كيف نحافظ على ثقافتنا؟

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)

الحوار المتمدن-العدد: 6835 - 2021 / 3 / 8 - 13:04
المحور: المجتمع المدني
    

تنتشر الثقافة في كل ركن من أركان منزلنا ومكتبنا وحديقتنا وتقريبا في كل إيماءة نقول بها تجاه أنفسنا والأخرين . الثقافة متأصلة في كل مفصل من حياتنا وفي سلوكنا وطريقة حديثنا ونبرة صوتنا . تشكل الثقافة التقاليد والمنظورات الثقافية والاجتماعية المحيطة بنا في كل مكان نعيش فيه حتى لو لم ننتبه إلى ذلك . وحيث أن الثقافة جزء هام من تكويننا الثقافي والحضاري ومظهر من مظاهر هويتنا ووجودنا يجب أن نحافظ عليها سليمة من الضياع أو الذوبان في الثقافات الأخرى . هناك خطوات يجب اتباعها للمحافظة على الثقافة ومنعها من الذوبان في غمرة الفيض الهائل من ثقافة الانترنت الغربية التي تجتاح العالم وبكل بيت وكل قرية في هذا الكوكب، متجاوزة الحدود والقيود والأعراف والتقاليد ، متوجهة نحو المراهقين للدخول في أعماقهم وتشكيل مستقبلهم وفق ما يريد أصحابها. أما الخطوات التي يمكن أن نقوم للمحافظة على الثقافة فيمكن تلخيصها بما يلي:
نشر الفنون والثقافة المحلية :
لكل ثقافة من الثقافات خصائصها ومزاياها تبدأ بالملابس الخاصة والموسيقا الخاصة والفنون المرئية وتقاليد رواية القصص ، ونوعية القصص ، والمفاهيم الثقافية والدينية الفريدة التي تميز مجتمع عن مجتمع آخر . وعلينا أن لا نخجل من ثقافتنا ولغتنا ونبرتنا الصوتية لأنها هويتنا التي نعتز بها ، وقد لا يتخيل الإنسان مقدار سعادة الآخرين عندما يطلع الآخرون على ثقافتك وطريقة حديثك وأعرافك وطريقة حديثك والحرف والفنون المحلية السائدة . يتضمن نشر الأعمال الفنية والقافة المحلية الأعمال الفنية التقليدية التي نجدها في العادة في المتاحف بالإضافة إلى الثقافة المادية السائدة بدءا من ملعقة المطبخ وانتهاء بطريقة إعداد الأطعمة وهي كلها مجتمعة قطع أثرية ثقافية .
لقد حاول الإنسان البدائي المحافظة على ثقافته من خلال النقش على الحجر وعلى جدران الكهوف والمنازل والمعابد ليوصل للأجيال التالية أننا مررنا من هنا ، والثقافة المحلية لا تتناقض ومعرفة أحدث فنون التكنولوجيا والذكاء الصناعي إذ يستطيع الإنسان أن يكيف ثقافته مع التطورات العلمية والتقدم العلمي وتطبيقات الذكاء الصناعي بأشكال مختلفة من دون أن تمحيها موجات الموجات التالية للثقافة الغريبة .
يمكن أن يقوم المرء بحفظ سجل نادر لأغاني والأهازيج الشعبية وأن يطلب من أولاده قراءة وتلحين الأغاني داخل المنزل في مسابقات ثقافية خاصة إذا كانت هذه الأغاني والأهازيج تستخدم المفردات والتراكيب المحلية المحكية .
