|
يوميات كاميرا الحرب
سمر يزبك
الحوار المتمدن-العدد: 1630 - 2006 / 8 / 2 - 11:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يا أخضر حلو لم يكن بإمكان أي مُتخيل بصري التخمين أن مشاهد الموت والقتل، المبثوثة في كتب التاريخ، من الملاحم القتالية والكوارث الإنسانية أو حتى مشاهد الوعيد والعقاب في الكتب المقدسة، يمكن أن تصير واقعاً حقيقياً بمثابة صورة تنقلها عدسة الكاميرا لمشاهد مستلق أمام جهاز التلفزيون، وسجين جدران أربعة. وصف الجحيم بأهواله وعذاباته، كما قرأناه أو أبصرناه في بعض كلاسيكيات الأدب والتصوير، قد يتحول إلى دراما متسلسلة من نمط "تلفزيون الواقع" تتحرك فصولها بضغطة زر واحدة على الـ"ريموت كنترول". وقد يٌباح الجحيم ويُفتح على مصراعيه أمام العين، فيتحول كل ما يحيط بالرؤية إلى مشهد هستيري ثقيل، وطبقات من الرعب متنقلة من شاشة إلى أخرى، تصنعها الآلة العسكرية وتسردها الكاميرا. ويحدث أن يكون الموتى الأحياء هم الأبطال،، إحدى طبقات فصول مسلسل الجحيم هذا، كما في المقبرة الجماعية التي شهدتها مدينة صور. المدينة البحرية الوارفة النابضة تدفن 27 جثة من الموتى، والتوابيت مصفوفة على جدار إسمنتي ملون بالأرقام السوداء التي تنوب عن الهوية الأخيرة للضحية. هؤلاء الذين كانوا بشراً منذ أيام، تحولوا إلى أرقام تحفظها العدسة، مكتوبة بخط عشوائي على زوايا خشبية سيأكلها التراب بعد قليل، وقد تكون الكاميرا هي وحدها مخزن الذاكرة الختامي عند الأهل والأحباء من الباقين على قيد الحياة. في طبقة أخرى، تنقل العدسة أرواحنا التائهة إلى طفلة ملفوفة الرأس بقماش أبيض محايد، عيناها شبه مغمضتين ووجهها مدروز بشظايا القذائف ونثار الإنفجارات، تبكي وتتساءل ببراءة: لماذا تكرهنا إسرائيل؟ لماذا لا تحبنا إسرائيل؟ ماذا فعلنا لإسرائيل؟ لكن ما يحدث في طبقة أخرى يبدو أشد هولاً، وهو مشهد جدير بجعل أرواحنا تتوقف عن التحليق، تتيبس، ونخجل بعدها من فكرة الحياة: مجموعة من الأطفال تكتشفهم الكاميرا تحت الأنقاض، مكومين فوق بعضهم البعض كأعواد حطب يابس. طفل لجأ إلى حضن أمه، وربما أراد العودة إلى رحمها بعيداً عن هول الدمار والحرب، والعائلة كلها متكدسة تحت أنقاض بيت كان آمناً، منذ ساعات قليلة. رجل يتحدث إلى الكاميرا، ويشير بأصابعه المشوهة إلى ما فعله شارون بيده، ثم تنزلق الكاميرا إلى رجليه المبتورتين، فيتابع حديثه: أولمرت فعل هذا بي... ترى ما الذي سيفعله بوش؟ لا تجيب الكاميرا، بل تستسلم لطغيان مشاهد الجحيم وتنويعات الموت الجماعي؛ وتصير يوميات ترواح بين تخريب الحياة من جهة، وإعمارها من جهة أخرى. والكاميرا، فيما تنقله، لا تغادر موقعها في قلب رقعة الموت، فتظلّ حبيسة دفتي ألبوم الصور المتلاحقة لجحيم اللحم البشري والحديد والنار، في كوميديا إلهية جديدة لا يُعرف عاليها من سافلها. هي ذاتها الكاميرا التي تسجّل قوة الحياة في اندفاع الناس إلى ترميم الخراب فور انتهاء الغارات، وحتى قبل أن تغادر الطائرات السماء. وهي ذاتها الكاميرا التي تدوّن لغة بناء الحياة، فتشهد أنها أقوى من أي لغة، وأكثر تعبيراً من أي خطبة سياسية، وأبقى من كلّ أهوال الموت المتلاحقة ثانية بثانية. تبقى الكاميرا صادقة، حائرة، تائهة، دقيقة، مشوشة، تتعثر أو تسير ثابتة الخطو، في صعود وهبوط. لكنها لا تغادر طبقات الجحيم الذي كان يسمى، وسوف يظلّ يسمى: لبنان يا أخضر حلو! يا أخضر حلو لم يكن بإمكان أي مُتخيل بصري