أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طوني سماحة - مسألة وجود الله-2- معضلة الالحاد















المزيد.....

مسألة وجود الله-2- معضلة الالحاد


طوني سماحة

الحوار المتمدن-العدد: 6859 - 2021 / 4 / 4 - 21:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة الوجود (The Human Predicament) هي معضلة الإنسان المعاصر. منذ بدايات عصر التنوير والإنسان يسأل أسئلة مصيرية مثل "من أنا"؟، "من أين أتيت"؟، "ما الغاية من وجودي"؟، كيف ابتدأت الحياة"؟ "هل هناك حياة بعد الموت"؟ "هل الله موجود"؟

قفز الإنسان المعاصر من القفص الذي بناه رجل الدين الى قفص آخر بناه الفيلسوف. لكن هذه القفزة لم تكن دون ثمن وإن حررت الإنسان أحيانا من سلطة رجل الدين. كان الإنسان الذي عاش في القرون الوسطى يصدق كل ما يقال له عن أمور الدين دون سؤال، كما أنه كان يتعامل مع رجل الدين على أنه ممثل الله على الأرض. في القرن الخامس عشر، اخترع غوتنبرغ المطبعة وثار مارتن لوثر في ألمانيا على النظام الديني المتمثل بالبابوية. كان لهذان الحدثان أثر عميق في التاريخ. سمحت مطبعة غوتنبرغ بانتشار المعرفة التي كانت قبلا حصرا على رجل الدين الذي كان يستخدمها أحيانا لمصلحته الخاصة، وأظهرت ثورة مارتن لوثر الدينية أن المساءلة الاجتماعية ممكنة حتى لو كانت موجهة ضد رجل الدين. أدى ازدياد المعرفة الى طرح اسئلة وجودية عميقة ساهمت بعد قرون طويلة الى فصل الدين عن الدولة وتغيير منظومة القيم الاجتماعية والدينية والسياسية والروحية في أوروبا أولا وفي العالم ثانيا.

نقل عصر التنوير أوروبا تدريجيا من الإطار الديني للقيم الروحية والاجتماعية الى المفهوم العلماني، ومهد لفصل الدين عن الدولة. أدت الأفكار الجديدة التي طرحها الفيلسوف في الشارع الى تراجع دور الكنيسة في المجتمع واستبدال قيمها بأخرى أكثر حداثة. من بين اولئك الفلاسفة الذين أثروا في بروز أفكار اجتماعية ثورية نذكر باروخ سبينوزا (Spinoza Baruch) هولندا (1632-1677)، دنيس ديدرو (Denis Diderot) فرنسا (1713-1784)، وديفيد هيوم ( David Hume) اسكوتلندا (1711-1776). أدت أفكار هؤلاء الفلاسفة وغيرهم بجرأتها الى الإعلان رسميا عن موت الله على يد الفيلسوف فريدريك نيتشه (Frederic Nitzsche) ألمانيا ( 1844-1990) الشهير بعبارة God is Dead”" (موت الله او لقد مات الله). أثر نيتشه في القرن العشرين بعدد من الادباء والفلاسفة الذين اسسوا للتيار الوجودي (Existentialism) مثل جان بول سارتر ( Sartre) وألبير كامو (ِ Albert Camus) وبعده للآلحاد الجديد الذي أكثر من يمثله اليوم هو العالم البريطاني ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins).

لم تأت الأفكار الالحادية الحديثة دون ثمن. فلقد أدرك نيتشة منذ البداية ، وهو الملحد، أن انهيار القيم الاجتماعية المسيحية ستترك أثرا سلبيا وفراغا في المجتمع قد يصعب ملؤهما أو التعويض عنهما. كانت المسيحية، قبل الالحاد، قد رسمت للرجل الاوروبي على مدى ألف وخمس مائة عاما هويته وقيمه وعاداته وتقاليده وفلسفته. لكن ومع إعلان موت الله وجد الانسان أنه فقد هويته، فأخذ يبحث عن البديل. ومع زوال الله من الصورة، أدرك الانسان ان البديل الذي كان يحلم به قاده للتيتم والوحدة في عالم شاسع ومتضارب الأطراف. في هذا العالم الذي لا حدود له، ليس الانسان اكثر من قشة او غبار، وحياته محدودة بزمن قصير وضئيل ومعتم لا يخلو من شبح الموت وألم التعاسة وقسوة المرض وحدة الاكتئاب. زد على ذلك ان الحياة في هذا القفص الجديد خاليه من اي معنى او غاية أو هدف أو قيمة. في هذا العالم الجديد يفتقر الانسان لاي مرجعية سامية وموضوعية مما يؤدي الى اختلاط مفاهيم الخير والشر وضياع الهدف وزوال القيم والتباس الاهداف وتراكم اليأس والتعاسة. هذا ما دفع الفيلسوف "ل د رو" ((L D Rue في خطابه أمام الاكاديمية الامريكية لتقدم العلوم، عام 1991 بالقول أننا نخدع أنفسنا "بأكذوبة نبيلة" (Noble Lie) لاعتقادنا أن للإنسان او للكون قيمة أو أهمية تذكر (نقلا عن Reasonable Faith/ Dr William Lane Craig).

هذه المعضلة الروحية والاجتماعية عبر عنها الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه (Frederic Nietzche) في مقولته "لقد مات الله" أو "موت الله" (God is dead). في روايته “هكذا تكلم زرادشت” (Thus spoke Zarathustra) “، يجوب االمجنون في الصباح الباكر شوارع المدينة حاملا مشعلا وصارخا بأعلى صوته "أنا أبحث عن الله، أنا أبحث عن الله". كان صراخ المجنون باعثا لسخرية وضحك سكان المدينة الذين كانوا بمعظمهم فاقدي الايمان. وقف المجنون في وسط المدينة وأخذ بالصراخ "أين ذهب الله؟ دعوني أقول لكم أننا قد قتلناه. نحن جميعا قتلة الله. لكن كيف ترانا صنعنا هذا الامر العظيم؟ كيف استطعنا ابتلاع البحر؟ من أعطانا الاسفنجة التي محونا بها وجه الأفق؟ ماذا فعلنا عندما فككنا ربط الارض والشمس؟ أين ترانا نذهب الآن؟ وكيف نبتعد عن كل الشموس؟ ما الذي يمنع الآن ان يصطدم واحدنا بالآخر من الامام والخلف؟ من كل الاتجاهات؟ هل ما زال هناك عمق وعلو؟ ألن نتوه بعد الآن في العدم اللامتناهي؟ ألن ينفخ الفراغ القاتل أنفاسه في أنوفنا؟ ألم يصبح الكون أكثر برودة؟ أو ليس الليل اكثر سوادا مرة تلو الأخرى؟" وينتهي المجنون بالقول "لقد مات الله. لقد مات الله". قد يكون مستغربا ان يصدر هذا الكلام عن فيلسوف ملحد مثل نيتشه، لكنه كان يدرك في أعماق نفسه خطورة الآثار السلبية والمميتة المترتبة على حياة الانسان إثر اختفاء فكرة الله من الوجود. فالمسيحية الي شرعت بعدم جواز القتل والسرقة واشتهاء ما للغير والزنا كانت صمام الأمان الذي يحمي المجتمع من ذاته. موت الله، حسب نيتشه يقضي على التشريع الاجتماعي دون ان يقدم بديلا عنه.

أدرك الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر في القرن العشرين معضلة الوجود هذه. كتب "الحياة فاقدة لأي معنى وبالتالي يتحتم علينا ان نوجد لها معنى ما. قيمة الحياة هي في المعنى الذي نضفيه عليها". في كتابه "الغثيان" ( Nausea)، كتب سارتر "سوف أحيا فيض الحياة. آكل وأنام وأنام وآكل. سوف أحيا بهدؤ مثل الاشجار، مثل مستنقعات المياه والمقعد الاحمر على خط الحافلة (أوتوبيس)". على غرار سارتر، يقول الروائي الفرنسي ألبرت كامو (ِAlbert Camus) ان الحياة لا معنى لها ولسنا نستطيع ان نخلق لها معنى. أفاض كامو في كتاباته عن عبثية الحياة (رواية الغريب)، ولكي يتجاوز هذا المأزق دعانا لكي نتمتع بضوء الشمس على شاطئ البحر، وان نشرب فنجان قهوة مع صديق والا ننغمس في التفكير في عبثية الحياة. نهل عالم الاحياء المعاصر ريتشارد داكنز (Richard Dawkins) من ينبوع الفلاسفة الذين سبقوه فكتب في "وهم الإله" (The God delusion) أ "الكون الذي نراه يتمتع بالخصائص التي نتوقع رؤيتها فيه. في ظل غياب التصميم والتخطيط والقصد ينعدم اي وجود للشر او الخير. ليس في هذا الكون سوى عدم مبالاة عمياء لا عمق لها."