حضور وتنظيم المهرجانات الثقافية المحلية :
من المؤكد أن كل مجتمع من المجتمعات في البلاد المختلفة يحتفل بمناسبات ثقافية واجتماعية ودينية وعرقية وقبلية مختلفة ، وحضور وتنظيم مثل هذه المناسبات يعطي منظورا أوسع عن الثقافة المحلية وطريقة التفكير ويذكر بها . يسافر الكثير من الأفراد إلى بقاع شتى في العالم لحضور مهرجات محلية غريبة عن ثقافتهم لتكوين فكرة عما يشعر به الآخرون وكيف يفكرون ويعالجون قضاياهم الكبرى والصغرى . لقد لعبت الأحداث والمهرجانات الثقافية والدينية والمجتمعية دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر بين الناس في أكثر من مكان من هذا العالم . وفد غامر كثيرون ،على سبيل المثال، بحياتهم للاستكشاف العادات والتقاليد للثقافات الأفريقية الموغلة في القدم والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم .
إحياء عادات الطبخ المجتمعية :
كم جميل أن يطبخ المرء الوصفات الغذائية والأطعمة التي كانت تحضرها الجدة . علينا أن لا ننسى أن الشم والذوق يقوي الذاكرة ويربط الإنسان بماضية القريب والبعيد . يمكن أن يستحضر الإنسان طريقة عجن العجين ، أو تخميس الكمية المناسبة من الملح أو السكر أو التوابل وطريقة التحريك أو التذويب أو تخمير الأطعمة أو تجفيفها أو طريقة تحضير السلطات و زيت الزيتون . عندما نتذكر الوصفة ونتعلم طريقة الاعداد وأدوات المطبخ وطريقة الطهي والتحضير والأواني الفخارية ، تصبح جزءا لا يتجزأ من ذاكرتنا الحية وننقلها بسهولة للأجيال التالية ونعلمها لأولادنا من دون وجل أو خجل .
هناك فرق كبير وبون شاسع بين تحضير السلطات على الطريقة القديمة التقليدية وفق أسلوب الأم أو الجدة وبين تحضير السلطات التي تحضر اليوم في منازلنا المترفة ، فالأم عندما تحضر سلطة البندورة مع الزيتون والنعنع والحامض كانت تستخدم مكونات البيت الأصلية البعيدة كل البعد عن التكنولوجيا ، وكانت تذهب لحديقة المنزل لتقطف حبات البندورة وقطوف النعنغ والبقدونس والتوابل المختلفة وحبات الحامض من مصادرها الطبيعية في حديقة المنزل ، وكانت تستخدم زيت الزيتون البكر ، وكانت نكهة سلطات الجدة مختلفة عن تلك التي نحضرها من مكونات قادمة من السوق .
حاليا يحفظ الانترنت سجلا كبيرا من الوصفات للكثير من المجتمعات يمكن الرجوع إليها وتحضيرها واستذكار الماضي البعيد والمحافظة عليه .
تنظيم اللقاءات والرحلات المجتمعية التي تحفظ الثقافة :
إن تنظيم اللقاءات والرحلات المجتمعية طريقة جيدة للمحافظة على الثقافة حية ومستمرة عبر الأجيال. يمكن البدء بتنظيم المجموعات لقضاء العطلات والنشاطات المجتمعية الثقافية المختلفة حيث يتعرف المشتركون في النشاطات على العادات والوجبات وطرق التفكير وأساليب الحوار وطرق حل المشكلات . هناك تفاصيل في الثقافة لا يمكن أن يتعلمها الفرد من مجرد زيارة المتاحف أو قراءة الكتب ، ويشمل ذلك الآداب العامة ولغة الجسد والفكاهة .
ويمكن أيضا تنظيم الحوارات الثقافية المجتمعية التي تناقش الأعراف والتقاليد والثقافة في المكان الذي ينتمي إليه الفرد ، ويمكن مقارنة الثقافة المحلية مع الثقافة الجديدة واظهار جماليات الثقافة المحلية وأهمية المحافظة عليها . يمكن الطلب من أي فرد مزدوج الثقافة أن يبين الفروقات بين الثقافات وطرق التعبير وأساليب الأدب والود الاجتماعي وفيما إذا كانت بعض التعابير العادية في سياق ما وقحة في مكان آخر ولما يحدث ذلك في اطار من التحليل العميق للتراكيب باستخدام علم اللغة الاجتماعي بهدف الوصول إلى جوهر التجربة الثقافية.
