|
كناب مرقوم
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6850 - 2021 / 3 / 25 - 02:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كتاب مرقوم
من الأساليب المعرفية في إيصال الفكرة في القرآن الكريم خاصة إذا ما تم وطرح مفهوم أو فكرة غريبة أو حديثة أو مستحدثة، أن يباشر النص فورا في تحديد مفهوم عام لها أو شرح للمعنى الوارد، مثلا (إنا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر)، لم يترك النص القارئ أو المستمع للتأويلات خاصة وأنه يسمع لأول مرة بهذه الجملة، فيأتي الجواب سريعا (ليلة القدر خير من ألف شهر ....)، وكثيرة هي الأمثلة التي وردت في عموم بناء القرآن اللفظي مما يشكل سمة أساسية له تمنع الأعتباطية والتفسيرات والتأويلات من الذهاب بعيدا في فهم التساؤلات تلك. (كلا إن كتب الفجار لفي سجين) بهذه الآية تنهي سورة المطففين أول تحذير تطلقه بأستخدام عبارة التنديد والزجر (ويل)، بعد أن عرفت من قبل من هم المطففين محددة معيارا يعتمد على ثلاثة نقاط لفرزهم عمن كانوا محل الويل في السور الأخرى وفي أماكن عدة من أحكام القرآن ونواهيه، هذه المحددات الثلاث هي، أولا الاستيفاء إذا أكتالوا على الناس، ثانيا يخسرون الكيل والميزان وأيضا وعطفا على الآية التي قبلها على الناس، والملاحظ هنا أستخدام حرف الجر على بدلا من إلى لتوضيح جهة الاستيفاء والخسارة وكونها يتحملها الناس على كاهلهم بدل أن تكون إلى الناس من باب العدل، والنقطة الثالثة هي أن هؤلاء المطففون لا يدركون ويتعقلون ولا على سبيل الظن أنهم مبعوثون ليوم عظيم هو يوم الحساب الذي لا مفر منه حيث تقدم الحسابات النهائية عن كل ما كسبوا وأكتسبوا في حياتهم الأولى. هذه النقطة بالذات هي مفتاح لما يأت بعد ذلك من شروحات تولت الآية تقديمها عن كيفية وألية تحديد الحسابات الختامية للناس، فمن كان من الخاسرين فلديه سجل بأعماله لا يظلم فيها ولا يناله تحيز أو أنتقام بلا سبب، والفائزون أيضا لهم سجل أخر بنفس المواصفات وكلاهما محفوظ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، هذا السجل يسميه القرأن بالنسبة للذين خسروا أنفسهم وفجروا في الدنيا من غير أن يتذكروا لقاء الله وحسابه بــ (الكتاب المرقوم)، هذا الكتاب منه نسخة أخرى تخص الأبرار ع أختلاف النتيجة وأختلاف المكان والحال أيضا، لكنهم جميعا مرتبطون في مصيرهم بما في الكتاب المرقوم من أسرار وخبايا قد ينساها الإنسان أو يتغافل عنها لسبب ما أو علة ما. المهم في هذا البحث ما معنى (كتاب مرقوم)؟ خاصة وأن النص جاء بتعريف عام موضحا المكان سواء أكان الزمني التأريخي أو المكان الفعلي لـ (سجين) و (عليين) أنهم في.. وهذه الـ (في) وهنا تفيد معنى المحل والمكان الذي يحتويهما معا، وإن تناقض المفهومان من حيث الدلالة والهدف والواقع، فالكتاب معروف لا يحتاج إلى توضيح هو كل أداة تحفظ ما يكتب عليها أو يدون فيها سواء أكان ذلك حدث أو فكرة أو حساب، فالكتاب من المفهومات الواضحات التي لا تحتاج إلى تفسير، ومن صفات الكتاب أنه حيادي عن الكاتب والمكتوب له أو عنه، فهو كما قلنا مجرد أداة، إذا ما يحتاج لشرح هو كلمة (مرقوم) سواء أكان مصدر التسمية من الجذر (ر ق م) والرقم هو عددين معا أو أكثير يشيران إلى كمية أو قيمة ما، أو من خلال الجذر الأخر (ر ق م) بمعنى أغلق أو أحكم الغطاء. لو أستندنا في تعريف الرقيم على الجذر الأول أن هذا الكتاب هو يحتوي في مضمونه العام أرقاما وتواريخ وإحصائيات، هنا يتسق المعنى مع أحكام ودلالات أخرى وردت في القرآن منها (وكل شيء أحصيناه في كتاب مبين)، وأيضا (ما لهذا الكتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا ....)