التخمين أن مشاهد الموت والقتل، المبثوثة في كتب التاريخ، من الملاحم القتالية والكوارث الإنسانية أو حتى مشاهد الوعيد والعقاب في الكتب المقدسة، يمكن أن تصير واقعاً حقيقياً بمثابة صورة تنقلها عدسة الكاميرا لمشاهد مستلق أمام جهاز التلفزيون، وسجين جدران أربعة. وصف الجحيم بأهواله وعذاباته، كما قرأناه أو أبصرناه في بعض كلاسيكيات الأدب والتصوير، قد يتحول إلى دراما متسلسلة من نمط "تلفزيون الواقع" تتحرك فصولها بضغطة زر واحدة على الـ"ريموت كنترول". وقد يٌباح الجحيم ويُفتح على مصراعيه أمام العين، فيتحول كل ما يحيط بالرؤية إلى مشهد هستيري ثقيل، وطبقات من الرعب متنقلة من شاشة إلى أخرى، تصنعها الآلة العسكرية وتسردها الكاميرا. ويحدث أن يكون الموتى الأحياء هم الأبطال،، إحدى طبقات فصول مسلسل الجحيم هذا، كما في المقبرة الجماعية التي شهدتها مدينة صور. المدينة البحرية الوارفة النابضة تدفن 27 جثة من الموتى، والتوابيت مصفوفة على جدار إسمنتي ملون بالأرقام السوداء التي تنوب عن الهوية الأخيرة للضحية. هؤلاء الذين كانوا بشراً منذ أيام، تحولوا إلى أرقام تحفظها العدسة، مكتوبة بخط عشوائي على زوايا خشبية سيأكلها التراب بعد قليل، وقد تكون الكاميرا هي وحدها مخزن الذاكرة الختامي عند الأهل والأحباء من الباقين على قيد الحياة. في طبقة أخرى، تنقل العدسة أرواحنا التائهة إلى طفلة ملفوفة الرأس بقماش أبيض محايد، عيناها شبه مغمضتين ووجهها مدروز بشظايا القذائف ونثار الإنفجارات، تبكي وتتساءل ببراءة: لماذا تكرهنا إسرائيل؟ لماذا لا تحبنا إسرائيل؟ ماذا فعلنا لإسرائيل؟ لكن ما يحدث في طبقة أخرى يبدو أشد هولاً، وهو مشهد جدير بجعل أرواحنا تتوقف عن التحليق، تتيبس، ونخجل بعدها من فكرة الحياة: مجموعة من الأطفال تكتشفهم الكاميرا تحت الأنقاض، مكومين فوق بعضهم البعض كأعواد حطب يابس. طفل لجأ إلى حضن أمه، وربما أراد العودة إلى رحمها بعيداً عن هول الدمار والحرب، والعائلة كلها متكدسة تحت أنقاض بيت كان آمناً، منذ ساعات قليلة. رجل يتحدث إلى الكاميرا، ويشير بأصابعه المشوهة إلى ما فعله شارون بيده، ثم تنزلق الكاميرا إلى رجليه المبتورتين، فيتابع حديثه: أولمرت فعل هذا بي... ترى ما الذي سيفعله بوش؟ لا تجيب الكاميرا، بل تستسلم لطغيان مشاهد الجحيم وتنويعات الموت الجماعي؛ وتصير يوميات ترواح بين تخريب الحياة من جهة، وإعمارها من جهة أخرى. والكاميرا، فيما تنقله، لا تغادر موقعها في قلب رقعة الموت، فتظلّ حبيسة دفتي ألبوم الصور المتلاحقة لجحيم اللحم البشري والحديد والنار، في كوميديا إلهية جديدة لا يُعرف عاليها من سافلها. هي ذاتها الكاميرا التي تسجّل قوة الحياة في اندفاع الناس إلى ترميم الخراب فور انتهاء الغارات، وحتى قبل أن تغادر الطائرات السماء. وهي ذاتها الكاميرا التي تدوّن لغة بناء الحياة، فتشهد أنها أقوى من أي لغة، وأكثر تعبيراً من أي خطبة سياسية، وأبقى من كلّ أهوال الموت المتلاحقة ثانية بثانية. تبقى الكاميرا صادقة، حائرة، تائهة، دقيقة، مشوشة، تتعثر أو تسير ثابتة الخطو، في صعود وهبوط. لكنها لا تغادر طبقات الجحيم الذي كان يسمى، وسوف يظلّ يسمى: لبنان يا أخضر حلو ! الكاميرا تحت ركام قانا قبل يوم واحد فقط من مجزرة قانا الثانية، استضاف "مارسيل غانم" في برنامجه كلام الناس على شاشة "إل بي سي" مجموعة من المصورين الفوتوغرافيين والتلفزيونيين، الذين تحدثوا عن علاقتهم