|
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6876 - 2021 / 4 / 22 - 21:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سورة الشمس من السور المكية التي غفل عنها الكثير في أستنباط المنهج الأستعراضي الذي قدمته كنوع من أنواع البديع اللغوي في طريقة العرض أو في ربط القضايا التي أستعرضتها، كان هم المفسرين أنهم أستعرضوا معاني المفردات الرئيسية ليخرجوا بمفهوم عام ينسب مرة إلى الله (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ومرة إلى الإنسان نفسه دون أن يضعوا حد ما بين هاتين النسبتين (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، العلة في قولنا هذا أنهم يتكلمون عن ضمير الغائب المتصل في كل الجمل بشكل متتالي (ها)، فتبدا السورة بقوله (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) هنا الضمير المتصل لا يعود لله ولا للإنسان وإنما يعود للشمس، بعدها تتكرر القضية في القمر والنهار والليل والسماء والأرض فتأتي المفردات ملحقة بها الضمير (تلاها) و (جلاها) و (يغشاها) و (بناها) و (طحاها)، لينتهي الفصل الأول من السورة ويبدأ الفصل الثاني مع قضية أخرى هي (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) ومن هنا تبدأ الإشكالية التي وقع فيها المفسرون، فقد تركوا النسقية والسياق الأول الوارد في الثلث الأول من السورة لينتقلوا إلى نسبة الضمير المتصل للغائب وجعله منسوبا لله بدون حجة سوى أنه يتحدث عن الإلهام والتسوية. القسم الثاني من السورة يتحدث عن النفس البشرية بذكر مفردة لا هي تساؤليه ولا هي تقريرية (وما سواها) ووقع اللبس هنا حينما نسبوا التسوية لله من خلال فهمهم لهذا النص (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) 29 الحجر، النفس كما هو معروف إنعكاس لحركية الحياة في البدن ومظهر من مظاهر وجود الروح فيه، كما أنها مجموعة من نواتج الغرائز والميول والسلوكيات الناشئة نتيجة وجود البدن الحي في الوجود فاعلا ومنفعلا به، وبالتالي فالنفس ليست مستوية وفق تقدير سابق إلا من خلال ما يعرف بنقطة البدء وهي النقطة التي تبدأ معها النفس البشرية بالتكون والقدرة على أن تتطور، قبل ذلك لا يمكن أن تكون النفس ذات جانبين أي فيها الفجور ولا التقوى وإنما تقع تحت مفهوم الصفر المطلق القيمي، يولد الإنسان وهو نفس خالي من كل خصائص إلا الخصائص البيولوجية الطبيعية، وهذه النفس تماما تشبه كل نفس حيوانية أخرى وليست محصورة أو مخصوصة بالإنسان، فالجنين الذي يولد في كل المجموعة الحيوانية بتشعباتها وأنماط تشكيلها تخضع لقانون واحد هو قانون الغرائز الفطرية، هنا لا ينسب مفهوم التسوية بمعنى التعديل والموازنة ولا ينسب مفهوم التسوية بمسمى القدرة على القبول والإمتناع، فقط يمكن أن ننسب التسوية هنا للفعل الخلقي وهو منطوق الآية المستشهد بها (َإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي). قد يقول قائل إنما النص يشير إلى المعنى الأخير بدليل أنه مع التسوية الخلقية جعلها قابلة لتكون محتوية للنقيضين (الخير والشر) الواردين في السورة بمعنى (الفجور والتقوى)، وبالتالي الأعتراض لا محل له، الجواب على هذا الأعتراض يكمن في أن التسوية الخلقية شيء ونتاج هذه التسوية من خلال كونها تنفصل لاحقا عن الأرتباط المباشر بمن جعلها مستوية، أي أنها تنفصل لتعمل بشكل ذاتي بعد أن أكتملت التسوية الخلقية لها دون أن تكون بالضرورة في أتصال مباشر مع (المسوي)، هذه النتيجة يقر بها القرآن في الكثير من النصوص والآيات التي تشرح مسئولية النفس عن فعلها دون أن تجعل من التسوية سبب للتعذر أو التبرير، وكما يقر بها العقل مصادقا لمنطق القرآن في أن كل نفس بما كسبت (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) الانفطار ٥،هذا العلم كان من وضائف ونواتج التسوية لكنه موقوف أيضا على وعي النفس وقدرتها على الفهم وهو موضوع غير مطلق ولا متوافر لكل، فكثير من الأنفس التي تفقد هذا الوعي لا يشملها لا التكليف ولا الحساب وإن كانت تحت نفس العنوان، فقط من هو مدرك لمعادلة التسوية والتعديل الخلقي وواعي تماما لها يمكن أن نضعه في دائرة صنع التقوى والفجور ذاتيا (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿٧﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴿٨﴾، الكلام هنا محصور كما في النص بالشكلية سواء بالتعديل أو الأستواء وليس في موضوعية الشكل التي هي مدار السؤال. إذا ضمير الغائب المتصل (ها) لا يعود لله وإنما يعود لمن ألهم النفس الفجور والتقوى، بمعنى من وضع محركات الطبع السوي في النفس وحركها نحو الفعل سواء الفاجر منه أو المتقي، فلو كان الله هو الذي