|
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6847 - 2021 / 3 / 21 - 13:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سورة الماعون والأصح أن تسمى سورة المكذبون فهي تتحدث عن قضية مهمة من القضايا الأخلاقية والتربوية من مجمل لقضايا التي أراد النص الديني ترسيخها في الوجدان المؤمن، قضية الصفة والسلوك الإيجابي المطلوب تحققه أجتماعيا كقاعدة سلوكية تساهم في بناء مجتمع متوازن وإيجابي يصب في قضية الخيرية والأحسنية التي هي عماد كل دين وعقيدة وفكر يخاطب عقل الإنسان بغض النظر عن مستوى إيمانه، فالدين ليس فروض وطقوس مطلوبة لذاتها بذاتها بقدر ما تؤدي واجبا وظيفيا يرتقي بالإنسان الفرد والإنسان مجموع، من أهداف هذه السورة أن تبين للناس قيمة أعتبارية تتمثل في الشعور بالمسئولية تجاه الأخر الإنسان بغض النظر عن خلفية وعقيدة وأنتماء هذا الأخر. الدين وحده لا يعطي حصانة للمتدين ما لم يفرض عليه أن يكون متسقا ومماهيا لجوهر الإنسانية الطبيعية التي جبل عليها كونه كائن لديه شعور وأحاسيس وتفاعلات مع الوجود العام ووجود خاص ينتمي له، تبدأ السورة بسؤال أستنكاري أستفزازي لمن يظن أن الدين حصانته من أداء المفترض عليه، كما تطرح تساؤلا أخرا حول الذين يكذبون به، فالصيغة البنائية للسؤال وإن كانت توحي للقارئ أنها تقريع لمن هم على موقف التكذيب لكنها تشرح ومن خلال السياق مواصفات المتدين المطلوبة، فالدين أي دين كان يشكل جزء من شخصية الإنسان الطبيعية، وينفي النص أن عملية التكذيب خصيصة للكافر أو الملحد أو اللا ديني، فالتكذيب هنا موقف أخلاقي تام من قيم لا يمكن أن يقبلها العقل السليم على أنها موقف عقلاني أو له مبرر حقيقي، فقد يكون المكذب بالدين هو الأقرب إيمانيا من روح الدين وجوهره السامي. في السورة جاءت أحكام المكذب بالدين دون أن تصفهم أو تحدد معيار الإيمان لهم وبهم كونهم كفار، فهي تتحدث عن الإنسان الذي من تنطبق عليه الأمثلة الواردة فيها، ومنها مثلا ولا على سبيل التحديد جاء النص بواحدة منها (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، فكل إنسان بلا تحديد يدع يتيما دون أن يتحرك في طريقة المساعدة أو الدعم أو أداء الواجب الأخلاقي المثالي فهو مكذب بالدين حتى لو كان في أعلى درجات الإيمان كما يظن في نفسه، هذا الإطلاق يخرج الإيمان كمحدد من دائرة التوصيف ليدخل كينونة الإنسان كمعيار أساسي للتوصيف، وطبيعي أيضا من مفهوم ما جاءت به قصدية النص أن يكون المؤمن والمصدق بالدين هو في أعلى درجات المسئولية تجاه اليتيم كأفنراض لازم. التفسير والتدبر في هذه الآية ينتهي إلى نتيجة واحدة لا تقبل التثنية وهي أن من يدع اليتيم لا يمكن أن يكون مصدقا ومؤمنا بالدين مهما فعل أو أمتثل لمتطلبات الدين، بل العكس من ذلك تطرح فكرة مناقضة تماما أن من لا يدع اليتيم ليس مكذبا بالدين بالنتيجة وهو الأقرب له حتى لو كان خارج إطارية التدين، لأنه لم ولن يتخلى عن جوهر الإنسانية التي جاءت الأديان كلها لتدعمه وتجسده كسلوك وصفة وإحساس بالمسئولية، كما نلاحظ في الآية التي تليها والتي تتوافق مع نفس المنهج وبذات النسق الأخلاقي (وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، وقد يسأل أو يتعمد البعض على طرح أفتراض أخر مفاده طالما أن الدين ومن شرعه كما يقول المتدينون ونصوصهم وكتبهم هو الله، فلماذا لا يتولى هو مسئولية اليتيم ويوفر الطعام للمساكين وهو القادر على كل شيء؟. الجواب بمنطقية تامة أن الله أو من شرع الدين لا يمكن أن يكون بديلا عن الإنسان في وجوده ويخلس مسئولية البشر من ممارسة وظيفتهم الحياتية من خلال تدخله بكل شيء، ثانيا أن الفقر والمسكنة وغيرها من الأمراض الأجتماعية هي نتيجة إخلال البشر ذاتهم في الأستجابة لقانون الوجودية وللقانون الطبيعي الذي يحكم الوجود، وبالتالي فالمسئول عن هذا الخلل مأمور عقلانيا ومنطقيا في إصلاحه والأستجابة للقواعد الأساسية التي لو طبقت كما هي لم ولن يظهر أيا من الأمراض الأجتماعية التي يتحدث عنها الدين ويحاول أن ينبه الإنسان لخطيئته تلك، فالمكذب بالدين إذا هو كل من خرج عن وجوديته الطبيعية وطبيعته الوجودية التي أرادها الله له (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، فالظلم يبدأ من الإنسان وعليه وحده يقع عبء رفع الظلم وتحقيق العدالة وهذا هو جوهر الدين ومبتغاه الإجمالي. هذا التقديم والشرح الذي جاء مختصرا جدا ولكنه في المحتوى العام يشكل نظرية كاملة ومترابطة في فهم الدين ودوره في الحياة، معزز أيضا بتأكيدات تشرح وتوضح المقصد والغائية من هذا الطرح وأهميته، فقد أردف النص هذه النظرية بتقريع أخر خص به الزاعمين بأنهم هم وحدهم المصدقون بالدين، فيأتي النص نافيا زعمهم ويقول (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ) الذين يجعلون من صلاتهم عنوانا للتصديق، وكما قلنا أن الصلاة وإن قال المتدينون أنها عمود الدين ومظهره الحسي، لكنهم نسوا الوظيفة منها، فشرط الصلاة حتى تكون مصداقا لمن صدق بالدين هو أن تكون ناهية عن الفحشاء والمنكر والبغي وإلا لم تتم ولم تكن لا صادقة ولا مصدقة بالدين أو دالة عليه. فالصلاة بشروطها وأشتراطاتها وما ترتب على المصلي من واجب لا بد أن تكون إنسانية إيجابية خيرية مصلحتها ومصلحة أدائها تتعدى المصلي وتساهم في بناء الإنسان وبناء وجوده الصحيح، فليس كل صلاة ناهية عن الفحشاء ولا كل صلاة ناهية عن المنكر، فبعض الصلاة تكون وبالا على من يصليها وهو يعلم أنه يخادع نفسه أولا، وقد ضرب الله مثلا على ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ) و (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً)، هذه النصوص وغيرها تشرح للناس قيمة الصلاة التي تعبر عن تصديهم بالدين، وقد بينت النصوص هذا التوجه بجملة من الآيات منها (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) و (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) و (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) و (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ)، هنا الصلاة ليست فرضا طقوسيا يكشف هوية المصلي بقدر ما هي منهج إصلاحي للنفس البشرية وأداة من أدوات ذلك الإصلاح بالقدر الذي يتحقق مع زعم التصديق أو التكذيب بالدين. وتختم السورة نظريتها بنتائج مهمة على المصدق بالدين أن يفهمها وأن يتولاها بعين الأهتمام والتقدير وهي، أولا لا يجب على المصلي