكن أن يحدث على الساحة الفكرية وفي عالم الفكر الفلسفي والفني كلما غابت "عشتار" كفكرة أساسية ومكونة للخيال الإنساني، تاركة هذا الخواء والفراغ وهذا الإحساس بالخراب والعدم الذي يجتاح البشرية على فترات متفاوتة من حين لآخر. هذا الإحساس بغياب المعنى ونضوب رحيق الحياة وتوقف كل شيء عن النمو والتجدد، وأن الأرض قد بدأت تتعفن. وهو ما عبر عنه الشاعر ت.س. إليوت في قصيدة الرجال المجوفون بإبداع رهيب
We are the hollow men We are the stuffed men Leaning together Headpiece filled with straw. Alas! Our dried voices, when We whisper together Are quiet and meaningless As wind in dry grass Or rats feet over broken glass In our dry cellar Shape without form, shade without colour, Paralyzed force, gesture without motion
نحن الرجال المجوفون
نحن الرجال المحشوون المتكئون على بعضهم خوذة ملأي بالقش. للأسف ! عندما نهمس سوياً تنبعث أصواتنا المبحوحة خافتة عديمة المعنى كالريح بين ثنايا العشب الجاف أو كأرجل جرذان على زجاج مكسور في قبونا الموحش
شكل بلا هوية، ظل بلا ألوان قوة مشلولة، إيماءة جامدة
وهذه القصة السومرية الأولية، يمكن أن تمثل نموذجا أساسيا archetype للفكر المعاصر لما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، كلما غابت عشتار، أوفكرة مماثلة، حيث ينمو على الفور هذا الإحساس بالعدم والخراب الذي حل بالعالم المستنير، والذي لم تستطع لا الفلسفة ولا العلوم ولا التقدم التكنولوجي ولا الأديان من إنقاذه من العبث والدمار. هذا الإحساس بأن كل شيء قد توقف عن النمو، وأن البشرية والإنسانية قد تحنطت. لا شك أن قصيدة الأرض اليباب تعتبر من أقوى النصوص التي تعبر عن هذا الخواء الوجودي الذي يغلف الكون بأسره، والذي أجتاح الأدب الأوروبي خلال العصور المتعاقبة لغياب عشتار أو أي كينونة أسطورية بديلة، الله، العقل، العدالة، الحقيقة، السعادة، المعنى .. إلخ. وفي كل فترة تغيب فيها عشتار، بطريقة أو بأخرى، ترتفع الأصوات نائحة على مصير العالم والإنسانية. أصوات الشعراء والأنبياء والقديسين والفلاسفة ترتفع منذرة بالكارثة القادمة متنبئة بتحول العالم إلى صحراء قاحلة مزروعة بالعظام والجماجم، حيث تختفي الشمس وتحل البرودة الغامضة وتظهر الأشباح والظلال تفترس الحياة في الأزقة والشوارع المظلمة، ويحل الطوفان ليغرق الأرض وما عليها. غير أن الجذور الأسطورية لتفسير هذه الكوارث أو التنبؤ بها ما هي إلا إشارة لهذا التوجه الدائم للفكر الإنساني لمحاولة التخلص والتغلب على هذا القلق الميتافيزيقي المتجذر في تاريخ الفكر والفلسفة والدين والناتج عن حتمية الموت والعدم الذي يترقب الحياة في كل لحظة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلام والإغتيال السياسي
-
التضحية بتموز
-
عشتار تحت الأرض
-
عن البداوة والحضارة
-
القديسة العاهرة
-
المهرج والساعة
-
رأس فارغة للبيع
-
عشتار
-
فرانكنشتاين
-
لولبية العبث
-
صخرة سيزيف
-
الشيوعية الأناركية
-
لماذا خلق الله آدم يوم الجمعة ؟
-
الله والفرن
-
من تمنطق فقد تزندق
-
الحصار
-
الله عدو الشعب
-
وظيفة الله
-
بمناسبة الثامن من مارس
-
التأويل بدل الحقيقة
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|