كامل عباس
الحوار المتمدن-العدد: 6856 - 2021 / 4 / 1 - 20:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة :
يكاد يكون فن السيرة الذاتية اقرب أنواع الفنون الأدبية الى قلبي هو والقصة القصيرة وهو يتشارك معها بكونه فن سهل ممتنع كثيرون يطرقون بابه وقلة قليلة تجيد فيه . ولكن على عكس القصة القصيرة كنت استمتع بكل أنواع السير الذاتية تقريبا. أكثر ما أمتعني من كتب السيرة مذّكرات بابلوا نيرودا وما فيها من حرارة وصدق وشاعرية وانسانية يليها بالدرجة الثانية مذكرات هيلري كلينتون , اما نيلسون مانديلا ذات الشخصية الإنسانية التي لاتضاهى فقد تمنيت أن اقرأ سيرته الذاتية لأعرف منها سر انفصاله عن زوجته وزواجه من أرملة رئيس موزامبيق في عيد ميلاده الثمانين الذي لم يرق لي , أخيرا وقعت عيناي هذا الشهر على كتاب معروض في واجهة مكتبة مجد في اللاذقية بعنوان مذكرات مانديلا فسارعت الى الحصول عليه.
مذكرات نيلسون مانديلا
توزيع شركة المطبعات والنشر في بيروت
الطبعة الخامسة 2018
ترجمة حنان محمد كسروان .
- كانت صدمتي الأولى هي في تقديم الكتاب من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما . يرتبط اوباما في ذهني بقول سمعته من العميد المصري صفوت الزيات في إحدى المقابلات الصحفية وصفه فيها بأنه ذئب بشري . فهل يحق لرجل مثل هذا ان يُقدم لسيرة إنسان على الضد منه تماما يفيض حبا بالإنسانية.
- الصدمة الثانية كانت في كون الكتاب لايحمل روح مانيلا ومذكراته التي تسمى – المشوار الطويل الى الحرية – بل من إعداد فريق حّورها الى عمل سياسي وسماها – حواري مع نفسي – واختار بداية ونهاية لها بحيث جاءت وكأنك تقرأ كتاب معجون بمدرسة الواقعية الاشتراكية بمسحتها التفاؤلية وبطلها الايجابي وحتميتها التاريخية .
- الصدمة الثالثة حول انفصاله عن زوجته التي تكلّمت السيرة عنها كثيرا الا في موضوع الانفصال حيث اعتبره مانديلا قد تّم لأسباب شخصية لم يوضحها وبالتالي لم استطع حل اللغز بل خرجت بعد قراءتي السيرة أكثر غموضا من السابق مع انطباع ايجابي عن تلك المرأة لايقل عن إعجابي بزوجها .
..................................
حالما انتهيت من قراءة السيرة , شعرت برغبة لا تقاوم للتعليق عليها بنفس الروح التي كنت اعلق فيها على الكتب التي كنت أقرؤها وأنا في السجن - وكأنني مازلت فيه- وكنت قارئها الوحيد طيلة فترة سجني خوفا من افتضاح أمرها ووصولها الى إدارة السجن وبالتالي الحرمان من استعارة كتب مكتبته .هذه بعض التعليقات السريعة أكون شاكرا لكل تعليق او نقد عليها يمكن ان يفيدني اذا قررت ان انشر سيرتي الذاتية يوما .
1- اختار معدو السيرة أن يبدؤوا الكتاب بهذا القول : لغاية في نفس يعقوب مع انه واردة في السيرة ص 233
(الزنزانة هي المكان الأفضل ليتعلم المرة التعرف على نفسه, والبحث بشكل واقعي ودائم عن طريقة عمل ذهنه ومشاعره .....من بين أشياء كثيرة تمنحك الزنزانة الفرصة يوميا لتفحص سلوكك في مجمله وتنمية الخير كله الكامل في داخلك ..
