|
المجتمع وسلامة المنطق
سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي
الحوار المتمدن-العدد: 6868 - 2021 / 4 / 13 - 08:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سؤال: هل توجد علاقة بين الفوضى الفكرية والنشأة الاجتماعية؟
مقصود بالفوضى الفكرية هو (التفكير اللامنطقي) يعني شخص لا يتحدث بمنطق وليست لديه القدرة على التزام المنطق، فيشوب حديثه خلطا وجهلا وقياسات فاسدة غبية، يحدث ذلك رغم تمتعه أحيانا بنسبة ذكاء وسرعة بديهة إلا أن التفكير المنطقي لديه مضطربا..
وهنا مسألة هامة: فليس من الضروري أن يكون الشخص ذكيا ومنطقيا في نفس الوقت، فالذكاء سعة أفق وانفتاح وخيال وعمق وشكوك ، لكن المنطق يحكم هذه الأمور بميزان رياضي، فإذا غاب سيظل الذكاء كما هو لكن لا يوجه بشكل صحيح، وأفضل مثال على هذه الفئة هم المستبدين وبعض رجال الدين، فهذه الفئات لديهم نسب ذكاء قد تكون مرتفعة لكن التفكير المنطقي لديهم شبه معدوم ومضطرب بشدة، فلو أحسنوا المنطق لأحسنوا التواصل، مما يعني أن وظيفة المنطق بالأساس هي التواصل.
بالمناسبة: يوجد بالمخ ما يسمى (بالفص الجبهي) وهو الذي في مقدمة الرأس في الجبهة، هذا الفص مسئول عن التفكير المنطقي فإذا تعطل ذلك الفص أو شابه الاضطراب يعاني الشخص من فوضى فكرية ودائما يخلط وتظهر هواجسه ضد أقرب الناس إليه فيخسر أصدقاءه بسرعة وبسهولة، حتى لو كان ذكيا فلا يسعفه ذكاءه في علاج وضعه الاجتماعي المتردي، لأن من وظائف المنطق كما قلنا هي (التواصل الاجتماعي) فإذا فقد ذلك التواصل عانى الشخص وفشلت علاقاته الاجتماعية فيكتئب وتصيبه أمراض نفسية وهلاوس..
النشأة الاجتماعية هنا لها دور كبير، فإذا تمتع الطفل والإنسان في الصغر (بحب الوالدين) شعر بالأمان، وأما إذا تعرض للضرب والاحتقار المتكرر (خاف وارتعد وأصيب بإرهاب نفسي وقلق دائم) فيتحول ذلك الخوف لردات فعل عنيفة تجاه الآخر، فالذي يحدث وقتها هو حرمان المخ من الأوكسجين اللازم للتفكير حتى يكون البديل هو تصرف الإنسان بشكل نزعوي بحت..حيث تعلو نزعات العنف والكراهية محل الهدوء والعقلانية، وهذا يفسر قصص حياة الإرهابيين والمجرمين والتكفيريين في الغالب حيث تعرضوا في طفولتهم للضرب والقهر المتكرر، كون مصدر هذه الحياة البائسة أن الإنسان في ظل خوفه (تُصاب كافة أجهزته العقلية في المخ بالشلل) فيتعطل الفص الجبهي، وتأمل الإنسان الخائف حين يعجز عن التفكير بشكل منطقي لهذا السبب، ليتسم سلوكه بالعنف تجاه نفسه والآخرين، وقد يلجأ للانتحار من فرط الخوف في ظاهرة لامنطقية بالأساس..
نعم: فالانتحار والقتل والعنف هي أشكال لامنطقية بعيدة عن التفكير السليم والهادئ، فالشخص حين يهدأ ويفكر منطقيا يكتشف أن الذي يصيبه من قلق وتوتر وعنف واكتئاب كان في معظم أحواله (مبالغات) وردود أفعال غير طبيعية تأثرت بوسائل أخرى لا علاقة لها بجوهر المشكلة، كمن يعنف صديقه مثلا لأنه يعاني من ضائقة مالية..وهي مبالغة لامنطقية شهيرة نعاني منها في لحظات الخوف..
بالمناسبة: علاقة الفص الجبهي بالمنطق..لها دور في صناعة الإرهاب والعنف، فابن تيمية وسيد قطب كتبا أخطر كتبهم في السجن، والسبب أن السجون خالية من التهوية الجيدة فيُحرَم المرء من الأكسجين اللازم لنشاط الدماغ والفص الجبهي بالخصوص، ولعُطل المنطق يبدأ الإنسان في سجنه بالتفكير بشكل عنيف..والتجربة أكدت ذلك أن جماعات العنف الوهابية في السبعينات نشأت في السجون بالأصل، وقد تأثرت بكتابات صنّفها مسجونين، فالخيال قد يكون واسعا في السجن للهدوء والفردية، لكن المنطق شئ مختلف جدا، فالخيال دون منطق يعني خرافة قولا واحدا، وإذا فتشنا في التراث الديني عن مصدر الأساطير والقصص الخرافية نجد أن أصحابها كانوا يتمتعون بخيالٍ جيد ونزعة قصصة وحكائية مميزة..لكن عقولهم في ميزان المنطق (صفر)..
أذكر أن المنطق في التفكير ليس حكرا على الاتجاه المادي أو الجدلي لكنه يدخل عوالم الروح التي تعتقد بمنطقية (خلود الأرواح) ومن تلك القاعدة المنطقية خرجت أديان التناسخ، فغير المطلع على تلك الأديان يرى أن التناسخ فكرة غبية بالأساس كونه يتحرك من مساحة أخرى وهي الخلود الأبدي والحصري لله أو لربه أيا كان هو، فيظن أن خلود ما دونه عند الغير ليس منطقيا لارتباط المسألة لديه بالوحدانية المقبولة منطقيا في اللاهوت الإسلامي واليهودي بالخصوص، ولا ينتبه أن فكرة الروح عند تلك الأديان هي كلية أيضا مرتبطة بالله..فهي الأساس والمحرك لهذا الكون، ويمكن اختصار أديانهم بكلمتين (أصالة الروح)
وفي مفهومهم أن الروح طاقة نورانية تسكن القلب هي التي تعطي للجسد حياته وللدنيا معنى، فكلما تنزه القلب من الشهوات والشرور كلما ارتقت الروح لتتحد مع خالقها، وهذا سر من أسرار الديانات الروحية التي أنتجت ما يعرف ب "وحدة الوجود" التي هي لديهم (غاية إحكام الكون منطقيا) وتفسر كثيرا من متناقضات وفراغات الفكر باللاهوت، حتى أن التناسخ رفيق هذا الإحكام المنطقي لوحدة الوجود يحل أيضا معضلات الشر في الأديان غير التناسخية، فالقائم والآمر بالشر عند بعض الأديان هو الرب حقيقة..لتظهر عقيدة الجبرية اللامنطقية، فيكون التناسخ هنا حلا يرى الفعل الإنساني وفقا لدورة التناسخ متسقا، فمن يعمل خيرا بحياته الأولى يرتقي في حياته الثانية والعكس صحيح.
على الجانب الآخر في الأديان غير التناسخية فالقيامة والدار الآخرة في عالم مفارق هو (عالم منطقي) يتسق مع وحدانية الخالق، بينما فكرة ثواب وعقاب الإنسان بتطوره وانحداره في رحلة التناسخ ليس عقابا وثوابا في الحقيقة ، لأن قوانين الكون هي التي صنعت ذلك..فمن كان يبتغي الثراء والسلطة وكان مؤهلا لهما وسعى إليهما سيحصل عليهما بشكل مؤكد، وهذا قانون كوني معروف بالمقدمة والنتيجة، وبالتالي لا شأن هنا لحياة سابقة بالأمر، فقد يعيش الإنسان حياة بائسة مظلومة في الأولى لكنه يظل كذلك في الثانية – فرضا – لضعف هذا الشخص وعدم امتلاكه مقومات البقاء، ومن هنا نفهم أن منطقية الأديان ليست عملا رياضيا يسهل رصده واستنتاجه لتبعيته أموراً أخرى في الفكر وفلسفات الحياة..
وقد يرى بعض المتشائمين حياته بلا معنى لهذا السبب، فهو يظن أن معنى الحياة لو لم يكن منطقيا ومعروفا بشكل محكم واضح سيكون هذا المعنى محتملا فيفقد أميز ما فيه وهو (اليقين) اللازم لحياته ، وثمة فارق بين التشاؤم والحزن، فالتشاؤم هو رفض السعادة بالأساس في ظل استمرار شكواه من الحزن، حتى يصل المتشائم للحظة فيها يعتقد ببؤس هذا العالَم وعدم جدواه وانتفاء معناه الوجودي فيقرر الانتحار، وتأمل أخي العزيز عندما قلنا أن الانتحار عمل لامنطقي مبالغ فيه ، لأن المنطق ثمة المتزنين نفسيا وعقليا..فللأمر إذن أبعاد نفسية موروثة من المجتمع والأسرة لمسئوليتهم عن تشكيل الوعي المنطقي للطفل منذ الصغر عن طريق التعليم، ومن ناحية أخرى مسئوليتهم عن سلامة الفص الجبهي بالمخ بعدم تعنيف الطفل وتخويفه..
#سامح_عسكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا يكره رجل الدين حضارة مصر القديمة؟
-
قانون الأحوال الشخصية ليس من اختصاص الفقهاء
-
العظماء لا يموتون..نوال السعداوي نموذج
-
قتل المرتد بين فرج فودة ورفيق تقي
-
فرص الديمقراطية في اليمن
-
شروط الاجتهاد المطلق
-
حقوق المرأة بالعمل لا بالأخلاق والعقل
-
الطاعات الواجبة في أصول الفقه
-
مفهوم الوحي في الإسلام
-
الوسائل العشر للتلاعب والتحكم الذكوري
-
البنيوية اللامركزية في النقد والتجديد
-
ردا على التكفيري محمد سعيد مشتهري
-
حُكم التبنّي في الإسلام
-
تجديد الفقه الإسلامي وتحدياته
-
كيف تنقد مقالا بطريقة علمية؟
-
الشيعة فوبيا والإسلاموفوبيا..ما العلاقة؟
-
صفوت الشريف كرئيس مصري بدون قَسَم
-
روشتة الاستبداد الذكي
-
أكذوبة لعن الزوجة الممتنعة عن الفراش
-
صراع المرأة ورجل الدين
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|