بالكاميرا، والعلاقة الشائكة بين موازنة المهني والإنساني، لتقديم الصورة الأكثر احترافية، وعن الظروف التي يعانون منها، وهم ينقلون للعالم الخارجي بشاعة وفظاعة الحرب. كانت الحلقة مؤثرة إنسانيا، وتعرف المشاهد خلالها على المحجوب عن الشاشة، الرافع الحجاب عن الحقيقة، والذي يمتص وجع الصورة أولاً، وكان مصور الجزيرة، مثل أغلب زملائه، عبر عن حرصه على عدم نقل الصور المؤذية إنسانيا، وعلى الرغم من التأثر الواضح على وجوه المصورين، والتأكيد على عدم أذية مشاعر المشاهد، إلا أن ما حدث صباح اليوم التالي، غير طبيعة الصورة التلفزيونية التي كانت تحافظ على مستواها منذ بداية الحرب، وانتقلت إلى مستوى مختلف، خاصة في الدقائق الأولى التي نقلت فيها مشاهد مجزرة قانا الثانية، والتي بثتها شاشة الجزيرة والعربية مبكراً، ولا نعرف حقيقة إن كان مصور الجزيرة الذي ظهر على شاشة "ال بي سي" هو نفسه الذي قام بتصوير القتلى تحت أنقاض المنزل المدمر، فالكاميرا كانت ملحة في الذهاب إلى أقصى ما يمكنها التقاطه من تفاصيل التوحش الإنساني داخل الركام، وفي الوقت الذي كان صوت المذيع يعتذر عن بث هذه المشاهد المؤلمة، كانت الكاميرا تتجرأ على فظاعة الموت، وتنزل مع أيدي المسعفين تنبش في الركام، ويظهر وجه طفلة نائمة، بسكينة أبدية، من تحت الأنقاض، مثل وردة حجرية، وجه برئ. معفر بالغبار، لا يتجاوز عامه الرابع، تقترب الكاميرا من تحت الركام، تقرأ وجه الطفلة، ويطلب المذيع من ذوي الإحساس المرهف، الابتعاد عن الشاشة، فقد تجاوزت الكاميرا الخط الأحمر الذي تحدث المصورون عنه في برنامج مارسيل غانم.ولابد أنهم بعد قانا الثانية، صارت لهم أراء مختلفة، حتى تظهر صورهم على أغلب المحطات التلفزيونية، كما هي على أرض الواقع: بكامل فضيحتها. الفضيحة التي ما تزال العنوان الأكثر بلاغة وايجازاً، لنجوم الحرب: أطفال لبنان، أطفال الدهشة في لحظاتهم الأخيرة، بموتهم الفاضح، هم نجوم الصورة التلفزيونية، النجوم الصامتة، التي لا تستطيع التحديق في الكاميرا، وصنع ابتسامات للمستقبل، يذكرونها على عتبة الشباب. الكاميرا التي تعرف أنها، قد تبقى تحت الركام، وتصير عينها مفتوحة على الفراغ الأبدي، مثل عيون الأطفال الذين تصورهم، تتجرأ، بعد أن قررت عدم التراجع. ربما فعلت خيراً بعدم حذف أي مشهد من مشاهد قانا الجديدة، فحامل الكاميرا وصاحب عينها يعرف، أن لا مشاعر مرهفة بقيت لدى المشاهدين، والصورة صارت تتطلب مرحلة مختلفة لم تعهدها من قبل، وصار واجباً على المتفرج، إلقاء تحية الوداع الأخيرة على الأطفال، حتى لو كانوا مجرد أكوام من اللحم اليابس، وأعضاء، متناثرة، مغبرة، تكتشفها الكاميرا تحت الركام.
#سمر_يزبك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صورة عتيقة
-
أين نزار قباني العاشق
-
تحت سماء دمشق: اللعب الحافي
-
نجوم أمطار الصيف
-
كاميرا نوال السعداوي
-
غابة اميرتو ايكو
-
كاميرا حالمة
-
مستعمرة العقاب
-
الكاميرا والموت
-
عودة المثقف الحر
-
وثيقة بصرية عن الاعتقال السياسي
-
عقول خلف القضبان
-
المرأة في المؤتمر الموازي لمنتدى المستقبل
-
إنهم يقتلون النساء
-
قانون الأحوال الشخصية في سوريا: بين التعسف والمصادرة
-
المثقفون وحراس الكراهية
-
حكي النساء
-
هل نترك الباب مفتوحاً لاحتواء الثقافة إلى الأبد؟
-
من ينقذ التلفزيون السوري من الشعوذة؟
-
سمير قصير ودموع اميرالاي
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|