يدفع النفس نحو الفجور فهو ظالم لها والله تعالى عدل مطلق مجرد وضع الإنسان أمام خارطة مؤشر عليها باللونين هذا اللون للتقوى وهذا اللون للفجور وقال له أن نهاية كل خط ستصل بك إلى نقطة لا رجعة منها ولا رجعة بعدها وأنت حر، فمن يلهم الفجور للنفس إذا إن لم يكن الله، الجواب هو قرار الإرادة عند البشر وخيارها الذي تخذه وفقا لما تنشأ عليه وتعيه، والدليل أن النص يؤكد ذلك في تكملة الآيات المتسلسلة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، فالمفلح هو من تزكى بعمله وقاد النفس للتقوى والخائب من خاب في تلمس الطريق الصحيح فأختار أن يدسها حيث لا يجب أن تكون، في الجزء الثالث يضرب الله مثلا لهذه الحالة التي هي قانون النفس فيقول (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا)، التسوية هنا لا تتصل من حيث المعنى بالتسوية الأولى بل حتى تفترق بالدلالة، أما الإشارة للخوف فممكن حملها على الوجهين أما أن الله لا يخاف من النتيجة التي تحصل بالتسوية الثانية وهو المعنى الأضعف بحسب طبيعة وماهية قوة الرب وإرادته، أو أن الخوف هنا يعود إلى أشقاها الذي لا يخاف الله ولا يخاف عاقبة العمل المدان بالنص وهو المعنى الأكثر منطقية لأن من يخاف هم أولئك الأكثر قدرة على ضبط النفس وصيانتها عن الأنحراف (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) ١١٢ البقرة. نعود للصياغة البلاغية وهي شكلية البناء النظمي للفكرة التي طرحها النص من خلال المقارنات المتناظرة وكيفية الأستدلال على المقصد الجمالي والمعنوي في نصوص سورة الشمس، فقد أورد النظائر المختلفة في نص مزخرف بالبديع اللفظي (الشمس والقمر) و (الليل والنهار) و (السماء والأرض) و (الفجور والتقوى) و (الفلاح والخيبة)، ثم يكمل المقارنة بمنطق أخر ولكن بنفس السياق أيضا (أشقاها ورسول الله)، هذا النمط من العرض ليس غريبا عن أدب النص القرآني وخاصة في السور المكية القصار التي كان الهدف الغائي منها أيقاظ الوعي على الطريقة المعرفية التي تنتمي لعصر السجع والبديع وفنون الكلام التي يبرع بها العرب عامة وأهل مكة خاصة، لذا أتهم النبي في حينها أنه شاعر بأعتبار أن الشعراء هم القمة الثقافية لمجتمعاتهم وقيمها المعرفية (لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ) وكذلك النص التالي (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)، لقد جاء النص معبرا تماما عن ثقافة البيئة وإنعكاسا لها ليسطر الأفكار بشكل جمالي مع الأحتفاظ بالقصدية الحكمية التي يجب أن تصل للمتلقي وفق ذائقته هو، لكن مع أنتقال النص من مرحلة العرض والمحاججة والتنبيه إلى مرحلة تسطير الأحكام والتشريع عاد المنطق في السور المدنية إلى أسلوب أخر، أسلوب التشريع المباشر المدعوم بأمثلة وقصص وتفصيل مقنن.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نداء من فوق
-
نحن والملح والموت
-
رسالة إلى صاحب السعادة (حمار) أفندي
-
الله عند سبينوزا والله في الأديان
-
راقصة في مأتم
-
حكاية القن
-
َفأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ
-
لماذا نكنب في النقد الديني؟ ولماذا نعيد قراءة الدين؟
-
رسالة أحتجاج
-
قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّه
-
عشق طائر حر
-
َتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً
-
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ
-
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ۖ
-
قلبي يشتكي الفراغ
-
أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
-
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ح1
-
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ح2
-
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ
-
القربان
المزيد.....
-
هآرتس: إيهود باراك مؤسس الشركة التي اخترقت تطبيق واتساب
-
الاحتلال يسلم عددا من الاسرى المحررين قرارات بالابعاد عن الم
...
-
هآرتس: الشركة التي اخترقت تطبيق واتساب أسسها إيهود باراك
-
السويد ترحل رجل دين ايراني دون تقديم توضيحات
-
10 أشخاص من الطائفة العلوية ضحايا مجزرة ارهابية وسط سوريا
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر تتسلم الاسير الاسرائيلي كيث سيغا
...
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الثاني
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الاسرائي
...
-
إطلاق نار على قوات إسرائيلية في سوريا وجبهة المقاومة الإسلام
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد بجودة HD على جميع الأقمار الصناع
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|