|
150 عاماً على كومونة باريس
ماهر الشريف
الحوار المتمدن-العدد: 6842 - 2021 / 3 / 16 - 11:29
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
خلال دراستي في باريس، في جامعة فانسين أولاً ثم في جامعة السوربون، أتيحت لي فرصة تلقي الدروس على أيدي مؤرخين بارزين مختصين بدراسة الحركات اليسارية والعمالية، تركوا أثراً كبيراً على تكويني العلمي والفكري، أذكر منهم مادلين ريبيريو، وكلود ويلار، وجاك كولان، ورينيه غاليسو، وجاك دروز وجان بوفيي.
وقد تابعت ضمن البرنامج التدريسي للأستاذة ريبيريو مادة عن كومونة باريس التي تجري التحضيرات في العاصمة الفرنسية حالياً، من جانب مجلس بلدية باريس وعدد من الجمعيات مثل "جمعية أصدقاء وصديقات الكومونة" وجمعية "لنجعل الكومونة تحيا"، لإحياء مرور 150 عاماً على قيامها.
لقد مثّلت كومونة باريس محطة بارزة في تاريخ الحركة العمالية والاشتراكية الفرنسية، وذلك على الرغم من أنها لم تستمر سوى تسعة أسابيع ما بين آذار وأيار 1871. وهي جاءت رداً على الهزيمة العسكرية التي لحقت بالجيش الفرنسي على يد الجيش البروسي في سنة 1870، وقيام هذا الأخير بحصار باريس، ولجوء حكومة أدولف تيير، التي انبثقت عن "الجمعية الوطنية" ذات الأغلبية الملكية التي تم انتخابها بالاقتراع العام الذكوري، إلى ناحية فرساي.
ففي 18 آذار 1871، وبعد أن أرسل تيير جيشاً مؤلفاً من 4000 جندي كي يسترجع 227 مدفعاً موّل شراءها الباريسيون للدفاع عن عاصمتهم في مواجهة البروسيين، ونصبوها في تلة مونمارت وفي بلفيل، اندلعت في باريس انتفاضة شعبية للدفاع عن هذه المدافع، شاركت فيها النساء بدور بارز، وفرض المنتفضون سيطرتهم على المدينة وأقاموا المتاريس في أحيائها، ودعوا في 26 آذار إلى انتخابات ديمقراطية شارك فيها أكثر من 230000 مواطن ومواطنة، ثم قام النواب المنتخبون في 28 آذار، بمشاركة الجمهور الباريسي الذي تجمع في ساحة أوتيل دو فيل، بإعلان قيام الكومونة، التي انتخبت مجلساً من 78 عضواً، كان من ضمنهم 33 عاملاً وحرفياً، وعشرة فنانين، من أبرزهم الرسام الشهير غوستاف كوربيه، وخمسة من صغار أصحاب العمل، وعدد من النساء، مثل لويز ميشيل، التي ترأست لجنة السهر على المواطنات في الدائرة الثامنة عشرة من باريس وعرفت باسم "العذراء الحمراء" وحوكم عليها، بعد القضاء على الكومونة، بالنفي إلى كاليدونيا الجديدة، واليزابيت دمترييف التي كانت موفدة كارل ماركس إلى باريس، وناتالي لومل التي ترأست اتحاد النساء من أجل الدفاع عن باريس ووقفت على رأس فرقة من خمسين إمرأة أقمن متراساً في ساحة بيغال رفعن عليه العلم الأحمر، وتوجهت إلى أفراد الحرس الوطني الذين كان من المفترض بهم الدفاع عن باريس بقولها: "إنكم جبناء؛ فإذا لم تدافعوا عن المتاريس، سوف ندافع عنها نحن النساء".
أما على مستوى الانتماءات السياسية، فقد كان بعض أعضاء مجلس الكومونة يعرّف نفسه بأنه من اليعاقبة الراغبين في إحياء تقاليد الثورة الفرنسية الكبرى، أو من الجمهوريين الثوريين، أو من الفوضويين أو "اللاسلطويين" من أنصار بلانكي أو برودون، أو من الأمميين المنتمين إلى"جمعية العمال الدولية" (الأممية الأولى) التي تأسست سنة 1864 وكان كارل ماركس من زعمائها.
كانت الكومونة تجربة لديمقراطية مباشرة قائمة على مواطنة تشاركية ونشيطة على مستوى مدينة، ولم يكن لها قيادة تراتبية؛ شهدت تشكّل عدد كبير من النوادي والجمعيات الشعبية، وطرح مجلسها برنامجاً سياسيا واجتماعياً وديمقراطياً قائماً على قاعدة الحريات، تضمن إلغاء الجيش المحترف الدائم، وقيام الشعب بانتخاب كوادر"الحرس الوطني" الذي كلف بحفظ النظام، وأصدر مراسيم قضت بمصادرة المنازل والمشاغل المتروكة، وتأجيل دفع ديون صغار المنتجين، وتطوير نشاط الجمعيات والمنظمات النقابية، وفصل الكنيسة عن الدولة، وتعميم المدرسة الحكومية المجانية، وضمان المساواة بين الرجال والنساء، والسماح للأجانب بالحصول على الجنسية، ومنع ظاهرة الدعارة.
بيد أن هذه التجربة الثورية الفريدة لم تستمر أكثر من 72 يوماً، إذ شرعت سلطات فرساي، منذ 2 نيسان 1871، في محاولات القضاء عليها، وهو ما نجحت فيه أخيراً خلال ما عُرف بـ "الأسبوع الدامي" ما بين 21 و 28 أيار 1871، بعد قيامها بشن حملات قمع وحشية، كان الرجال خلالها يعدمون رمياً بالرصاص على الجدران، وتقاد النساء إلى السجون، أو إلى معسكرات الأشعال الشاقة، بينما اضطر الناجون إلى الانتقال إلى المنافي. وتراوح عدد القتلى الذين سقطوا في ذلك الأسبوع ما بين 20000 إلى 30000 قتيل.
كان لتجربة الكومونة، وما تعرضت له من قمع وحشي، صدى دولي كبير، وخصوصاً وسط الحركة العمالية ومختلف الحركات الثورية الناشئة. فكارل ماركس الذي رأى فيها "الثورة البروليتارية الأولى"، تابع أحداثها باهتمام شديد، وأرسل موفدين من لندن إلى باريس لتتبع تطوراتها، كما تبادل رسائل من بعض وجوهها البارزين، وكتب مؤلفاً مخصصاً لها هو "الحرب الأهلية في فرنسا" صدر في سنة 1871. وبفضل تجربة الكومونة، عدّل ماركس مفاهيمه حول الدولة والسلطة، والاستراتيجية الثورية، وحول التعاونيات والحركة العمالية، وحول المسألة الفلاحية. كما أن الدور المهم الذي اضطلعت به النساء الباريسيات في أحداث الكومونة دفعه إلى أن يقترح تشكيل شعب نسائية في"جمعية العمال الدولية"(الأممية الأولى). من ناحية أخرى، انتقد ماركس بقاء الكومونة من دون قيادة، وعدم توجّه أنصارها مباشرة نحو فرساي، بحيث أضاعوا فرصة كبيرة وتركوا المبادرة في أيدي جيش فرساي، كما انتقد عدم قيام مجلس الكومونة بالاستيلاء على احتياطيات بنك فرنسا.
وختاماً، كتب المؤرخ الصديق روجيه مارتللي، رئيس "جمعية أصدقاء وصديقات الكومونة"، في مناسبة الاحتفال بذكراها المئة والخمسين:"لقد رسم الحلم معالم الممكن الملموس، متمثلاً في التجسيد المادي الأول لحكومة شعبية، على الرغم من أن الأمر تعلق بمشروع بدئي أكثر مما تعلق بمشروع منجز... فالكومونة أبهرتنا لأنها تجرأت ولأنها تحققت، لكنها أيضاً صارت مدعاة للتأمل لأنها انتهت بالإخفاق".
مراجع:
https://blogs.mediapart.fr/faisons-vivre-la-commune/blog/080321/marx-et-engels-sur-la-commune-de-paris-par-s-kouvelakis
https://www.humanite.fr/hors-serie-il-y-150-ans-la-commune-de-paris-lassaut-du-ciel-701094
https://www.lemonde.fr/idees/article/2021/02/28/roger-martelli-la-commune-de-paris-est-un-bien-commun-que-la-republique-se-doit-de-celebrer_6071443_3232.html
https://www.maisondulivre.com/list-87261/la-commune-de-1871-150-ans-deja/
https://faisonsvivrelacommune.org/
#ماهر_الشريف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فرنسيس المراش واحد من أبرز النهضويين الشوام
-
في ذكرى إعادة تأسيس حزب الشعب الفلسطيني
-
مناهضة التطبيع مع إسرائيل في دول الخليج العربي
-
هل يقبل العالم بعودة أميركا إلى قيادة النظام الدولي ؟
-
الانتخابات الفلسطينية: دوافعها، عقباتها وما هو المأمول منها؟
-
هل اقتربت نهاية حكم نتنياهو؟
-
موقف لا مسؤول: أين كنا وأين أصبحنا!!
-
انتفاضة أولى، وثانية وماذا عن الثالثة؟
-
زيارة بومبيو تنطوي على دلالات خطيرة
-
أي سياسة خارجية ستنتهجها إدارة جو بايدن؟
-
الانتخابات الرئاسة البوليفية عبرتان في ضوء فوز مرشح -الحركة
...
-
-انتفاضة الأقصى- فصل من فصول نضال فلسطيني طويل
-
عن التطبيع الإماراتي والبحريني مع إسرائيل
-
-لوموند- الفرنسية: -لم يبقَ أمام الفلسطينيين سوى النضال ضد ا
...
-
اتفاق لم يكن مفاجئاً، لكنه شكّل طعنة للفلسطينيين
-
جاك بيديه: الصراع الإيكولوجي هو شكل من أشكال الصراع الطبقي
-
مبدعو ومبدعات القدس المحتلة:-إحنا هون-
-
سيناريوهات أربعة للهيمنة السياسية على-عالم ما بعد كورونا-
-
لماذا أرجأ بنيامين نتنياهو تنفيذ مخطط الضم؟
-
بعيداً عن الأوهام: ما حقيقة الموقف الأميركي من مخطط الضم الإ
...
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|