أن يتهاون في أدائها وفق المنظومة التعريفية لها وضمن وظيفتها الكبرى، ثانيا أن المصلي أن لا يجعل من صلاته عنوانا عند الأخرين ليوهمهم أنه مصدق ومؤمن بالدين، فكل صلاة لا تحقق الهدف منها غفلة أو تعمد هي رياء ونفاق وكذب على الله مهما كانت طويلة أو دائمة أو تبدو للغير خاشعة مخشعة للنفس، لأن من يقبلها ويقيمها ويعلم سرها هو من توجهت له أصلا، وهو بالتأكيد ليس غافلا ولا غائبا ولا جاهلا بما فيها من صدق أو كذب، بالنتيجة أنك أيها المصلي يجب أن تفهم حقيقة الصلاة وأن تقيمها وفقا للقانون الأفتراضي لها وهو أن تجعلك منك منن لا يدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين. في الآية الأخيرة من السورة كلمة الماعون والتي سميت كل السورة بها، قد فهمت خطأ أو كما يبدو أنها أخذت من المعنى المتعارف لها (الماعون) وهي كل مستلزمات البيت من أدوات الطبخ أو المؤنة أو ما يحتاج له كما ورد في معجم المعاني، والحقيقة أن الماعون هو أسم مشتق من كلمة (المَعْنُ) وهو كلُّ ما انتفعت به، قليلاً كان أَو كثيراً، وقد جاء الماعون أيضا بمعنى أخر وإن كان قريبا من الأول وهو (المَاعُون الانقيادُ والطاعة)، وأرجح أن الجمع بين المعنيين الأول النفع والثاني الإنقياد له هو المعنى القصدي في الآية، بمعنى أن النص ذم بالإضافة إلى ذم الساهون والمراؤون أيضا مانعي الخير كثيره أو قليله والطاعة والإنقياد لهذا الخير. بهذا الفهم يمكننا أن نحدد تماما مواصفات المصدقين بالدين من خلال تعرية الكاذبين به وفضحهم، وهي أولا مراعاة اليتم ومعالجة حالات التيتم وأسبابها لتخليص المجتمع من ظاهرة مرضية تؤثر في مستوى التوازن الأخلاقي والسلوكي فيه، وثاني إشاعة مبدأ التكافل الأجتماعي والتعاضد والتعاون برفع الفقر والمسكنة ومكافحة البطالة وظهور حالة التمايز الطبقي الحاد الذي يشكل خلل أقتصادي وأجتماعي يضرب المجتمع في صميم علاقاته الطبيعية، وثالثا تربية النفس البشرية للمؤمن على وجه التحديد من خلال وعيه بدور الصلاة وأهميتها ووظيفتها وجديتها والإتيان بها صادقا مخلصا، وأخيرا أن لا يكون الإنسان سلبيا في مواجهة أستحقاقات الخير وإشاعة العمل به والتقيد بكل ما يشجع على فعل الخير صغيرا كان أم كبير، قليلا أم كثيرا، المهم أن نفتح كل المجالات أمام الخير والصلاح والأحسنية لنكون ليس مؤمنين فقط ظاهرا، بل مصدقين بالدين وقيمه الأخلاقية العليا التي وجدت أصلا لتصويب مسارات البشر في الوجود حتى لو كنا لا نؤمن به أو نتقيد بالطقوسيات والعبادات الحسية المفروضة طالما أنها لا تفعل فعلها الإيجابي كما هو مفترض ومطلوب.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خبز أمي
-
ليس بالخبز والعسل.. يحيا الإنسان
-
إن شأنئك هو الأبتر
-
قتل أصحاب الأخدود
-
واقع جديد
-
حوار مهزوم
-
الرحيل
-
الصمت الجليل
-
حب في الربع الخالي
-
أرقد بهدوء .... أيها الزمن
-
رواية (ماركس العراقي) ح 28 والأخيرة
-
تساؤلات كافر جديد
-
فلسفة عشق
-
حجارة الطريق
-
نحن لعبة
-
غرور إنسان
-
ال هنا والطين
-
كلمات تشعر بالوحشة
-
شهرزاد وشهريار في الليلة قبل الألف
-
تعالي إلى جنتي
المزيد.....
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|