، فمعنى الإحصاء وارد وهو تسجيل كل ما يمكن أن يكون حدث فعلا خيرا كان أم شر، وأيضا يتوافق مع معنى الصغيرة والكبيرة التي يحصيها وهذين المصطلحين من مصطلحات القيم الحسابية التي يعبر عنها بأرقام أو رموز أو أي وسيلة أخرى. فالكتاب المرقوم أيضا يعني الكتاب المتسلسل الذي ينتظم بأرقام متسلسلة تبين تتابعه بأنتظام، فهو ليس عشوائيا ولا مجهول عدد أوراقه أو تسلسلها وفقا لما حدث واقعيا، فالمعنى متوفر هنا بل أن كل كتاب يحمل هذه الصفة يمكن أن نعتمده توثيقيا لأنه يعتمد التسلسل ويبتعد عن العشوائية أو الكيفية التي لا تحترم الإنضباط. أما لو أخذنا معنى المرقوم من الجذر الثاني والذي يفيد الإغلاق والأستحكام حفاظا على ما فيه فهو أيضا يتوافق مع المعنى العام، فالكتاب المرقوم بعد أن يغلق بنهاية حياة الإنسان الأولى ولا يفتح ولا يمكن أن يتلاعب بمضمونه حتى ساعة الحساب، وهذا المعنى متوفر في نسق الكثير من الآيات التي تشرح الموضوع منها وعلى سبيل المثال (ووجدوا كل شيء محضرا) وحسبهم أن ما في الكتاب ينطبق عليه صفة المحفوظ التي وردت بشكل مطلق في نص (كتاب محفوظ)، فكل ما يكتب أو يكتبه الله لنفسه أو بنفسه أو بواسطة الكرام الكاتبين ينطبق عليه صفة الحفظ لأن الهدف من كل ذلك تجسيد عدل الله المطلق وأمانة الكتاب. والجمع بين المعنيين ممكن بل واجب لوصف الكتاب إذا ما أخذنا المصاديق النسقية الي جاءت بها أيات القرآن لتوضح بشكل جلي وتام هذا المعنى المزدوج، وبالتالي فالكتاب المرقوم بالنهاية في كل ما دونه البشر بفعله وعمله وسلوكه في حياته الدنيا وما كسب وأكتسب دون أن يظلم شيئا، الفرق الوحيد بين كتاب الأبرار وكتاب الفجار في موضع الحفظ بين سجين وبين عليين وفي النتيجة التي يقودها حساب النتائج، فالأول يشير إلى الخسارة بكل أشكالها ليس في يوم الحساب وإنما حتى في الحياة الدنيا حين دلت محتويات الكتاب على أن ذلك جراء الكذب مع النفس والكذب والتكذيب بيوم الدين، كما جاء في مقدمة السورة (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون)، فالتكذيب هنا تكذيب بالحساب لذلك كانوا يخسرون ويستوفون على الناس، أي أنهم لم يؤمنوا بالعدل ولا بالميزان، هذا جرهم إلى مسألة نكران الحساب ونكران الميزان. النقطة الأخرى التي هي أن هذا التكذيب وإن كان إخلالا بالعدالة الطبيعية التي يجب أن يكون عليها الإنسان فهي أعتداء أيضا على قيم الوجود الضابطة وتخريبا لكل شيء جميل ومعقول ومفترض، لذا وصف الله هذا الأعتداء بأنه أثيم، أي مبالغا في إتيان الآثم الذي يشكل كما قلنا في مباحث سابقة مقدمة كبيرة للكفر بالوجود وأنتهاكا لمعادلات النظام الشمولي الذي يحكم الوجود، ومن صور هذا الآثم هو نزع الواقعية من أحكام الدين وحتميتها وجعلها في ظنهم مجرد أساطير لا أصل لها أو حقيقية واقعية تحكمها، هذا التحصيل ليس نتيجة