التعرف على التقاليد الدينية :
على الإنسان أن يحترم التقاليد الدينية في مجتمعه وأن يستحضرها متى حال الوقت لها . إن دراسة التقاليد الدينية المحلية تساعد الإنسان على فهم ثقافته وعاداته وتقاليد وتمكنه من المحافظة عليها من الاندثار . الدين في العادة مرتبط باللغة والثقافة والتاريخ والسلوك الشخصي للإنسان . إن تعرف الإنسان على دينه ودين عائلته واحترامه لها يساعده في فهم كل الجوانب الأخرى لمجتمعه . قد تبدو المراسم والتقاليد الدينية والنصوص المقدسة محيرة بعض الشيء وفي هذه الحالة يجب الاستعانة بمن يشرحها ويبسطها ويفكك رموزها لمن يجهلها .
التحدث بلغة الأسلاف وعدم محوها :
هناك من يخجل من التحدث بلغته الأساسية ولكنته الأساسية ولهجته الأم أمام الآخرين وفي البيئات المختلفة . إن تجنب الحديث بلغة الأسلاف أمام الأخرين ، من الناحية النفسية ، يعد نقطة ضعف أمام الآخرين ، ويعرض لغة الأسلاف للنسيان والضمور والاضمحلال . يركز علماء اللغة والأنثروبولوجيا على دراسة لغة الأسلاف وطرق المحافظة عليها وحفظها من الضياع لأنها تشكل بطريقة أو بأخرى تصورنا الكامل عن العالم . إن لغة الأسلاف تتضاءل سنويا وتتعرض للضياع وهي مزية فريدة يمكن أن يفاخر المرء بها لا أن يشعر بالمهانة تجاهها ، وهي من الأشياء الثمينة .
تتعرض اللغات لخطر الانقراض ، وعلينا كرجال معرفة وفكر أن نحافظ عليها سليمة من الانقراض وأن نروج لمحاسن بقائها لأن اللغة وعاء من أوعية الثقافة المهمة التي يجب ألا تختفي أو نضيع.
تدوين الثقافة :
يجب أن يعمل الإنسان على تسجيل كل مكتشفاته حول لغته من ألفاظ ومعاني نادرة من خلال الحديث إلى المسنين والأجداد مهما بدا الأمر تافها وصغيرا لأنها تنقرض برحيل مستخدميها وعلينا إجراء المسابقات العائلية حول معاني بعض المفردات الثقافية القديمة المتوارثة وعرض جائزة لمن يكتشف معنى تلك المغردات أو دلالات تلك المعاني حتى لا تضيع أو تنقرض برحيل مستخدميها.
ويمكن تدوين التاريخ الشخصي لأفراد العائلة من ذوي الخبرة والمعرفة والاطلاع على خلاصة تجاربهم في الحياة ومصادفاتهم في البيئة التي يعيشون فيها . وقد درج في بلدي سورية أن يقوم المسنون بتدوين تاريخ المنطقة ووقائعها على المفكرات الزراعية الصغيرة التي توضع في الجيب.
يمكن حفظ طرق وأساليب ووصفات الطبخ والأغاني والنكات وتقاليد العرس الشعبي أو أي موضوع ثقافي آخر بنفس الطريقة .
حاليا ، ونتيجة التقدم التكنولوجي العملاق وتطبيقات الذكاء الاصطناعي يمكن حفظ التراث والثقافة من خطوط وروايات وقصص شفوية على مواقع الويب أو الحفظ على أقراص مدمجة أو الغيمات الرقمية ومشاركتها مع جميع أفراد العالم المهتمين بالنواحي الثقافية وحفظ التراث الإنساني العالمي.