"إن لم يكن الله موجودا، فالكل متاح او مسموح به" هي عبارة تنسب للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواية "ألاخوة كارمازوف" في القرن التاسع عشر. عند غياب الله عن المشهد الانساني وفي غياب اي مرجعية موضوعية ومطلقة للقيم الروحية والاخلاقية يفتح الباب على مصراعيه وتزول الممنوعات. "إن لم يكن الله موجودا وإن لم تكن النفس البشرية خالدة" يقول دستويفسكي في روايته الجريمة والعقاب، "أخبرني إذا، ما الذي يدعوني ان احيا حياة جيدة وان اعمل اعمالا صالحة؟"

لقد ساهم الالحاد في تغيير القيم الاجتماعية على الساحة العالمية عامة وفي اوروبا وامريكا خاصة. ضرب الالحاد في العمق الوجداني والروحي للانسان فأخرج الله من حياته، لكنه لم يستطع ان يقدم البديل عنه. فالانسان من دون الله، يحيا حياة من دون هدف او معنى في ظل تهديد الموت والمرض والشقاء اليومي. قد يضفي الانسان على الحياة معنى كما زعم جان بول سارتر، لكن هذا المعنى لا يملأ الفراغ العميق الذي يحياه الانسان في غياب وجود الله. بالتالي إما أن يحيا الانسان دون هدف او يحيا الكذبة النبيلة التي تدّعي وجود معنى للحياة حسب تعبير الدكتور "رو" أمام الاكاديمية الامريكية لتقدم العلوم. قد يستطيع الانسان، دون العودة لله، ان يقدم معايير لتحديد مفاهيم الخير والشر، لكن اي مفهوم يبقى هو الاصلح؟ في مفهوم ريتشارد دوكنز لا وجود للخير والشر اصلا، وبالتالي ما هو المعيار الذي نستطيع ان نبني عليه؟ هل يصح اعتبار اجهاض الجنين قتلا؟ هل يجوز القتل الرحيم ( Euthanasia)؟ هل يكون تعد الازواج والزوجات والشركاء في العلاقة الجنسية جيد؟ ماذا ان اتفق أخوان على ممارسة الجنس وما الذي يمنع هذه العلاقة خاصة وانهما لا يضران احدا ما؟ ان لم يكن الخير والشر موجودان، هل يصبح منع الحكومات تعاطي المخدرات والاتجار بها ظلما! وان كان الخير والشر موجودان دون الله ما هو المعيار لهما؟ قد يكون الروائي الروسي دستويفسكي على حق عندما قال "عندما لا يكون الله موجودا يصبح كل شيء مسموحا (If God did not exist, everything is permitted)، أو على حد قول الروائي الفرنسي فولتير "إن لم يكن الله موجودا، لوجب علينا أيجاده (ٍSi Dieu n’existait pas, il faudrait l’inventer).



#طوني_سماحة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسألة وجود الله-1- المقدمة
- الكورونا والانسان
- القبر الفارغ (مقدمة)
- اسكندينافيا من مجتمع الفايكنغ الى مجتمع ما بعد المسيحية
- هل الموت نهاية ام بوابة عبور؟
- هل ما زال المسيح حالة ملحة في ال 2020؟
- ما قبل المسيح وما بعده
- مفهوم الحرية والمساواة في المسيحية
- الجينات الوارثية بين التطور العشوائي والتصميم الذكي
- هل الالحاد دين؟
- القيم الاخلاقية، بشرية أم إلهية المصدر؟
- نظام ذكي أم فوضى خلاقة؟
- لغز الوجود
- على خطى يسوع- 18- القيامة
- على خطى يسوع- 17- -يا يهوذا، أبقبلة تسلّم ابن الانسان-؟
- على خطى يسوع- 16- ساعة الحقيقة
- على خطى يسوع- 15- لن تغسل رجلي أبدا
- على خطى يسوع- 14-دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم
- على خطى يسوع- 13-الموت والحياة
- من وحي عيد الميلاد


المزيد.....




- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...
- بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م ...
- مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ ...
- الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طوني سماحة - مسألة وجود الله-2- معضلة الالحاد