موقف فكري ولا خيار عقلاني ولكن كما تقول الآية (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) إذا هذا الآثم نتيجة أعمال حسية أشغلتهم عن التفكير والنظر وحلت كمفردات ثقيلة على قلب الإنسان فغيبت إحساساته الطبيعية وذهبت به مذهب التيه والأستجابة للذاتية الأنانية المفرطة. هناك في ختام السورة مقارنة ومقاربة بين حاليين نتيجة ما كتب في هذا الكتاب وهو بالأصل كسب الإنسان في حياته، الحالة هذه تتعلق بظرفين حاليين منظرا لهما من ناحية الزمان فالأولى أوردها النص (إن الذين أجرموا كانوا من الذين أمنوا يضحكون) هذا الحال في الحياة الدنيا أضافة إلا ما يتعرض له المؤمنون من غمز ولمز وطعن بدينهم وعقيدتهم، وكأن المجرمون يملكون كامل الحقيقة، فيصفوا المؤمنين بأنهم صالون وما أرسل الله عليهم حافظين، والنتيجة التي يثق بها هؤلاء الفجار أنهم مطمئنون لذا فهم فكهون يتنعمون بما في الدنيا من نعيم وبما نسوا من أمر الحساب، هذا النعيم الذي يفتخرون به هو أصلا نتاج ظلم الناس بما كانون عليهم يستوفون ويخسرون الكيل والميزان، بمعنى أنهم أصلا يتنعمون بأغتصاب حقوق الغير التي لا بد أن تستوفى بالحق، وهذا أيضا ظلم لأنفسهم الفجار أن لم يدركوا الحقائق في وقتها ويتعظون أو يتقون. الحالة الأخرى في المقارنة هي حالة المؤمنين والمجرمين يوم الحساب (فاليوم الذين أمنوا من الكفار يضحكون) طبعا ليس أنتقاما أو تفشيا بل الضحك هنا علامة الفرح والفوز بالحساب، وتختم السورة عرضها بإقرار نتيجة منطقية لما في الكتاب المرقوم من حسابات ختامية تظهر أن الكفار لم يكونوا ضحية لأحد بقدر ما كانوا مصرين في حياتهم على الكذب والتكذيب برغم كل ما جاء من الله من دين أو من خلال أستغلال العقل كونه (الدين الأكبر) عند الإنسان الذي أنكر الثواب مهما كان شكله أو موعده، فالعقل السليم وإن كان بغير دين لا بد أن يؤمن بأن لكل شيء سبب ولكل شيء علة ولكل سلوك نتيجة ولكل مقدمة نهاية، هنا يختم النص الكامل للسورة بسؤال توكيدي من باب أستنكار السبب وهو (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون). إذا كل ثواب سلبيا كان أو إيجابيا في يوم المحاسبة والتدقيق وكشف المستور مرتبط أساسا بالكتاب المرقوم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقدمها لرب اليوم المعلوم، تنتهي وظيفة الكتاب هنا وتبدا وظيفة أخرى قد تعدل أو تبدل النتائج طبقا لمحددات خاصة منها العفو ومنها الشفاعة ومنها لطف الله، ولكن هذه الأمور لا تسجل بالكتاب ولا تحفظ لأن مجرد أستعراض ما فيه في المحاسبة ينتهي الكتاب كونه وجود مستقل، وتبقى ما بعد ذلك تقدير العزيز العليم.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بقايا رجل كان حبيبا
-
لكم دينكم ولي دين
-
قيامة الرماد
-
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ
-
خبز أمي
-
ليس بالخبز والعسل.. يحيا الإنسان
-
إن شأنئك هو الأبتر
-
قتل أصحاب الأخدود
-
واقع جديد
-
حوار مهزوم
-
الرحيل
-
الصمت الجليل
-
حب في الربع الخالي
-
أرقد بهدوء .... أيها الزمن
-
رواية (ماركس العراقي) ح 28 والأخيرة
-
تساؤلات كافر جديد
-
فلسفة عشق
-
حجارة الطريق
-
نحن لعبة
-
غرور إنسان
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|