أيها الرفاق
كم كان بودنا ان يكون هذا اللقاء تكريماً لمسيرة الرفيق محمود النضالية، الغنية والمليئة بالشجاعة والتفاني ونكران الذات، وقد تجاوزت نصف قرن. لكن القدر جعلنا نلتقي في تأبين هذا القائد والمناضل الكبير من ابناء الفيحاء ومينائها اللذين اعطيا حزبنا، ومنذ نشوئه رهطاً كبيراً من خيرة قادته ومناضليه وابرز مثقفيه، واعطياه ايضاً زعماء نقابات عمالية ومهنية ومؤسسات مجتمع مدني في هذا الشمال الزاخر بالعطاء. على مثال نقولا شاوي واحمد المير الأيوبي وعبد الغني مسقاوي والدكتور نزيه مظلوم ومحمد عدرة والدكتور سميح علم الدين وايليا عوض وسليمان علي الشريف وانور العشي وحسام حجازي، وغيرهم من المناضلين الشجعان الذي غادرونا، والكثير من الذين نتمنى لهم طول العمر. سار الرفيق محمود الواوي يافعاً وشاباً على طريق جلجلة الكفاح، مكرساً كفاءاته وثقافته وعمره للقضية الكبرى، قضية تحرير الشعب من الجهل والقهر والفقر ليصبح حراً في وطن سعيد. وباكراً، في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، لبى نداء الواجب وظروف الكفاح القاسية، فاستقال من وظيفته في التعليم الرسمي ليتنسك زاهداً بالمعنى الكامل للكلمة، لقضية الشعب والوطن، فكانت منظمة الحزب في طرابلس والشمال عائلته وبيته، وكان اعضاؤها اولاده، فعززها وطورها، الى اسهامه في القيادة الوطنية للحزب عندما انتخب اكثر من مرة عضواً في المكتب السياسي وفي مراكز قيادية أخرى.
كانت صحته وسلامة جسمه ورجاحة عقله ومزاجه الهادئ المتفائل ابداً، ومظاهر الشباب الدائم، كان كل ذلك يشير الى عمر مديد وقدرة كامنة لمزيد من العطاء، لولا المرض القاتل الذي فاجأه وفاجأنا فقطع هذه الحياة الرائعة، وحرمنا من هذا الرفيق الذي لا يعوض.
اننا في هذه الظروف الصعبة، الخطيرة والمعقدة في الحزب والبلاد والمنطقة، نفتقد اخلاص الرفيق محمود وزهده، نفتقد ثباته وصلابته وهدؤه في مواجهة المنعطفات والأزمات، نفتقد تحليلاته العميقة البعيدة عن ردات الفعل والانفعال، المستندة الى ثقافة واسعة، وعلم وفير، وتجارب غنية.
وغني عن التأكيد ان محمود غادرنا والوطن الذي كرس حياته من اجله يعيش ازمة لم يسبق ان عاش مثلها. فشبحها يخيم على لبنان وهي في كل مدينة وقرية، وفي كل منزل من منازل اللبنانيين، وهي ليست محصورة في ميدان واحد. إنها في آن، ازمة سياسية، وأزمة اقتصادية – اجتماعية، وازمة ثقافة وعلم ووعي وانتماء، انها بإيجاز ازمة نظام. السلطة في واد والشعب في واد آخر.
سلطة فرضتها قوى دولية واقليمية، حين عجز اللبنانيون، او منعوا، من الاتفاق فيما بينهم، سلطة فرضت لمهمة مباشرة ومحددة، فلم تنفذ تلك المهمة بل فاقمت المشكلة وعمقت الفرقة بين اللبنانيين، وعرقلت لقاءهم من اجل الحفاظ على مواقعها. وراحت تعيد انتاج ذاتها بذاتها منحدرة من السيء الى الأسوأ انحداراً في كافة الميادين، لا نرى له قراراً.
ويبرز تهافت هذه السلطة بكل مكوناتها، في اجلى مظاهرة في الأوضاع الاقليمية الراهنة الخطيرة بذاتها، وبما تحدث من تداعيات تطال كل دول المنطقة. ولم تعد هذه التداعيات مجرد احتمالات، فبعد غزو العراق واسقاط نظامه، سارعت الولايات المتحدة الأميركية الى تصعيد ضغوطها على سوريا ومن خلالها على لبنان. فيما يتأكد ان غزو العراق لم يكن هدفاً في ذاته، بل هو حلقة في عملية تريد منها الولايات المتحدة اعادة ترتيب العلاقات في المنطقة وفقاً لمصالحها. ولاحظنا في مواجهة هذه التطورات، شعوراً عارماً بالمسؤولية عند اوساط واسعة من اللبنانيين في كل المناطق، كما شهدنا تراجعاً في الاحتقان الطائفي والمذهبي الذي اثارته السلطة واجهزتها ليسود جو قريب من الاجماع في ادانة احتلال العراق والتضامن مع شعبه، ورص الصفوف في مواجهة الهجمة الأميركية في المنطقة، وبالأخص على الشقيقة سوريا. اما السلطة في كل مكوناتها فانها ظلت في موقع آخر، يكرر اركانها خطاباً مملاً عتيقاً بالياً، وراحت تتابع صراعاتها وفئويتها وتهافتها للحصول على القليل القليل الذي لم ينهب، وتتابع تفريغ ما تبقى من هياكل ديمقراطية من مضمونها، وتخالف الدستور وتلغي المؤسسات وتجوفها وتعرضها لنقمة المواطنين، مستمرة في سياسة كيدية، مصفية حساباتها البائسة مع من يخالفها ولا يلتحق بركابها.
ثم تفاجئ اللبنانيين باسم الوضع الخطير وضرورة الاستعداد لتصليب الموقف ازاءه، باستقالة الحكومة وتأليف حكومة جديدة لهذا الغرض، بعد مهزلة استشارات تزيد ديمقراطيتها تشويهاً وعهراً، لتنبعث الحكومة السابقة بمعظم اعضائها في الحكومة الجديدة. ولينحصر الجديد باعادة النظر في توزيع بسيط في الحصص، وباستبدال عدد قليل من الوزراء بآخرين ليسوا بالضرورة الأفضل والأكفأ والأفعل. وظلت الحكومة اياها، حكومة الأزمة والانهيار والانقسام، حكومة تجويع اللبنانيين واذلالهم وتجهيلهم، حكومة اللون الواحد والفريق الواحد، تواجه توحد اللبنانيين بالاصرار على تقسيمهم وعزل أوساط واسعة منهم عن المشاركة في تحمل مسؤولية مواجهة المخاطر المحدقة.
لقد عبر اللبنانيون عن غضبهم من امعان المتولين للأمور في متابعة سياساتهم واجراءاتهم الكيدية واعمالهم التقسيمية واستخفافهم بعقول المواطنين وارادتهم. وتكررت مرة جديدة مهزلة الديمقراطية اللبنانية، التي يمعنون في تشويهها، في تعليقات بعض الوزراء الناقدة بعنف للحكومة الجديدة، وفي خطب النواب الشديدة القساوة في نقد هذه الحكومة وتهميشها، ليعود معظمهم، ومنهم من غالى في الهجوم والانتقال الى بيت الطاعة رافعاً اليد عالياً مانحاً ثقته.
أيها الرفاق
ان استمرار هذا النهج يعرض مصالح الوطن والشعب لأخطار جدية الأمر الذي يستدعي من قوى المجتمع الحية، من القوى التي لم تستوعبها محاولات الاحتواء والتعطيل والارتشاء، ان تستنفر قواها وتتجاوز مشكلاتها الداخلية، وما يمكن ان ينشأ من تحفظات في العلاقات فيما بينها، لتعبئة الشعب واعداده للتصدي، بعد ان خيبت آماله حكومة التصدي المزعومة، وسياسة الحكام الشديدة الانفصام عن الواقع، الفاقدة الشعور بحراجة المرحلة وخطورتها.
ويبررون بعث الحكومة السابقة في الحكومة الجديدة، مع ادخال تشويهات عليها، بالحديث عن ضرورة الوقوف بحزم الى جانب سوريا في مواجهة ما يوجه اليها من تهديدات. فهل بتحدي اكثرية اللبنانيين بهذه الحكومة يتم الوقوف الحازم الى جانب سوريا، وقد اثبت اللبنانيون بأكثريتهم الساحقة انهم اياً كانت الخلافات بينهم والتباينات في آرائهم، يقفون صفاً واحداً حازماً مع كل بلد عربي يتهدده العدوان، كما حصل مع العراق اخيراً فكيف مع سوريا الشقيقة التوأم. مؤكد ايها الرفاق ان هذه الحكومة المترنحة والمتناحرة منذ يوم اعلانها والضامة وزراء حيروا اللبنانيين لكثرة ما نقلوا البندقية من كتف الى آخر، ليست هذه الحكومة بقسم كبير من وزرائها هي الممثلة لخط وطني وقومي حقيقي في لبنان، وليست هي التي تحمي الخاصرة السورية، كما درجوا على القول، بل ان العلاقات بين الشعبين الشقيقين في لبنان وسوريا كانت على الدوام ولا تزال امانة في وجدان وممارسة القوى الوطنية الديمقراطية بصفتها قدر الشعبين، وغير خاضعة لمصالح ومنافع حزبية وفئوية ومكاسب خاصة ومصدر نفوذ لمن لا نفوذ لهم في اوساط اهلهم وشعبهم.
انه الشعب اللبناني بالكثرة العظمى من فئاته، هو الذي يحمي عروبة لبنان على ما ظهر جلياً في الموقف من العدوان على العراق، رغم ادانة ورفض نظامه، فكيف الحال اذن، مع التهديد بالعدوان على سوريا وشعبها. وان كان من خلل يضعف لبنان وموقفه في هذه المواجهة الكبرى، فهو الخلل المقيم منذ زهاء عقد من الزمن، والصائر الى الأسوأ في استمرار هذا النهج الرسمي المكابر، بينما المطلوب من اطراف السلطة جميعاً تعديل نهجهم الفئوي، وتقليص صراعاتهم على المنافع والمغانم التي باتت تهدد السفينة بالغرق. مطلوب معالجة جذرية للأزمة الاقتصادية الاجتماعية، والأهم من كل ذلك، ان يساهموا في تجديد الحياة السياسية، والطبقة السياسية بتغيير ذهنياتها ومشاريعها واساليب عملها، عبر اقرار قانون ديمقراطي للانتخابات يسبقه او يرافقه اجراء مصالحة وطنية حقيقة، لا يبقى خارجها الا المصرين على الخيار الأميركي الصهيوني (ان وجدوا حيث وجدوا).
ايها الرفاق
ان احتلال القوات الأميركية للعراق كان مكلفاً على الصعيد السياسي العالمي بفعل ما سببه من اهتزاز غير قليل في علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع العديد من دول العالم. وكذلك مع الرأي العام الدولي وحتى الرأي العام الأميركي وخاصة اوساط المثقفين الأميركيين. ولا نبالغ بالقول ان هذه الحرب العدوانية اوجدت بدايات قيام القطب الثاني في وجه هيمنة القطب الأوحد، هو الرأي العام العالمي الذي شهد نهوضاً كبيراً لمروحة واسعة من القوى المستقلة والديمقراطية والحرة في قرارها في العديد من الدول وغير الملتفة حول دولة او مركز بعينه، فاق ما كان يحصل في اوج انتصارات الحركة الثورية العالمية في زمن القطبين. وسيكون احتلالهم للعراق ايضاً مكلفاً على الاقتصاد الاميركي، وضاغطاً على الانفاق الاجتماعي داخل اميركا، وسرقتهم للنفط ليس كافياً لسداد كلفة حشودهم وحروبهم العدوانية وليس بعيداً سقوط بوش الأب لأسباب اقتصادية رغم انه كان قد حقق انتصاراً اكبر وبتحالف اوسع ضم اكثر من 35 دولة.
اما على الصعيد العربي فنقول لمن شارك في العدوان او فرح بعد احتلال العراق وانطلق يدعو بوقاحة للاستسلام ولاحياء النهج الساداتي، والذين يرون الاستسلام الخيار الوحيد المتاح. لهؤلاء نقول ان ابشع صيغ الاستعمار المباشر القديم ستشهدها المنطقة نتيجة هذا الاحتلال، من تعيين للحكومات والحكام وحتى المخاتير والبلديات، وستطال التهديدات الدول والقوى الممانعة وغير الممانعة للعربدة والتفرد الأميركي. والخيار الوحيد المتاح هو خيار المواجهة والتنسيق الوطني والقومي والاقليمي مع كل المتضررين من الهيمنة والتفرد الأميركي، والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية فلسطينياً وسورياً ولبنانياً، وعدم التنازل عن الحقوق التاريخية وعن قرارات الأمم المتحدة وميثاق م.ت.ف. وعدم الرضوخ للاملاءات وعدم التفريط بارضنا وبحقنا في المقاومة، فخيارنا وقرارنا الاستعداد للدفاع عن الوطن الى جانب كل المقاومين الشرفاء في حال توهم العدو الاسرائيلي انه يستطيع بالاستناد الى الاحتلال الأميركي للعراق والخليج الثأر من هزائمه على يد مقاتلي المقاومتين الوطنية والاسلامية.
ايها الرفاق،
في ذكرى كبير من حزبنا، وافته المنية في عز عطائه نؤكد لشعبنا، للقوى الوطنية والديمقراطية الرافضة لهذا النهج الرسمي المدمر احزاباً وجماعات وشخصيات عامة، ان حزبنا الذي تمرس على امتداد عقود في النضال ضد المستعمر وعدوانه واحلافه ومشاريعه، من اجل الاستقلال والسيادة والحرية والديمقراطية، ودفع اثماناً غالية لقاء ذلك، لن تثنيه محاولات العزل والتهميش وسيستمر كما في الماضي، لصيقا بالشعب مدافعاً عن مصالحه، متغلباً على المصاعب التي يواجهها، حريصاً على وحدة صفوفه بتنوعها وغناها. حزبنا حمل يوم نشوئه اسم حزب الشعب، وطوال مسيرته المديدة كان الشعب وقضاياه مركز اهتمامه ونشاطه ومبرر استمراره. وكما في الأزمات المصيرية السابقة لا سيما في مواجهة العدوان والاحتلال، كما في مواجهة الغزو الاسرائيلي عام 1982، فقوى الشعب الحية هي التي تقاوم وتتصدى، أما بعض الحكام والوزراء واهل البلاط على تنوعهم فالى التعاون مع المحتل، او الهرب واللجوء الى السفارات، أو الصمت والانزواء اتقاءً للعاصفة. هذا كان نهجنا في الماضي وهو نهجنا المستقبلي رغم الحصار والتضييقات.
في اربعين محمود الواوي نؤكد من هنامن مدينة الشهيد الكبير رشيد كرامي الذي جمعنا به دائماً تحالف وتعاون وتنسيق في ذكراه وذكرى شهدائنا الكثر من عكار والمنية الضنية ومن البترون والكورة الى طرابلس والميناء وسائر قرى الشمال الأخرى الذين لبوا نداء الحزب فسقطوا ابطالاً على سفوح جبل الشيخ وفي وديان جنوب الجنوب وهضابه، وبعض جثامينهم ما تزال تحتضنها تربة تلك المناطق البعيدة عن قراهم واحيائهم، ان رفاقهم يكملون المشوار في الدفاع عن كرامة الشعب وحرية الوطن.
طرابلس ف