|
أفكار أوليَّة في مقاربة مفهوم المكرامة
رياض الدبس
الحوار المتمدن-العدد: 6854 - 2021 / 3 / 30 - 14:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ترتبط كلمة "الكرامة " بالإنسان منذ ولادته بوصفه كائناً مكرماً ومحترماً، أو ينبغي أن يكون كذلك، وربما كان هذا الارتباط سببا في تقدم الكرامة بوصفها شعارا في حراك شباب الربيع العربي منذ ما يزيد على عشرة أعوام. تقودنا هذه الأهمية المحورية التي يحتلها هذا المفهوم إلى التساؤل عن دلالاته؛ فما هي الكرامه ؟ وما هو مفهوم الكرامة ؟ متى تسمو ومتى تهدر ؟ تمهيداً لمحاولة تلمس بعض الأفكار التي تدور في فلك هذا المفهوم، يمكن أن ننطلق من حقيقة تاريخية مفادها أن المفهوم تطور مع تغير حياة البشر وعملية بنائهم لوجودهم وطبيعة العلاقة القائمه بينهم؛ فهو عند اليونان والرومان وفي القرون الوسطى، مختلف عما هو في عصر النهضة والتنوير . وقد ساهمت بعض النصوص الدينية في تمايز مفهوم الكرامة سلبا وايجابا، وبتقديرنا ظل تعدد الأديان وتبايناتها وصراعاتها والتطرف والتكفير من أكثر مصادر هدر الكرامة بصورة عامة. وهو هدر من نوع آخر أصبح أكثر خطورة بصورة خاصة بعد استثمار السلطات للدين، وما اقامته وتقيمه من تحالفات، ربما كان اخطرها التحالف الثلاثي القائم على ( الأصوليات، والعصبيات، والإستبداد ). ولا تزال البشرية، وفي منطقتنا بشكل خاص، تعيش خطر هذا التحالف على الكرامة المتمثل في هدرها. يعتقد بعض الباحثين أن المفهوم الحديث للكرامة الانسانيه شق طريقه مع الثورة الفرنسية( ١٧٨٩) التي أطلقت شعارها المعروف حرية وعدالة وإخاء، و تجاوز تأثيرها فرنسا إلى كافة أنحاء أوروبا، وإلى عدد من دول العالم، وبنسب متباينه، وكانت لإيرلندا الأسبقية في ادخال الكرامة مادة في دستورها عام ١٩٣٧، تلتها المانيا حيث نص دستورها " كرامة الإنسان هي أمر لا يمس به واحترامها وحمايتها هي واجب كل سلطات الدولة". لم يتبلور المفهوم في تلك الفترة حتى من الناحية النظرية، وبقيت نزعة التمييز على أساس الدين والعرق واللون موجودة مع النزوع للهيمنة والاستعمار، وقد برزت هذه النزعة حتى عند بعض الفلاسفة و المفكرين والأدباء البارزين في أوروبا. ثم تبلور المفهوم نظريا في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي كانت نموذجاً لهدر كرامة البشر بكل أشكال الهدر التي عرفتها البشرية بصورة تفوق حتى الخيال، ويعرف الجميع حجم الموت والدمار والخوف والجوع وانتهاك الحريات والكرامات.
بعد انتهاء الحرب تمت صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وصدر في ١٩٤٨/١٢/١٠ . وساهمت في صياغته بشكل رئيس بعض الدول التي كانت منخرطة في الحرب ،وامتنعت بعض الدول عن التصويت لصالح تمريره. وكأن هذا الإعلان الوضعي كان بمثابة تكفير عما جرى من هدر لإنسانية الإنسان من جهة، واعتراف صريح ان الكرامةالإنسانية هي أساس الحرية والعدل والسلام في العالم من جهة اخرى . ومن أبرز ما جاء في هذا الميثاق :" يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق،وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء " (م١)؛ " لكل فرد الحق في الحرية وسلامة شخصه" ( م٣)؛ "لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص ويحظر الإسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها" (م٤ )؛ " لا يُعٌَرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة" (م٥ )؛ " لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفياً "(م٩)؛ " لكل فرد حق التمتع بجنسية ما، ولا يجوز حرمان الشخص من جنسيته تعسفاً أو إنكار حقه في تغييرها " (م ١٥)؛ " لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً" (م ١٧ ) . انها وثيقة إنسانية بامتياز بموادها الثلاثين التي توضح مفهوم الكرامة. تسمو الكرامة باحترام الإنسان بوصفه كائناً حراً مقدراً لذاته ،في مجتمع يسوده القانون والعدالة،مجتمع يعزز دور الفرد واستقلاله وارتباطه بكل ما هو انساني وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. تسمو الكرامة بإقرار الحقوق المكافئه لها وتطبيق شقيها الطبيعي والقانوني واحترام الحريات الفردية والعامة التي تخضع للعقد الاجتماعي والتي يتنازل الفرد بموجبها طوعا عن جوانب من حريته. تتعزز الكرامة بامتلاك الارادة الحرة التي تجعل الفرد إنسانا فاعلا في عملية البناء الاجتماعي: " الناس احرار متساوون بالكرامة والحقوق " ،" ولقد كرمنا بني ادم ...." هذا ما أقرته الأديان والقوانين وحقوق الانسان. ويعني التكريم صون الحق الطبيعي للإنسان في الحياة وعدم تعرضه للاعتداء والقتل وتأمين حاجاته الأساسية، وحرية التنقل، والاختيار، والتعبير عن الراي.
يعزز الوعي الكرامة ويصونها وكذلك يفعل الفكر والمعرفة والممارسة الأخلاقية والعقلانية؛ فالمواقف النبيلة يقوم بها إنسان نبيل امتلك الإرادة الحرة والكرامة، ويموت العبيد وهم يمجدون أسيادهم، وبموتهم يموت فعلهم، لأن الأفعال النبيلة فحسب هي التي تعيش بعد موت صانعيها الذين يحرصون على إعلاء الأخلاق من أجل تطور واستمرار الحياة الإنسانية.
استمرارا لسلسلة السمو بالكرامة نصل الى المجتمع المدني بوصفه فضاء ارتقاء وسمو الحرية والكرامة معا، لانه ميدان النشاط الحر والتباين والتوافق على أسس سلمية، وبوصفه قاعدة الدولة العمومية التي تصون الكرامة والحرية. وايضا نقول إن كرامة الإنسان مرتبطة بسمو الأوطان وسيادتها، وحيادية الدولة ووطنيتها وعموميتها، وبالعلاقات بين الدول والشعوب القائمه على الاحترام المتبادل لتحقيق المصالح والمنافع المشتركة؛ فكرامة الفرد من كرامة وطنه كما ان كرامة الوطن من كرامة أفراده. وفي الوقت الذي يساعد فيه تطبيق ميثاق حقوق الإنسان على اعتزاز الإنسان بانسانيته وحريته، فإن خرق هذا الميثاق من قبل الدول والمؤسسات، أصبح صورة من صور هدر الكرامة (خاصة في مجلس الأمن بسبب تناقضات دول الفيتو فيه، والتي أصبحت جزءً من عملية هدر الكرامة الانسانية بمجملها). وثمة صور متعددة لهدر الكرامة الإنسانية، توَّلد بمجملها شعوراً بأن الهيئات الدوليةأصبحت عنصراً في عملية الهدر، منها: تباين مصالح بعض الدول وهيمنة الأكثر قوة وتأثيراً، وتعدد أنظمة الفساد والاستبداد، وازدياد دور الطغاة، ونهب الخيرات والثروات داخليا وخارجياً، وعسكرة العالم والفضاء، والتسابق لتقديم العنف على السلام الدولي، والإستئثار بالثروة بدل التوزيع العادل، والشعبوية بدل العقلانية. ويظل اكثر أنواع هدر الكرامة الإنسانية بشاعة هو هدر كرامة الأوطان من قبل قوة خارجية، أو نشوب حروب داخلية فيها، أو الهيمنة الإقتصادية على ثرواتها ونهبها من قبل الطامعين في الخارج أو السلطات التسلطية المستبدة. والنموذج الاكثر فضاعة هو نهب للثروات ومصادرة الحريات ونشر الفساد وتغييب القانون تحت يافطة الديمقراطية والحرية والاشتراكية وفي هذه الحالة تهدر كرامة الوطن والمواطن معاً.
تشكل قوى الارهاب والتطرف الديني بممارساتها المختلفه ، والعصبيات الاقصائية،والسلطات التسلطية وتحالفاتها مصدرا رئيسا لهدر الكرامة . ونذكر أيضا من الظواهر التي ادخلت البلاد والعباد في دوامة هدر الكرامة تلك القوى الإيديولوجية العقائدية بتسمياتها المتعددة والتي اهتزت فكريا ومعرفياً مع الهزات والتغيرات الدولية، واصيبت بانفصام بين النظرية والتطبيق، وبشكل خاص تلك التي تمسك بزمام السلطة، وما اقامته وتقيمه من تحالفات فيما بينها أو مع قوى دولية وإقليمية. الهدر الأكبر لكرامة الفرد والاوطان هو القتل والإرهاب والتمييز والخوف والفقر والجوع والبطالة والجهل والانقياد ...كل هذا كابوس يلاحق الجميع حتى الموت. والاكثر تضررا وقهرا وهدرا لحريتهم وكرامتهم وانسانيتهم هم الأطفال والنساء وهم الأكثر استلاباً لارادتهم. تندرج المساعدات المقرونه بالتباهي في إطار هدر الكرامة بما تحمله من إذلال لهؤلاء المحتاجين. تشكل الحربان العالميتان، والحروب الأهلية في رواندا ويوغسلافيا السابقة، وحروب الابادة والتهجير والجوع في بلدان الثورات العربية وما نتج منها، نماذج حديثة فاقعة على هدر الكرامة الإنسانية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تقاعس المجتمع الدولى عن حماية الجماعات التي تتعرض للابادة هو تواطؤ على الكرامة الإنسانية.
تمثل مجتمعاتنا العربية واخرى مماثله لها في العالم نماذج واقعية لمعاينه المفهوم بسموه وهدره بعيدا عن فلسفتة ونظريته؛ فالواقع هو الاصدق وهو الذي ينطق بمضمونه إيجابا وسلباً؛ فالحروب، والإحتلالات، ونهب الثروات ، والاعتقالات، والتهجير، والاغتيالات، وسلب الممتلكات، والتعذيب، والتكفير، والقتل، وغياب القانون، والتهجير القسري،وإرهاق البشر بالضرائب، والحرمان من الجنسية ، وسلب الممتلكات، والسرقات، والسجن، والتمييز حسب الجنس أو العرق أو الدين ، وعدم احترام الاخر وعدم فهم الاختلاف. كل هذه نماذج من هدر الكرامة الإنسانية. يمثل التابعون المتسلقون الإنتهازيون ادوات السلطان وعيونه، بما يقومون به من افساد وتجني وبيع الذمم من اجل منافع صغيرة، يرونها بسبب ضعفهم وجبنهم كبيرة نموذج هدر مقيت لكرامتهم وكرامة الاخر ، المؤسف حقا أن بعضهم من أصحاب الشهادات الذين وجدوا ان رضا سيدهم أهم من الكرامة ،وأعتقدوا واهمين أنهم أصبحوا مكرمين بالمكان الذي اوصلتهم اليه وضاعتهم .
يضاف إلى هؤلاء نموذج سلوكي آخر للهدر من يعتقِلُ ويضطهِد ويقتل الاحرار باسم الحرية ، من يفرق ويشرذم باسم وحدة الأمة،من ينهب الممتلكات العامة باسم الاشتراكية ،من يزهق الارواح ويسبى النساء ويحرق الرجال ويفتتح دور الدعارة وجهاد النكاح باسم الإسلام وبناء دولة الخلافة ، من يستبيح الأرض ويقسم البلاد باسم الثأر للاجداد وإزالة المظلومية التاريخية عن بشر قضوا من قرون ، من يجعل الأعوج على اليمين اعوجاً على اليسار باسم التجديد. أن الفاعل والمفعول به مهدورا الكرامة.
أخيرا بين الهدر والسمو تشكل "الشعوب" عبر تطورها التاريخي خطاً بيانيا متعرجا صاعداً، محورة النضال لتحيق الحرية والكرامة وسيادة القانون والإنصاف، ولها بالشعوب التي حققت تقدما في هذا المجال عونا ونصيرا رغم مواقف انظمتها المختلف أحيانا. ويعتبر وعي مفهوم الكرامة الإنسانية مقدمة ضرورية لتحقيقها.
#رياض_الدبس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صناعة العنف والتطرف
-
من تعطيل الإصلاح إلى تعطيل الثورات
-
الثورات العربية وعقلانية التاريخ
-
قراءات في مفهوم الحرية
-
السودان العميق وضحالة البشير
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|