من جهتي يصدق قول الشاعر عن سجون العالم حتى الآن
السجن مدرسة اذا أعددتها أعددت شعبا طيع الأعناق
السجون الحالية للعقاب وليست للإصلاح من السجون السورية حتى السجون الأمريكية وسجن ابو غريب في العراق تحت إدارتهم خير شاهد على ذلك , ومن يتحّمل كل هذا تتحطم أعصابه وروحه وتترك جدران السجن بصماتها على جسده ويخرج أكثر حقدا وتوترا على العالم الذي سجنه . يعني هذا ان السجين السياسي تحديدا سواء كان قياديا في حزبه ام كان عضوا عاديا مثله مثل الآخرين لايمنحه السجن امتيازا خاصا ويجب النظر اليه من هذه الزاوية فسياسيون كثر سجنوا أعواما طويلة وخرجوا بنفس العقلية التي دخلوا اليه . لست مع القول: الزنزانة تنّمي الخير في داخل السجين . فقد يحصل العكس مع كل أسف .
2- ص 197 عن النشاط الجنسي من حديث مع ريتشارد سينغل معّد السيرة
- ستينغل . كيف تتقبل أنت نفسك فكرة أن زوجتك ... انه تم الحكم عليك بالسجن المؤبد وتغيب لسوات طويلة , لديها حياة خارج السجن وهي تلتقي رجالا آخرين قد تعجب بهم , وقد يحّلون محلك مؤقتا .
- مانديلا . هذه مسألة كان على المرء محوها من ذهنه , على المرء تقّبل المسائل الانسانية , يكفي أنها كانت امرأة وفية وداعمة لي , تأتي لزيارتي وتراسلني.
شغلني التفكير بهذا الموضوع انا وكثيرين من رفاقي .
ان حّل تلك الاشكالية سواء نشأت علاقة جنسية بين رجل وامرأة في المجتمع نتيجة غياب الزوج او نتيجة الرغبة الجنسية ليس بالأمر السهل , لست مع حلّها على طريقة ماركس في البيان الشيوعي , هذا ما دفعني لإثارتها كموضوع فني . اشتغلت سنوات على رواية تتحدث عن علاقة طالب مع امرأة متزوجة وأنهيتها بشكل مأساوي , كثيرون من رفاقي السجناء قرؤوها بلهفة الوصول الى لحظة ممارسة الجنس مع المرأة كتعويض لهم عن حرمانهم الجنسي ولكنها صدمتهم بالنهاية المأساوية , أخرجها لي مدير السجن بعد أن قرأها وحلف لي انه لم ينم حتى أنهاها وقد ّتمت طباعتها فور خروجي وهي موجودة في السوق تحت اسم - نصف سنة من حياة أيوب –
3- وردت هذه الفقرة في الصفحة 236 . (لا اريد أن نثير انطباعا يفيد بأن جميع الحراس هم مجرد حيوانات وخبثاء, لا. من البداية, كان ثمة حراس شعروا بأن تجدر معاملتنا على نحو صائب. بدون تفاخر ومباهاة, وكانوا عادة مساء يأتون للتحدث إليّ. وكان بعضهم أخيارا بحق. وكانوا يبدون آراءهم بصراحة حيال المعاملة التي كنا نتلقاها.) ومن الصفحة 224 الى الصفحة 240 والحديث يدور عن تعامل مانديلا مع سجانيه كان أهمها التعامل مع الرقيب بونزايير . شاب أبيض في سن العشرين كان قاسيا في تعامله مع السجناء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة مثل مانيديلا ورفاقه. ( قلت له بضعة أمور غير سارة بحضور بعض المساجين الآخرين , لكني وجدت لاحقا اني قسوت كثيرا عليه ) ص 240 وعند المساء بعد عودته من المقلع الصخري علم من سجناء آخرين داخل السجن ان هذا الشاب يتيم وفقير وقد تطّوع في الجيش لكي يعيل أسرته . وفي اليوم التالي اعتذر منه مع انزعاج رفاقه من سلوكه.
أعجبني فهم مانديلا للدولة ودورها في المجتمع واعترف أن شيوعيتي السابقة منعتني من الوصول الى هذا الفهم حتى مررت بالتجربة لأجد أنني كنت أعيش بشكل نظري على صفحات الكتب ولأصل عبر التجربة الى هذه القناعة ولأجد ان كثيرا من السجانة في بلدي يمتلكون حسا إنسانيا اكثر من السجناء وهذه بعض أدلتي
اعتقلت في أب عام 1981 وفي عز أزمة النظام مع الإخوان المسلمين وبعد انتهاء التحقيق معي أخرجوني من الزنزانة ووضعوني في قاووش ليس سوى زاروب او ممر حصروه من الجهتين ليستعملوه بسبب كثرة النزلاء , كان كل نزلاء القاووش محسوبون على الإخوان المسلمين باستثناء شيوعي من رفاقي. وجدت رفيقي يتعامل معاملة خاصة بسبب علاقته بالسجانة .وهو يعيش معهم أكثر مما يعيش مع السجناء الآخرين اعترضت على سلوكه فحاججني بالقول :
- انت عضو مركزية في الحزب .علمتمونا على ان الاخوان المسلمين اخطر من النظام .
- هذا صحيح ولكن في السجن المسالة الإنسانية اهم من السياسية , أما انا فسأعيش بينهم كواحد منهم ولا اقبل ان أتميز عنهم لا في الطعام ولا في الشراب ولا في التنفس. لم يقتنع برأيي فاستمر بعلاقته معهم كالسابق . مرّة فتحت شراقة المهجع وكان زميلي نائما ناداني السجان وطلب مني ان أخرج معه بدلا من رفيقي النائم لأغلي له فنجان قهوة كما جرت العادة من قبل رفيقي السابق . فقلت له يا سيدي عندما تزورني قي بيتي سأغلي لك القهوة بكل سرور أما هنا فأنت سجان وأنا سجين وهذا ما يمنعني من تنفيذ طلبك مهما كانت نتائجه وخيمة عليّ .
كلفني ذلك حفلة تعذيب في اليوم التالي تركت أثارها حتى اللحظة على أذني .
اثر الحادثة وجدت ان كثيرين من زملاء السجان أصبحوا يحترمونني اكثر في حين وقف الى جانب رفيقي أغلب الرفاق في القووايش الأخرى .
وبعد انتهاء أزمة النظام مع الاخوان في عام 1982 فتحت أبواب مكتبة سجن فرع كفر سوسة لنا وكانت غنية جدا وكنت دائما مشغول في قراءة كتبها.
انشغلت بالقراءة غير عابئ بمن حولي , لينبهني احد الحراس لانتباه أن هناك مخبرين ينقلون ما أفعل داخل السجن للادارة .
ومرة ثانية جاء نائب مدير السجن ووجدني كالعادة اقرأ فقال لي : عباس تريد ان تصبح ماركس آخر! فأجبته بكل عفوية وبسرعة – الحجر الما بتعجبك بتفّجك : أقسم لي أنه لايسخر مني .
بعد أكثر من شهر تواجهت انا وإياه أمام مرحاض مشترك بين القاووش والا دارة, كنت في طريقي اليه لقضاء حاجتي وهو جاء لنفس الغرض . تنحيت لأعطيه الدور , ولكنه اصّر انه لن يدخل المرحاض قبلي وانتظرت في الكوريدور حتى خرجت منه . بعد ذلك بسنوات أضربت داخل سجن صيدنايا احتجاجا على عدم اطلاق سراحي مثل بقية رفاق لي قدمنا مذكرة مشتركة . في اليوم الخامس عشر من اضرابي عن الطعام تجّمع الحراس حولي بعد ان قدم الطبيب تقريرا طبيا للادارة السجن عن وضعي الصحي يفيد ان ضغط دمي يتذبذب وقد يؤثر على صحتي الى الأبد اذا لم أفك اضرابي .كان لسان حولهم يقول . انت اديب, انت مفكر ومظلوم ولكن الدولة دولة وأنت تتحداها وستخسر في النهاية ولا نريد لك ذلك نتمنى ان تفك اضرابك . في حين كان لكثير من رفاقي رأي آخر في اضرابي عن الطعام . هذه هي الدولة في الشرق وهؤلاء كما حكى عنهم مانديلا موظفون يخدمون رغما عنهم فيها .
4- وردت هذه الفقرة في الصفحة 226 في رسالة طويلة أُرسِلت الى مدير السجن في جزيرة دربان وهربت الى محامين عام 1977 (من غير المجدي الظن أن أي نوع من الاضطهاد سيغير آراءنا. حكومتك ودائرتك تملكان سجلا سيئا مليئا بالحقد والازدراء والاضطهاد للسود, وخصوصا الافارقة. حقد وازدراء يمثلان المبدأ الرئيسي لقوانين الدولة. إن قساوة هذه الدائرة تعرض شعبنا لتفتيش لا أخلاقي, حيث يطلب الى السجين التعري تماما, والكشف عن مخرجه ليتم تفتيشه فيه بحضور آخرين. ممارسة قذرة تماما كإقحام حارس اصبعه في مخرج السجين, والاعتداء على السجناء يوميا بدون أي استفزاز من قبلهم, قد تم وضع حد له من قبل الحكومة, بعد أن تحولت الى فضيحة على مستوى الوطن.). جرى معي شيئا من هذا في المقابلة الأخيرة لرئيس فرع 285 في كفر سوسة , علمت منه انه يعلم على أي جنب كنت أنام يوميا من خلال مخبريه , أبديت امتعاضي على سلوك الدولة ومخبريها داخل وخارج السجن , عرض عليّ فلسفته قائلا . نحن نعلم انك مظلوم وبريئ لكن نحن نريد تربية المجتمع فيك , ظلم افراد جائز ان كان بالمحصلة لصالح الثورة , لكنه تجاوب معي حول عدم فائدة إهانة السجين السياسس لحد إجراء عملية حركتي آمان عند كل تفتيش . مع ذلك بعد أسبوع من المقابلة حولني الى تدمر للتأديب .
تنقلت بين ثلاثة سجون كل منها كان يجري لنزلائه ما يسميه حركتي امان قبل الدخول الى السجن ولكن اذا كان مانديلا خرج من السجن الى الرئاسة فانا خرجت من السجن الصغير الى السجن الكبير . وجدت نفسي ازور السجن اكثر من مرة بداية هذا القرن بسبب موقفي المؤيد للثورة السورية لكنهم لم يطلبوا مني أبدا ان اجري حركتي أمان الا في المرة الأخيرة . في تموز عام 2019 اعتقلت من قبل الأمن الجنائي في اللاذقية بسبب تقرير كيدي بحقي يعتبرني أقوم بجمع تبرعات للإرهابيين . وعند انتهاء التحقيق حوّلت الى فرع الأمن السياسي وكالعادة بدأت إجراءات إدخالي الى السجن بما فيها التفتيش جردوني من ثيابي حتى أصبحت عاريا الا من ورقة التوت قلت للسجان أنتم فرع سياسي ومشهود لكم بالتعامل معنا انسانيا اكثر من الفرع العسكري وفرع أمن الدولة , راجوك لا تكمل واعفيني من حركتي الأمان فأجابني أنت هنا هذه المرة سجين إرهابي وليس سجين سياسي . انها أوامر لا أستطيع مخالفتها فأجريت حركتي الأمان والدموع تتدحرج على وجنتي.
خاتمة :
اختتم الكتاب بالفقرة التالية (ثمة مسألة أقضت مضجعي كثيرا عن السجن . هي الصورة المزيفة التي عكستها بدون عمد على العالم الخارجي . ان ينظر إليّ كقديس , لم أكن قديسا قط . حتى على أساس التعريف الدنيوي للقديس الذي يفيد بأن القديس هو آثم لا ينفك) .
ما ألمني حقا في قراءة هذه السيرة هو قدرة الطبقات المسيطرة على تزوير الحقائق بحيث تبدو بالنهاية ملائمة لتاريخها وتراثها ومقولاتها ومصالحها , زوّرت التعاليم الدينية لتي تصر جميعها على رؤية الله من منظور انساني يتعاطف مع كل فقير ومظلوم ليتحول الدين من قبلها الى أفيون للشعوب بالنهاية وهاهي تزّور سيرة انسانية كبيرة ليبدو مانديلا قديسا وليس مناضلا كأي بشري أخر يخطئ ويصيب كالآخرين .
كامل عباس – اللاذقية
#كامل_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