المقابلات الشخصية :
يمكن المحافظة على الثقافة المحلية من خلال إجراء مقابلات شخصية مع أشخاص مسنين يروون تاريخهم وتاريخ قراهم وأحياءهم وتجاربهم الشخصية وما جرى معهم من غرائب وقصص جرت معهم . يمكن تحضير مجموعة من الأسئلة الذكية المحضرة بعناية بحيث تحفز ذاكرة المسن وتشجعه على سرد أكبر قدر من المعلومات والقصص التاريخية والحوادث التي جرت في زمانه ويمكن حفظ وتسجيل هذه المقابلات على الوسائل الرقمية الحديثة التي تستوعب قدرا لا متناهيا من المعلومات . وبهدف التوثيق يمكن تشجيع المسن على تقديم ما يمكن تقديمه من وثائق وأسماء تفيد في التأكد من مصداقية المعلومات وحفظها في اطار الحفاظ على الثقافة المحلية من الضياع .
شجرة العائلة:
يمكن رسم شجرة العائلة لكل أسرة من الأسر بحيث يحفظ المرء ما يمكن حفظة من العائلات وثقافتها في البيئة المحلية . تحافظ شجرة العائلة على الثقافة المحلية متصلة غير منقطة وتساعد في فهم الثقافة مكن خلال علمي النفس الاجتماعي واللغة الاجتماعي ويساعد علما اللغة السلوكي والنفس السلوكي في فهم المسار الثقافي للعائلة وأفرادها. تشكل الثقافة المحلية جزءا هاما من تاريخ الأمة الكبرى وفي هذا السياق قد تخدم التفاصيل الصغيرة في تكوين صورة كبيرة مفيدة لحفظ الثقافة من الضمور والزوال والانهيار.
الدفاع عن الثقافة المحلية :
تحاول الثقافات الواردة عبر الانترنت والهواتف الذكية استيعاب الثقافات المحلية واحتوائها والغائها من خلال عادات ثقافية جديدة غامرة ، وتساعد تطبيقات الذكاء الصناعي الجديدة في إلغاء الثقافات المحلية عبر الأجهزة الجديدة وجعل كل غريب متاح للعامة قبل الخاصة . غالبا ما تحاول ثقافة الأقليات الكفاح لتمرير تقاليدها الثقافية وسط هذا السيل العارم من المعلومات الأجنبية الواردة . علينا أن نتشارك في مناقشة أفكارنا الثقافية المحلية مع الآخرين وبيان جمالها وروعتها وفرادتها وغرابتها وضرورة المحافظة عليها سليمة معافاة في مواجهة الصراعات السياسية والثقافية والتحديات الاجتماعية ، وعلينا أن نظهر للعالم جمال قيمنا الأساسية ، وأن نلهم الآخرين لإبقائها حية مزدهرة .
قبول التغيير:
دائما يبدو الحوار حول الثقافات المحلية عرضة للهزائم ومحفوفا بالصعاب . المؤكد أن الثقافات المحلية معرضة للخطر وتحتاج أن نحافظ عليها قبل أن تنقرض أو تزول أمام الثقافات الواردة . هناك تحديات وتهديدات كثيرة للثقافة المحلية . إن حفاظنا على ثقافتنا المحلية لا يعني رفض الثقافات الواردة ولا يعني أن قبول الثقافات الجديدة أمر سيء إذ ليس كل جديد سيء وليس كل تغيير سيء. الثقافات تتكيف مع بعضها دائما . المهم أن نحافظ على ثقافتنا وتقاليدنا من الانقراض .
تحاول المجتمعات المحافظة على ثقافتها المحلية ومنعها من الضياع وتحاول أيضا عقد التجمعات واللقاءات التي تمارس فيها تلك العادات والتقاليد بدءا من الهنود الحمر مرورا بالغجر وانتهاء بأكثر المجتمعات تقدما. ومتى ضاع الوعاء الثقافي الذي يحتوينا طوانا النسيان بعوالمه وفقدنا تاريخنا وبقايا صورة الجميلة .

#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات