|
اغترابات خارج السور:اللاهوتي..الاقتصادي..السايكولوجي.
ماجد الشمري
الحوار المتمدن-العدد: 6830 - 2021 / 3 / 3 - 17:40
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
"قد قيل الغريب من جفاه الحبيب،وانا اقول:بل الغريب من واصله الحبيب،بل الغريب من تغافل عن الرقيب،بل الغريب من حاباه الشريب،بل الغريب من نودي من قريب،بل الغريب من هو في غربته غريب" -ابوحيان التوحيدي-
"الاغتراب"..ب"أل"تعريف كبيرة،هو ظاهرة انثروبولوجية محض،حالة او وضع انساني بأمتياز.رافقت وباطنت الوجود البشري منذ بدء تاريخه.عندما انتصب الانسان قائما،واستخدم يديه لصنع ادواته،ونطق بأول كلمة ليعبر عن نفسه.ويمكن القول:ان تاريخ الانسان هو في نفس الآن تاريخ اغترابه عن عالمه الحيواني وكجزء من الطبيعة انسلخ عنها ليواجهها بذاتيته الجديدة ووعيه المتشكل.ونستطيع القول،وبلا مبالغة:ان الانسان حيوان اغترابي.بل واكثر من ذلك،ونذهب بعيدا في الافتراض ونقول ب:بايولوجية اغتراب الانسان،منذ مغادرته عالمه الحيوي المظلم،والذي احتضنه لشهور تسعة،خارجا من كهفه الرطب الدافيء الى عالم غريب بارد وقاسي.ومن هنا تبدأ رحلة اغترابه طوال فترة حياته:انطولوجيا، وميتافيزيقيا،ولاهوتيا،وسيسيولوجيا،وسايكولوجيا،وبكل ابعاد وجوده وحياته القصيرة المحدودة،والتي تنتهي بلا منطق او معنى،بالموت.. نطرح اسئلة متداعية تتناسل،برسم التفكر والتأمل اكثر من الاجابة،وخارج الانساق المعروفة.فماهو الاغتراب؟.ماحقيقته؟.ماهيته؟.جذره وعناصر تشكله؟.ماهي العلل التي تسببه؟.ماهي العوامل التي يتكشف من خلالها ليكون جزءا من بنية الانسان:العقلية والفكرية والنفسية؟.هل هي ميتافيزيقية-لاهوتية كأصل لتخلق الكينونة؟!.هل هي تاريخية-اجتماعية-اقتصادية-سياسية،وتتغير حسب الظروف المحددة للازمان والامكنة،وهي طارئة وقابلة للزوال بأختفاء عللها؟.هل هي سايكولوجية تغوص عميقا في اغوار النفس البشرية وغرائزها الدفينة،وتتجلى على السطح كدوافع للسلوك اللامألوف والرغبات الخفية؟.ام هو لايقتصر على عامل واحد مما ذكرنا،بل يحتويها كلها وغيرها مجتمعة؟. وعلى مستوى آخر من طرح الاسئلة كتأمل وحوار داخلي ذاتي صرف،نسأل:هل الاغتراب تجريد نظري يقبع في اذهان النخب الفلسفية والفكرية،ويروج من قبل المثقفين المتلقين الحالمين ولا اساس له على ارض الواقع العياني الاجتماعي الخشن؟!.ام هو على العكس،واقع غليظ متجذر يلطم العقول المتفلسفة ويهزها لتقرأه بدقة،ويفقأ عيون التعالي التجريدي النظري الفردي بتحديه لفهمه وتفسيره؟.هل الاغتراب هو مجرد خطاب المختلف،وميزة المتمرد،ولعبة هلاوس واستيهامات،واضطرابات عصبية؟.ام العكس تماما،هو رصانة عقلية ترصد ظاهرة الاغتراب بتجاذب قلق بين قطيعية بلا ملامح او روح،وبين الحملان السوداء الضالة والمارقة والباحثة عن ذاتها ومغزى وجودها خارج الاطر والمعايير المتكلسة؟.هل الاغتراب مرض انساني-سايكولوجي مزمن لاشفاء منه؟.ام هو مرض الانظمة الاجتماعية-الطبقية التي تستغل الانسان وتقمعه وتغربه عن جوهر وجوده،ومن الممكن،بل من الواجب السعي من اجل التغيير والتحرر والشفاء من الاغتراب؟.هل الاغتراب هو جزء من البنية التكوينية للانسان بعد خروجه من عالمه الطبيعي-الحيواني،وارتقائه بالعقل والوعي وبناء الحضارة،والاغتراب هو ثمن الانجاز والتطور؟.هل هو ظاهرة عارضة وتاريخية،وقابلة للتلاشي والزوال مستقبلا؟.هل الاغتراب جزء من آلية دفاعية،ومتراس اخير للمواجهة المتفاوتة بين الفرد الانساني الاعزل،وبين الضغوط والتناقضات والصراعات التي تسحقه داخل المجتمعات في حراكها وتحولاتها المحتدمة؟.هل الاغتراب ضرورة-بمعنى حتمية تعرض الانسان له-،نتيجة،افراز،لامناص منه؟.ام هو نفاية ايديولوجية-ثقافية، وقيح رأسمالي يلوث روح الانسان وطبيعته الحقة؟.ام هو بطر نخبوي برجوازي يملأ فراغ حياة قاحلة لتستمتع بقلقها ووحشتها وافتقارها للمعنى،وسيكنسه المجتمع الجبار المتماسك والمحافظ على نظافته بمكنسة التطبع والعادة المستقرة، والرتابة اليومية،ليحافظ على جماعيته-قطيعيته من كل مروق او شذوذ؟!.كل هذا واكثر مطروح للتأمل والتسائل والفحص والدراسة والبحث الملح عن صيرورة ظاهرة الاغتراب،ومضيها نحو منافذ لتخفيف حدة وعسر حالة الاغتراب بكل التهابها وتشظيها على اقل تقدير.دون الكف والسعي من اجل ازالة كل مايعيق زوالها في كل المجتمعات. انهمار وتداعي الاسئلة،الصحيحة منها والخاطئة،الذاتية منها والموضوعية،المنطقية الجادة و السفسطائية الهازلة لايتوقف.وبين مطرقة توكيد وتحقيق الذات،وسندان الضغوط والكبت الاجتماعي والنفسي يصنع الاغتراب للفرد المستلب جحيمه الدنيوي الخاص.فالاغتراب كما يتوهم او يعتقد المنخلع الفردي ،هو دليل صحة عقلية واستقلال فكري،وتميز وتعالي على ثقافة وقيم القطيع،ولكن شقاءه يأتي من فرديته المعزولة والمحاصرة والمرفوضة من الاكثرية لكل آخر غريب.فهم عبارة عن جزر صغيرة عائمة وسط محيط متلاطم من البشر التافهين المنجرفين كأمواج متشابهه مكررة غبية!. هل الاغتراب نخبويا متعالما فرديا؟ام هو اجتماعيا شاملا افرادا وجماعات حيث يجري تسليع كل شيء حتى الانسان؟!.الاسئلة التي طرحت كلها صعبة ومعقدة ومن العسير الاجابة عنها،ولكننا سنحاول ان نسلط بعض الضوء على جوانب واجزاء من تلك الظاهرة المتعددة الوجوه والدلالات والتي لايمكن بلوغ ضفافها،وتحديدها الدقيق،وفهمها الشامل بكل ابعادها-ناهيك عن تفسيرها وحلها-وسيقتصر تناولنا المتواضع على ثلاث قامات متميزة:فلسفية،وفكرية،وسايكولوجية،تصدت لاشكالية الاغتراب وحاولت تحليله واعطاءه التفسير المناسب،كما افترضت وتصورت. وهم:فيورباخ،وماركس،وفرويد.دون ان يعني ذلك انهم وحدهم من درس وبحث وحاول فهم ظاهرة الاغتراب .فهناك الكثير من المفكرين من بحث و كتب عن الاغتراب منهم:هوبز وروسو وفيخته وشيلر وهيجل وفيورباخ وماركس وفرويد ودوركايم،وخاصة ماركس الذي كان ماكتبه هو العامل الرئيسي في تسليط الاضواء وجذب الانظار لظاهرة الاغتراب رغم انسانية الظاهرة وشموليتها التاريخية.وكل من زاويته ووجهة نظره.فالاغتراب كما ذكرنا صاحب الانسان منذ فجر التاريخ ،وقد وردت اشارات ونصوص دالة على الاغتراب في الكثير من الكتابات الفلسفية و الدينية القديمة،وكان ذلك الرصد ينطلق من الاسس الغيبية الاسطورية والدينية والفلسفية،كما في سفر التكوين،وسفر الجامعة مثلا -ويمده البعض الى فجر اليهودية،والى ابراهيم بالذات،كأنسان بلا اسرة او بيت او ارض او وطن او دين،والذي انتهت غربته بأمتلاكه ارض غريبة لغريب!-.،وفي الميثولوجيا اليونانية،وشذرات الفلاسفة في اليونان.ليتطور لاحقا-مفهوم الاغتراب- في الازمنة الحديثة والمعاصرة،بأعتماده على عناصر الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي في العصر الرأسمالي الحديث بعد الثورات الدينية و الفكرية والسياسية والعلمية-الصناعية-التكنولوجية الظافرة،والتي قلبت الكثير من الافكار والمفاهيم الثقافية والقيم الاجتماعية والاخلاقية.ولكن تبقى ظاهرة الاغتراب ظاهرة انسانية-اجتماعية-نفسية قديمة وجدت في كل المجتمعات والثقافات والاديان،لتصبح عنوانا كبيرا،ومطروقا في الكثير من البحوث والدراسات الحديثة في الفلسفة والاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس وغيرها من العلوم الانسانية بعد العصر الصناعي والتكنولوجي،والتقنيات الدقيقة التي ضاعفت وكثفت من حدة واتساع وتعقد ظاهرة اغتراب الانسان وضياعه بابتعاده عن طبيعته الانسانية النوعية.فالاغتراب مفهوم تعددي ومركب،بل ومتنافر وتناقضي،وله سمات ووجوه تتمظهر بأشكال مختلفة،وفي نفس الوقت بينها صلة قربى ووشائج حميمة وتشابه في المسارات والتعبير. هناك ملاحظة يجب الانتباه اليها حول موضوعة الاغتراب،وهي:اننا يجب ان نفصل ونفرق بين:تاريخ الاغتراب كمفهوم تاريخي ونظري جرى تدواله في النصوص والمدونات الفلسفية-المعرفية لدى الفلاسفة والمنظرين والمفكرين الذين طرقوا باب الاغتراب كمادة خضعت للتأمل والدرس والمعاينة وفق رؤاهم وتصوراتهم،وبين تاريخ الاغتراب نفسه كظاهرة وجودية ملموسه وحاله وشعور ومعاناة ووضع انساني مختل او مشروخ لدى الافراد والجماعات..ومايهمنا ليس تاريخ الاغتراب وتجلياته عبر تاريخ البشر،بل مفهوم الاغتراب عند من اخترناهم لبحثنا المتواضع هذا.واختيارنا ل:فيورباخ-ماركس-فرويد لم يأتي اعتباطا لاعلى التعيين،بل هو انتقاءا واعيا ومقصودا لنوعية وعمق وتميز وقيمة كتاباتهم،وتعدد زوايا معالجة كل واحد منهم،واختلافهم النظري -الاجتهادي في تحديد علة الاغتراب الانساني في عصورنا الحديثة،ومدى التفاوت والتباين العقلي-الفلسفي-الفكري والتاريخي لاطروحة كل منهم،وتميزها وفرادتها.وقبل البدء بتناول افكار ورؤى الاعلام الثلاثة وعرض مفهوم الاغتراب كمارأه كل واحد منهم،يجب ان نأخذ اولا فكرة عن المعنى اللغوي-الحرفي والاصطلاحي لمفردة"الاغتراب" الاغتراب-الاستلاب-الانخلاع- الانسلاخ-الانفصال-الفقدان ،وغيرها كلها مترادفات ترجمت الى العربية باجتهادات المترجمين.ولكنها تصب وتنهل من منبع واحد الا وهو:مصطلح الاغتراب بلا خلاف.عندما نبحث في الانسيكلوبيديات والمعاجم عن معنى واصل كلمة "الاغتراب"فماذا نجد؟.في قاموس اكسفورد:انكليزي-عربي نجد لمصطلح"alienation"اشتقاقا من الصفة"alien"ومرادفاتها:غريب-اجنبي.اما الفعل"alienate"فمعناه:يبعد،او يبتعد عن،اويفقد الصلة.والترجمة الحرفية ل"alienation"هي:ابتعد او ترك او نبذ او تحول او اغترب عن الوسط المتجانس من المجتمع.والاصل الذي اشتقت منه الكلمة الانكليزية"alienation"هي الكلمة اللاتينية"alienatio"كأغلب المفردات في اللغات الاوربية المتفرعة او المشتقة من اللغة الاصل-الام اللاتيني.وهذا الاسم يستمد معناه من الفعل"alienare"الذي يعطي نفس المعنى في اللغة الانكليزية.وهذه المفردة اللاتينية مأخوذه بدورها من كلمة لاتينية اخرى هي"alienus"وتعني:الانتماء للآخر او الذي لايملك ذاته.وهذه الكلمة الاخيرة هي ايضا مشتقة من كلمة لاتينية تسبقها،وهي جذر واصل الاشتقاق:"alius"والتي تعني حرفيا:الآخر او كل ماهو غير او خارج الذات. وهكذا نجد مفردة الاغتراب واشتقاقاتها تدور حول معنى واحد متفرع بين الانفصال عن الذات او الانسلاخ والذوبان في الاخر ،وبين الابتعاد والهجر للجماعة والتفرد لدرجة الشذوذ والغرابة.اما معنى الكلمة الحرفي في اللغة العربية،واستنادا الى لسان العرب وبقية قواميس اللغة العربية الاخرى المعروفة فهي تعني:الغربة والاغتراب،ولها اشتقاقات عديدة ومتنوعة.ففي باب:غرب.نجد،الغرب:التمادي بمعنى الالحاح،واستغرب الرجل: اذ تمادى في الضحك.والغرب:المغرب والغروب:غياب الشمس،والغربة والاغتراب عن ،ومن الوطن.وغرب الرجل عنا،يغرب غربا،اي تنحى.واغربته وغربته:اي ابعدته.والغربة:النوى البعيد،ويقال شقت بهم غربة النوى،واغرب القوم:انووا.والغريب:هو الغامض من الكلام.وغربه وغرب عليه:تركه بعيدا.والغربة والغرب:النزوح او الهجرة عن الوطن والاغتراب عنه.وهكذا كما نرى،تتعدد وتتكاثر المعاني اللغوية-الحرفية،واشتقاقاتها بصيغ ودلالات متقاربة،وتدور حول المعنى الاساسي للغربة والاغتراب وما في فلكها من معاني لاتبتعد كثيرا عن جذر الكلمة وتفرعاتها.وتحيل ايضا الى معاني حسية وعلائقية وفعلية،وتراوح بين :ترك الوطن،والبعد عن الاهل،والانفصال او الانسلاخ عن القبيلة،وكلها حالات ومواقف تترك ندوبا روحية،وتصدعا نفسيا مدمرا،ومعاناة دائمة.فالبعد والابتعاد المادي عن القريب والحبيب والاهل يسبب قلقا وحزنا واحساسا بالضياع والفقد،ونوستاليجيا مرضية لما مضى من ذكريات واحوال،وشوقا حادا الى الوطن والمنزل والخلان والاصحاب واماكن الطفولة والصبا. وطبعا هناك فروق في الاستخدام بين اللغات الاجنبية وبين العربية،حيث نرى الجانب البياني والوصفي الخارجي للبيئة والقيم العربية،مدار معنى الاغتراب في التداول،في حين ان مفهوم الاغتراب لدى الغرب اكثر عمقا في الدلالة فلسفيا وسايكولوجيا واخلاقيا..هذا عن المعنى الحرفي-اللغوي للاغتراب.اما عن المعنى الاصطلاحي المتداول للاغتراب فهو اكثر تشعبا،واوسع واكثر تمددا وتعقيدا.فمقهوم الاغتراب اصطلاحيا هو متعدد في دلالالته وصوره وعلله،تبعا لتطور الوضع البشري وظروفه المتحركة،ومتغيرات الازمنة والمستجدات المصاحبة.ويبقى مصطلح"الاغتراب"هو الاكثر تداولا في المدونات والادبيات الحديثة والمعاصرة لدى الفلاسفة والمفكرين،وخاصة في المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا ومعرفيا.وقد كتب الكثير عن مفهوم الاغتراب وغموضه ولبسه باللغات الاجنبية،وعن حقيقته وتجلياته المتباينة في شتى الحقول والمجالات:في الفلسفة،والفلسفة السياسية،وعلوم الاجتماع،والانثروبولوجيا،وعلم النفس بشتى فروعه،الخ.لكن اللافت وبالرغم مما كتب ونشر عن موضوع الاغتراب الا انه ظل موضوعا شائكا وملتبسا وخلافيا لما يكتنفه من غموض وعسر التحديد والفهم.فنجد كل فيلسوف او مفكر او باحث في شأن الاغتراب يرسم وجها واحد له ومنه ويهمل وجوهه المتعددة الاخرى.وكل يبني اطروحته وتفسيره بأحادية وبعد واحد ويترك ابعاده العديدة الجامحة العصية على الترويض والتقنين و التقعيد.ولكن غموض مفهوم الاغتراب هو امر طبيعي لموضوع اشكالي بحجم ظاهرة الاغتراب،الذي هو في جوهره "اغترابات" لااغتراب واحد.ومن هنا تعدد التعريفات الاصطلاحية الاساسية له.وايضا توازيها او تقاربها.فكلها تدور في محيط دائرة الاغتراب المركزية،والتي لم تكن مكتملة العلمية او دقيقة او شاملة ووافية الاحاطة لكل جوانب اشكالية الاغتراب.وايضا سعة التباين والاختلاف في التحليلات والتفسيرات والتصورات،بل وهناك تضارب وتناقض في تحديد مشترك لعلل وخلفيات الاغتراب ثقافيا واجتماعيا وانسانيا وسايكولوجيا.فقد التفت حول مفهوم الاغتراب وتماهت به عناصر كانت تضخمه وتوسعه بحمولات جديدة،مثل:الانسلاخ الاجتماعي او العزلة،والعجز عن الاندماج،والانعزال عن الهوية الثقافية الاجتماعية السائدة،وغياب التكيف،وانطفاء الانتماء او الارتباط مع الجموع،وتلاشي المعنى او انعدام المغزى من الحياة والوجود برمته..والانفصال ،الانتقال،وموضوعية وجود الآخر امام ذاتية الفرد المغترب،الانسحاق الذاتي بمواجهة جبروت السلطة،انحطاط المعايير والقيم..ومانجده في الانسيكلوبيديا البريطانية الجديدة هو مقارب لدلالات ومظاهر الاغتراب مع تفصيلاتها:العجز والاستسلام،وخضوع الفرد لقوى خارجية قدرية غريبة تنفي حرية الفرد المغترب،وفقدان المعنى،وصعوبة فهم وغرابة الطبيعة والعالم والمجتمع،تفاهة وعبثية الحياة الاسرية،والتحلل من القواعد،ورفض القيم الاجتماعية السائدة،،والتمرد على السلوك النمطي الاجتماعي،والاستهانة بالعادات والتقاليد،والغربة الثقافية عن الذات،وانفصام الفرد عن الاسرة والمجتمع،والانسلاخ او الانخلاع عن الاسرة والاقران والمحيط الاجتماعي،وهذا ينطبق ايضا على الاقليات العرقية والدينية،والمرأة من عزلة اجتماعية لتلك الاقليات والفئات،والغربة الذاتية الفردية الدائمة،وتقوقعها في عالم وحيد مهجور ومظلم،الاستياء،التذمر،العزلة،الاحباط،الخ،قد يبدو تعدد المعاني متكاثرا،ولكن تضمه وحدة واحدة،والفوارق بين المعاني تبقى هامشية ومترادفة وثانوية وطرفية في حلقة الاغتراب الجامعة..فالاغتراب هو بحر بلاضفاف ،وتضاريسه بلا تخوم!. بعد مرورنا المقتضب على المعاني اللغوية -الحرفية والاصطلاحية للاغتراب،والتي هي قطعا غير وافية او معبرة عن الماهية المطابقة لطبيعة الاغتراب بسبب عائق اللغة والتصور.نستعرض بعجالة مفهومه لدى فيورباخ اولا.(لودفيج اندرياس فيورباخ/ولد في بافاريا-مدينة لاندسهوت عام1804وتوفي في نورنبرغ-قرية رخنبرغ عام1872/وهو فيلسوف لاهوتي تحول نحو الفلسفة الطبيعية-الانسانونيةhumanismمتخليا عن الدين كأيمان،متخذا منه مادة للدراسة والنقد والتأمل.تأثر به اغلب الهيجليين الشباب-وهو منهم-ك:برونو باور،وماكس شتيرنر،وارنولد راغه،وديفيد شتراوس،وابرزهم:كارل ماركس الذي قال عنه:"لقد كان قناة النار حقا".-كما يدل اشتقاق اسم فيورباخ بالالمانية-feuer( bach)feuer=نار وbach=قناة)تلك الحمولة المجازية ودلالاتها الرمزية المعبرة كأشارة للمطهر!.صدق ماركس بنعته قناة النار-القناة التي عبر منها ماركس وانجلز من المثالية الهيجيلية الى المادية:ديالكتيكيا وتاريخيا-مطهر النار الذي حرر ماركس من هيجل، والهبوط من السماء الى الارض،ومن هيجل الى ماركس كان لابد من المرور عبر فيورباخ،على حد قول انجلز الذي قال عن فيورباخ معبرا عن اعجابه به:"صرنا جميعا فيورباخيين دفعة واحدة وكان لكتابه-يقصد جوهر المسيحية،م.ا-تأثيرا محررا،وكسر تعويذة هيجل".ولان موضوعة الاغتراب هي أس بحثنا فسنقتصر هنا على ماطرحه فيورباخ من رؤيته للاغتراب كأغتراب(لاهوتي).وبالتحديد ماورد في كتابه القيم والمتميز:"جوهر-ماهية المسيحية"عن المسيحية بشكل خاص والدين بشكل عام،والذي نشره عام1841ومضمونه هو الاغتراب الديني الذي خضع له الانسان المسيحي بتغريبه لذاته في آخر وهمي.فاغتراب الانسان لاهوتيا هو العنصر الاساسي في مذهب فيورباخ المادي-الطبيعي،وفي الوقت نفسه هو ايضا:نقد جريء لاستلاب ماهية الانسان الجوهرية الناجمة من التغريب اللاهوتي.فالبؤس الانساني الارضي هو الذي يولد الله السماوي،ومن ثم الله-الانسان المتجسد.فجوهر وحقيقة الدين،ومعناه الباطني العميق هو الجوهر الانساني المحض.ينبغي ان تكون السياسة ديننا،والغاء حياة متوهمة افضل في السماء يستلزم حياة حقيقية افضل على الارض،تجعل من حلول مستقبل افضل لاموضوعا لايمان اجوف وعقيم،بل الزاما وسعيا وواجبا على الانسان برسم التحقيق الفعلي على الارض.فسر اللاهوت يكمن في الانثروبولوجيا،وان سر الكينونة الالهية يكمن في الكينونة البشرية.فالدين يجعل الانسان غريبا عن ذاته،غريبا عن الطبيعة،غريبا عن الاخرين من بني جنسه،مستلبا بتجريده من طبيعته الجوهرية الحقيقية والطبيعية.وفيورباخ في كتابه"جوهر المسيحية"كان واضحا جدا في تصوره بأن الدين يشتمل على قلب العلاقات بين الذات والموضوع،يتحويلها للانسان من خالق الى مخلوق نتيجة استلاب وتغريب الصفات السامية للجنس البشري والصاقها بمخلوق خيالي-طيفي هو(الله).وفي"اطروحات حول اصلاح الفلسفة"1843و"مباديء فلسفة المستقبل"1844أكد فيورباخ بأن للفلسفة المثالية ايضا نفس طابع ومحتوى الدين ومنهجه.اذ ان الفكرة التي هي نتاج الدماغ البشري،تتحول الى ذات خالقة وناظمة للعالم عن طريق قلب مماثل للعلاقات بين المسند والمسند اليه،بين الذات والموضوع-وان كان هذا التأكيد لفيورباخ بشكله شبه ميتافيزيقي،وليس تاريخيا كما سيفعل ماركس لاحقا-وفيورباخ يعتقد ان الاغتراب الحقيقي يكمن في جوهر فلسفة الدين،ومعنى ذلك ان الاغتراب الديني هو الاصل في كل اغتراب سواء اكان:انطولوجي او فلسفي او اجتماعي او سايكولوجي-هنا يعترف فيورباخ بأن الاغتراب الديني ليس هو الاغتراب الوحيد،ولكن الاساسي،م.ا-..هذا الانسلاخ لطبيعة الانسان الجوهرية،وتحويلها الاسقاطي على كائن خيالي انتجه بمخياله واسماه(الله) هو اغتراب وانفصال الانسان عن ذاته ونوعه البشري،ونقله الى تجريد وهمي منسلخ الى آخر.وفي الدين نفسه-كما يرى فيورباخ ويقرر-نكتشف الاغتراب.فالحقيقة الملموسة هي ببساطة الانسان العياني،وليس العقل او الكائن المجرد.والاغتراب اللاهوتي-حسب فيورباخ-هو تضحية بالانساني العياني الطبيعي النوعي من اجل كينونة افتراضية زائفة،مجردة تسكن السماء وترعى الارض.،وايضا تغريب للانسان المجسد الحقيقي بآخر مجرد،مخلوق تخيلي،وهمي،شبحي لاغير.والقضاء على هذا الاغتراب اللاهوتي هو في الصميم:تحرر كامل للنوع الانساني من اوهام وهلاوس اغترابه البائس الحزين.. لقد حاول فيورباخ-ونجح في ذلك بامتياز-تفسير قواعد الايمان والطقوس والطبيعة اللاهوتية للممارسات الشعائرية(تثليث،طبيعتان،طبيعة واحدة،العماد،القربان)وجميع الصور الذهنية الموروثة والمبتكرة للدين المسيحي بأرجاعها الى حقائقها المادية الموضوعية العيانية الحسية الطبيعية الانسانية من خلال تحليله الفلسفي واللاهوتي والتاريخي لظواهر الدين وتفاصيله ووظائفه من اسرار وطقسية مسيحية مؤسسة واعادة انتاجها وتجددها.وتوصل فيورباخ لنتائج باهرة ومطابقة،معتمدا على الحس والرؤية الثاقبة والتفسير المنطقي الحذق،وليس بالتأمل الخيالي المجنح،وايضا بأستقراء الفكر من الموضوع وليس العكس،كما فعل الفلاسفة المثاليون كهيجل ومن سبقه.لان الموضوعات موجودة بأستقلال،هناك خارج الفكر والوعي وبمعزل عنهما.-وكم كان بودنا تبيان ذلك والاسترسال في بسط منهج فيورباخ في تعليل قواعد الايمان وتفسير الطقوس ولكن المقال سيتضخم ويتشعب خارج موضوعة الاغتراب.م.ا-. فلسفة فيورباخ في نقد الدين-كما يقول هو-هي:"فلسفة انسانية،لانها تعتبر عالم الوجود الانساني هو الوجود الحقيقي وليس هناك من شيء غيره.وان المعنى الحقيقي للثيولوجيا هو بحق:الانثروبولوجيا لاسواهاـوان صفات الله المتعالي هي صفات الانسان الحقة بعد تغريبها الى السماء-الله.".وكما يرى فيورباخ:"ان مايميز الانسان عن الحيوان هو التدين،وعيه لذاته وللعالم الخارجي والطبيعة،بعكس الحيوان الذي لايدرك الا نفسه غرائزيا".فالانسان المنسجم والمتطابق مع جوهره وطبيعته قبل اغترابه وتزييف وعيه بأيديولوجية الدين،يكون واعيا بذاته،وعيه ذاته،وذاته وعيه،ولا انفصام.هذه الوحدة الداخلية يشطرها الاغتراب الديني،ويشوهها عن حقيقتها عندما يحدث الانفلاق والانفصام للذات والوقوع في شرك الوهم اللاهوتي.فالوعي بالله هو حقا وعي الانسان لذاته،ومعرفة الله هي بدورها معرفة الانسان بذاته،فكلاهما واحد استلب احدهما الآخر.فالانسان ينظر في مرآته فيجد الله بدلا من ذاته بقوة وقدرة خياله على صنع الصور والاطياف والكائنات غير الموجودة.فالله بالنسبة للانسان هو روحه نفسه وقد خرجت لتتجسد هناك بعيدا عنه.والانسان بالنسبة لتفسه هو الروح والنفس.فالله هو داخلية الانسان واعماقه التي تجرد بعيدا عنه وتغربه هو ذاته.فالدين هو وعي الانسان بذاته ولكن بشكل غير مباشر ومن خلال وسيط مخترع،مشوها بذلك تلك العلاقة بين الانسان وذاته كآخر من خلال الدين،لذلك ليس صدفة ان يسبق الدين الفلسفة تاريخيا كضرورة لادراك الانسان ماهية ذاته الغريبة وماهية عالمه الغريب قبل ان يبدا برحلته الفلسفية الاوديسيه بحثا عن الفهم والمعنى،ومن ثم التفسير والتبرير. ان مبدأ فلسفة فيورباخ في نقد الدين هو الطبيعة البشرية واكتشاف الانسان لذاته،فيصبح واعيا لطبيعته الخاصة بأن يدرك نفسه ك"كينونة نوع".فتتكون علاقة بين الوعي كذات،والعالم كموضوع خارجي.هذا الوعي الذاتي-كما يصفه فيورباخ-هو:"كينونة تصبح موضوعية بالنسبة لذاتها".وهذه الصيرورة المتشابكة تجعل من الناس ذاتا وموضوعا في نفس الآن.ومن هنا يأتي التشويش واللبس،فعندما يجعلون من انفسهم،او من طبيعتهم الموضوعية شيئا مختلفا ومتمايزا عن ذواتهم(الله-الارواح-الملائكة).وهكذا يتسرب الاغتراب الى دواخلهم،بتغريبهم لانفسهم الى كينونات خارجية مستقلة عنهم.والنقطة المركزية والجديرة بالاشارة في اطروحة فيورباخ الثيولوجية،والتي تترتب عن الاغتراب البشري هي:ان الأله هو مجرد اسقاط للطبيعة البشرية النوعية،فهو يقول في كتابه"جوهر المسيحية":" الانسان-هذا هو سر اسقاطات-الدين لكينونته في الموضوعية،ويجعل من ذاته من جديد عندئذ غرضا لهذه الصورة المسقطة لذاته المحولة من ثم الى ذات آخرى".ويقول ايضا:"الأله هو فكرة النوع كفرد-فكرة جوهر النوع-الذي هو كنوع،ككينونة شاملة،كمحمل لكل انواع الكمال،وكل الصفات او الحقائق،الخالية من كل الحدود التي تتواجد في الوعي وشعور الفرد،هو في الوقت ذاته من جديد كينونة فردية،شخصية".وتكون النتيجة المترتبة من منطوقه هذا،والتي يتوصل اليها فيورباخ:ان الافراد كجزء من النوع البشري واعون لذواتهم،يصورون طبيعتهم البشرية على انها مجردة من المحدودية،ويضعون عليها اللقب او الاسم"اله او الله".وهكذا يسقطون على الله-الذي هو نتاج مخيلتهم-وينسبون اليه الصفات البشرية الكاملة،التي هي صفات نوعهم البشري بالتحديد،كصفات للكائن المجرد الذي تم اختراعه من قبلهم!.. كان فيورباخ قد باشر نقده المناهض للدين لدى فلاسفة القرن الثامن عشر،ومده الى الفلسفة الهيجيلية ومعها كل الفلسفة المثالية التي كانت مثل الدين ترتكز على قلب المواقع،بين الموضوع والمحمول،الذات الحاملة ومحمولها،قلبا يجعل من الفكرة كائنا الهيا ومن الانسان-منتج الفكرة-مخلوقه.ولانها كذلك،فهي مثل الدين تولد الاغتراب للانسان فلسفيا.وبالضد من الفلسفة المثالية اعتبر فيورباخ ان الروح ليست هي الخالق،بل هي نتاج الانسان،والانسان المتعين في علاقته بالطبيعة،وعلاقته بأقرانه من البشر هو مايشكل مبدأ كل فلسفة مادية حقة.وهكذا قلب فيورباخ العلاقة المثالية بين الوجود والوعي،بجعله الكائن هو الموضوع ،والوعي هو المحمول.وعارض المثالية الفلسفية والدينية بتصوره المادي الطبيعي للعالم.ولكن مع هذا ظلت نقطة ضعف مادية فيورباخ الطبيعية هو افتقارها للجدلية والتاريخية فقد كان مفهومه المادي الانسي منزوعا منهما،وقد راوح برؤيته للانسان المجرد ككائن حسي متأمل،وفي الطبيعة كموضوع للتأمل،وتصوره للعلاقات الانسانية لاكعلاقات اجتماعية فعلية وممارسة يحددها التناقض الطبقي وصراع المصالح.بل كعلاقات مجردة بين الانسان والطبيعة،وبين الانسان وغيره من البشر خارج دائرة العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية وتأثيراتها.فكانت فلسفة فيورباخ المادية هي انسانوية-اخلاقية ترى في الاغتراب صورته اللاهوتية بعيدا عن اسبابه وطبيعته الحقيقية في قلب المجتمع لافي السماء.فهو اغتراب اجتماعي-اقتصادي-سياسي-كما عند ماركس-.ففيورباخ يرى الغاء الاغتراب يتم من خلال الجانب الروحي المثالي،وتربية البشر وتحريرهم من الاغتراب بالتعليم والاصلاح لابتغيير واقعهم الاجتماعي-السياسي القائم. في نقده للمسيحية بين فيورباخ بوضوح وعمق :ان الانسان بخلقه لله يسقط صفاته الاخلاقية السامية والنوعية عليه من :حب ورحمة وبر وخير،الخ.-ولكون الله هو الصورة الانسانية المثالية في تجسيد الخير والسمو،فلايمكن ان يكون مصدرا للشر،فجرى ايضا اختراع الشيطان كند وضد لله ليتكفل بحمل وزر الاغواء وتضليل الانسان،وايضا بأسقاط الجانب المظلم والكريه في الانسان على الشيطان،مثلما اسقط الانسان صفاته الحميدة السامية على الله ،اسقط صفاته ونوازعه السيئة على الشيطان كمسبب لها،وسقوط الانسان بالخطيئة وارتكاب الذتوب.م.ا-وهذا مايقوده الى اغترابه بتجريده من ما ينتمي اليه وخلعه على الله،فيصبح الانسان:معزولا وعاجزا وانانيا:اي لاانسانيا بعد ان اغترب عن ذاته الحقيقية ومنحها لله.ومن اجل عودة الانسان لطبيعته الاولى الحقة،يجب عليه-كما يقول فيورباخ-ان يلغي الدين حتى يسترجع صفاته وطبيعته التي تخلى عنها لكائنه الاسمى-الله-.. ومن نقده للدين خرج فيورباخ بفكرة الانسانونية(humanism)القائمة على تصور انثروبولوجي للانسان والمجتمع.وهنا ايضا يكمن الضعف والقصور في فلسفة فيورباخ التي لجأت للحل الطوباوي-التجريدي للمعضلات الاجتماعية والسياسية.لكن تبقى مأثرة فيورباخ-والتي مجدها ماركس وانجلس-وهي:انه بنقده للدين حرر البشر من وهم اللاهوت،ليعوا طبيعتهم الحقة.ولم يدرك فيورباخ ان جوهر الانسان هو عمل البشر الجماعي داخل المجتمع،انتاج حياتهم المادية وحاجاتهم.وكان عليه-حسب ماركس-ان يتحول من نقد الدين الى نقد المجتمع البرجوازي والدولة-وهذه كانت مهمة ماركس ونظريته اللاحقة-.ولكن فيورباخ نفسه كان يعي جيدا حدود فلسفته النقدية.فقد اعترف بقصور وعيوب فلسفته،وكان يدرك تماما ان ماطرحه لايقدم حلولا واقعية للمشاكل والمعضلات الاجتماعية-الاقتصادية.وكان ايضا يعرف ان الداء الحقيقي الذي تعانيه البشرية لايكمن في رأسها او قلبها،بل في معدتها!. كان فيورباخ يرى ان الصفات الالهية هي صفات الانسان في الحقيقة،تنعكس على كائن خارجي يستمد صورته من صورة الانسان لنفسه ورفعها بتجريد مثالي.فاذا كان الامر كذلك-وهو كذلك على الارجح-فالذات الالهية المخترعة،هي انسانية بالضرورة.ولو كان الله موضوعا لعبادة عصفور،فانه لن يكون الا على صورته-صورة العصفور-بجناحين يرفرفان!.فالعصفور لايدرك وجودا ممكنا اواصدق من الوجود(المجنح)!.وكذلك الامر بالنسبة للانسان الذي خلق الله على صورته البشرية.والصفة الالهية هي حقيقة الذات الانسانية،والذات صفة مشخصة.فالانسان المسيحي-والامر يسري على الدين بشكل عام-يجعل من الحب صفه لله لانه يحب.ويعتقد بوجود الله لانه موجود،ويتصور الله حكيما وخيرا لانه يؤمن بأن الحكمة والخير هما اسمى مافيه.ويقين الانسان بوجود الله نابع من يقينه بوجوده،بوجود ذاته.وليس يقينه بصفات الله الجدلية في"جوهر المسيحية"هي بين الجوهر الحقيقي للانسان-اي انثروبولوجيا الدين-وبين الجوهر الزائف المتوهم-اي ثيولوجيا الدين-.والاغتراب الديني يتمثل في ثيولوجيا الدين،متجسدا في وثن سايكولوجي مشخص ومتعالي خارج وفوق الانسان فيغربه عن ذاته-كما سنجده مسقبلا بعد عقود لدى فرويد وخاصة في كتابه"مستقبل وهم"-.ففيورباخ لم يعتبر الاغتراب اللاهوتي نوعامن الفصام الصوفي كما في الاساطير والمعتقدات الدينية،وايضا ليس انطولوجيا كما في الفسفة التأملية لهيجل،بل عده شكلا من المرض النفسي،هلوسة واضطراب،ووهم وخداع ذاتي متخيل.وهنا من الممكن القول ان فيورباخ هو السلف او الممهد لعلم النفس-الديني.ففيورباخ قارب التحليل النفسي قبل فرويد بعقود،وانتهى لسحب الدين بعيدا عن الاغتراب الى الموقف الانساني الصحيح،وانزل ملكوت السماء الى ملكوت-ناسوت الارض،والاقتراب او العودة الى انسانية الانسان في طبيعته الاصلية الاولى ككائن طبيعي..قي حين ان انثروبولوجيا الدين هي الموقف الصحيح والمطابق للانسان النوعي-حسب فيورباخ-حيث يعود لذاته الانسانية ما استلب منها باللاهوت التجريدي.فالاغتراب الديني هو الوعي الوهمي الزائف،والتحرر من الاغتراب يتم بألغاء الدين،والعودة للوجود الجوهري،عودة الانسان الحقيقي المتعين ونوعه لطبيعته الاصلية الحقة،والتي استلبها الدين بتغريب الانسان عن ذاته.-ولاننا لانريد التوسع والتشعب في عرض كامل فلسفة فيورباخ في الاغتراب الديني ،آس كل الاغترابات،نكتفي بالقول المختصر:ان الدين بالنسبة لفيورباخ هو في جوهره وحقيقته ليس الا انثروبولوجيا،اي وصف للانسان الطبيعي قبل وقوعه فريسة للثيولوجيا والاغتراب اللاهوتي المترتب عليه،بأستلابه لذاته خارج ذاته.ففيورباخ -كمانرى-يحدد موقفه من الدين بنقده الايجابي وليس السلبي،فهو ليس هادما للتصور الديني،بل بناء له،ولكن على اسس مادية انثروبولوجية صحيحة وموضوعية بعيدا عن الاسطرة والتخريف والطوبى المثالية.بناء للدين كدين تربوي انساني-اخلاقي طبيعي..فالدين هو الشعور الاول للانسان بذاته،لانه شعور الانسان بذاته،حبه لذاته.لذلك كانت العلاقات هي اخلاقية قبل كل شيء.فعلاقات الاخلاق بالانسان هي نفسها علاقات الدين به.فكل مايخلقه الانسان من قيم-اخلاقية او دينينة- تتمركز حوله،حاجاته،رغباته،مصيره.لذا لايوجد دين خارج الاخلاق الوضعية السابقة عليه.فالدين يؤسس على الاخلاق لاالعكس،الاخلاق على الدين. واخيرا..يؤكد فيورباخ ان من اجل تدمير الاغتراب الديني يجب تحويل الثيولوجيا الى انثروبولوجيا،وتحويل اللوغوس الالهي الى الماهية الانسانية،الجوهر النوعي للانسان-الذي لاوجود لغيره-ليتحرر الانسان من اغترابه الديني الذي هو اصل كل اغتراب.ولكن..وهنا نطرح سؤالا:هل يكفي تحرر الانسان من اغترابه الديني حتى يتحرر من كل اغتراباته الاجتماعية والنفسية والوجودية والثقافية،الخ؟!.لانعتقد ذلك!.فألغاء الدين وزواله-على فرض زواله،نشك بذلك ايضا!.لانه مستبعد،فالدين سيبقى قرين للانسان وواحدا من عوامل اغترابه العصية على الفك-لايحرر الانسان كفرد او جماعات.فالاغتراب الديني ليس هو الاغتراب الوحيد الذي يمسك يتلابيب انسانية الانسان،وماهية وعيه.فاغترابات اخرى تقبض على وعي ووجدان وذاتية الفرد وسايكولوجيته غير الاغتراب اللاهوتي.فمن اجل ملء حفرةالاغتراب الديني يجب هدم جدار الدين،ولكن من يملأ فجوة اغترابات اخرى عديدة ومختلفة عن الاغتراب الديني؟!.فالمؤمن بالدين والمتماهي مع اعتقاده هو في أسر اغترابه الديني،واللامؤمن او المنسلخ من الاعتقاد والملحد واللاديني هم ايضا مكبلين بأغترابات نوعية اخرى ارضية لاسماوية،مادية لاخيالية!.اغتراب العمل كما لدى ماركس مثلا،واغتراب الفرد عن الحضارة كما لدى فرويد،وغيرها من اغترابات تعتقل الفرد الانساني بزنازين اجتماعية،وسياسية،وافتصادية،ونفسية،وانطولوجية،وثقافية، وتكنولوجية،الخ..في كتابه"اصل الدين"يقول فيورباخ:"تحويل الدين الى لاهوت جامد يعني تحول بصر الانسان عن الارض الى السماء حيث عالم (الماوراء)بحيث يصبح عاملا من عوامل اغتراب الانسان وشقائه".فماذا نقول عن من ينظر الى الارض فقط،واهمل السماء كليا،ولازال يجد نفسه رازحا تحت ثقل اغتراب لاديني ينخر كينونته ويقلق وعيه،ويسلب ذاته؟!.اذا ليس كافيا زوال الاغتراب الديني،فلن يعود الانسان الى جوهره الانساني البدئي الطبيعي بتحرره من الدين فقط.فلازال امامه وفي داخله ركام هائل من الاغترابات المركبة،القديمة والجديدة والتي تتضاعف بتطور الحياة البشرية المادية والبيئة والانظمة السلطوية والتقنيات التكنولوجية الدقيقة وغيرها من علل تعمق الهوة بين الانسان ونفسه والاخر والطبيعة والاشياء المحيطة به ويزداد اغترابا عنها الى درجة العدائية وابتلاعه!.فتغلق عليه منافذ حريته وكرامته وتحقيق ذاته بلا قيود او تخكم كفرد او مجتمع.لنغادر محطة فيورباخ واغترابه الديني بعد ان سلطنا ضوءا على جانب منه،منتقلين الى محطة ماركس في اغترابه الاجتماعي،والعمل المغترب. كارل هنريك ماركس/ولد في مدينة ترير عام1818وتوفي في لندن عام1883-اقتصادي ومفكر نظري وناقد،ومناضل سياسي عمالي،وديمقراطي انساني النزعة.هو الاكثر شهرة وتأثيرا في القرن العشرين ولازال.تأثر بديالكتيك هيجل ومنطقه،ونقد فلسفته المثالية عن الروح- والفكرة المطلقة.وكان لطروحات هيجل عن الاغتراب الانطولوجي والسياسي دور في تطور فكرة ماركس عن الاغتراب.فهيجل كان يرى:بأن الاغتراب في جوهره هو اغتراب انطولوجي،صاحب الانسان منذ بدء وجوده كأنسان،بين الفرد كذات،وبين الفرد كموضوع.وان كل مايبدعه او ينتجه:اللغة،الفن،الدين،العلم،الخ،ينفصل عنه،ويصبح موضوعا خارجيا،وغريبا عن الذات كأشياء مادية موضوعية.ومن هنا تجد الذات اغترابها كعقل ووعي بذاتها خارج العالم الموضوعي.وبصفته كائنا روحيا لايتحرر الانسان من استلابه الا بممارسة نشاطه الاجتماعي-الاقتصادي وتطوره التاريخي.وسيزول الاستلاب عندما يتطابق جوهر الانسان الذاتي مع نهاية التاريخ المكتمل تحققه بالدولة البروسية!.كما تأثر ماركس ايضا بفيورباخ وافكاره عن الاغتراب الديني،وهو العنصر الاساسي في مذهب فيورباخ المادي،وهو:نقد استلاب ماهية الانسان الناجمة عن اللاهوت،والذي شكل في نفس الوقت نقلة ايديولوجية لدى ماركس في تحليله الخاص لاغتراب العمل،نقدا للاستلاب الفعلي في السلعة،للماهية الانسانية لقوة العمل.ذلك الاستلاب المدمر والذي يفرزه المجتمع الرأسمالي،مجتمع الملكية الخاصة،كما يفرز ايضا السعي المحموم الى الربح والمزاحمة والنزعة الفردية والانانية التي تسحق العمال بعقبها الحديدية التي لاترحم. اعتمد ماركس على "جوهر المسيحية"لانضاج افكاره عن اغتراب العمل.وكماساهم برونو باور بكتابه المسألة اليهودية"في تبيان المنهج الاجتماعي لماركس في نقده لباور كاختلاف في الرؤية للمسألة اليهودية.جرى الامر كذلك بالنسبة لماكس شتيرنر في كتابه"الاوحد وملكيته"والذي نقده ماركس بقسوة في الايديولوجيا الالمانيةعام1845-1846وكان نقده لباور وفيورباخ وشتيرنر اكبر الاثر في نضوجه وتطوره الفكري بأتجاه الجدل المادي والتاريخي والتفرغ لنقد وتحليل الاقتصاد السياسي الرأسمالي،والسعي للتنظيم العمالي الاممي والنشاط السياسي الثوري.عالج ماركس موضوعة الاغتراب وفي ذهنه فيورباخ في عدة مؤلفات:المخطوطات الاقتصادية-الفلسفية1844 وفي العائلة المقدسة1844و الايديولوجيا الالمانية1846وكذلك في رأس المال تناول العمل المغترب بتركيزه على الجانب الاجتماعي-الاقتصادي الاكثر نضجا وفهما وبعيدا عن انسانوية واخلاقية المخطوطات لماركس الشاب الذي لم يتحرر بعد من فيورباخ في حينه.والمخطوطات التي لم تنشر الافي عام1932بعد اكتشافها من قبل ديفيد ريازانوف-والذي كان له كل الفضل في جمع وترجمة ونشر تراث ماركس من نصوص وكتابات كانت ستضيع لولاه وقد اجزل له ستالين في الكرم والجزاء كجزاء سنمار!-ورغم ان النص كا ن يفتقد الكمال لضياع اجزاء وصفحات كثيرة منه الا انه يعتبر النص الاول الذي عالج فيه ماركس مفهوم الاغتراب كمغايرة بدائية لاغتراب فيورباخ الديني،والذي اعتمد عليه ماركس-كما قلنا- واقتبس منه،وارسى عليه تعديله لمسألة الاغتراب على اسس فلسفية-اجتماعية-اقتصادية من خلال طرحه للعمل المغترب. ادرك ماركس بعكس فيورباخ ان الاغتراب-الاستلاب ليس له طابع ديني وحيد فقط،وانما تجلى ايضا وخصوصا في المضمار السياسي والاجتماعي،وان ألغاء الاغتراب لايتطلب نقد الدين فحسب،بل ونقد الدولة والمجتمع ايضا.ومايبدو لدى هيجل وفيورباخ ان الاغتراب سبب لشقاء الانسان،هو عند ماركس نتيجة للملكية الخاصة والمنافسة والصراع الطبقي الذي ينبثق بأغتراب العمل والرأسمال معا.ومن خلال تحليل ماركس لمفهوم الاغتراب لدى هيجل وفيورباخ،اكتشف مفهوم الصراع الطبقي كعامل رئيسي في التحولات الاجتماعية والتاريخية.وبهذا تجاوز ماركس بمفهومه المتميز للاغتراب،كل ماتصوره هيجل وفيوباخ عن الاغنراب،كأغتراب سياسي عند هيجل،واغتراب ديني غند فيورباخ. في كنابه المشترك مع انجلز "الايديولوجيا الالمانية" يقول ماركس:"ان الانسان من حيث هو انسان هو من انتاج المجتمع،كما ان المجتمع هو من انتاج الانسان،فالفاعلية والعمل مضمونهما اجتماعي وكذلك اصولهما.لدينا اذن طبيعة اجتماعية وانسان اجتماعي.والدلالية الانسانية للطبيعة ليس لها وجود الا بالنسبة لوجود الانسان،ولكون اساس وجود الانسان من اجل الآخرين،ووجود الآخرين من اجله،عندئذ،وعندئذ فقط،تكون الطبيعة اساسا لخبرة الانسان الانسانية،وعنصرا حيويا للحقيقة الانسانية،ويصبح الوجود الطبيعي للانسان هاهنا وجودا انسانيا،وتصبح الطبيعة ذاتها انسانية بالنسبة للانسان..وهكذا يصبح المجتمع هو الوحدة النهائية للانسان والطبيعة،اي هو الاحياء الحقيقي،والسمة الطبيعية للانسان،والسمة الانسانية للطبيعة".في هذا النص الباهر الطويل الذي اوردناه تتجلى رؤية ماركس المادية الواقعية الثاقبة-رغم الصوت الفيورباخي الذي يتردد صداه مابين السطور-وهي رؤية مكثفة ترمز لاسلوب تحرير الانسان من الاغتراب عن الطبيعة وعن ذاته والآخر الاجتماعي،حيث ينتمي الانسان من جهة:هو انه منتج لحياته،الى طبيعته الكلية التي كانت مغتربه عند نشأة المجتمع.وهذا يعني ان هناك اغترابا آخر هام و اكثر اساسية وواقعية من الاغتراب السياسي والديني هو اغتراب العمل في المجتمع الطبقي،وكل اغتراب آخر هو نتيجة مترتبة على هذا الاغتراب.هنا يقطع ماركس جازما بعلية العمل المغترب كأساس لكل الاغترابات المستجدة والطارئة،كما قطع فيورباخ بدوره بعلية الاغتراب الديني وكل الاغترابات المترتبة عليه.ورغم التشابه في الاستدلال المنطقي الا ان ماركس هو الاكثر مادية وتشخيصا وجذرية لاغتراب العمل المادي-الواقعي والمغاير والمعاكس لاغتراب فيورباخ الديني... ويقول ماركس ايضا:"ان اساس النقد اللاديني على النحو التالي:ان الانسان هو الذي يصنع الدين،وليس العكس،فالدين في حقيقته،هو الوعي الذاتي للانسان طالما انه لم يجد او فقد نفسه،بيد ان الانسان ليس مجردا،وجالسا على قدميه خارج العالم،بل انه العالم الانساني والدولة والمجتمع،وهذه الدولة وهذا المجتمع هما اللذان يصنعان الدين،والدين،عندئذ،يصبح هو وعي العالم مقلوبا،لانهما عالم مقلوب.ان الدين هو النظرية العامة لهذا العالم،انه موسوعته الموجزة،انه منطقه في اسلوب شعبي،انه شرفه الروحي،انه حميته،وازعه الاخلاقي،اساس التعزية والتبرير،انه التحقيق المذهل للوجود الانساني طالما الوجود الانساني يخلو من الوجود الحقيقي،ولهذا فأن النضال ضد الدين هو نضال بطريق غير مباشر،ضد هذا العالم ذو الرائحة الروحية العطرة المتمثلة في الدين".-هنا ايضا نعثر على فيورباخ متواريا،نفس الروح والرؤية،بتعبير اكثر رومانسية وارفع ادبيا،واكثر مادية-.كان ايراد هذا النص الطويل ضروريا لتبيان ماكان يعنيه ماركس هنا في هذا الاقتباس،وهو:ان الاغتراب الديني لايمكن ان يتلاشى ويزول بمجرد النقد النظري للظاهرة الدينية،وانما يحدث ذلك بالممارسة النضالية ضد الظروف الاجتماعية المادية التي ولدته،لابالمثالية الهيجيلية،ولابالمادية الفيورباخية.وهنا نطرح سؤالا:ماهي تلك الظروف المادية التي تنتج الاغتراب بالنسبة لماركس؟.والاجابة حسب اعتقادنا هي:ان تحليل ماركس للاقتصاد السياسي الرأسمالي،وبكشفه عن فائض القيمة،توصل الى ان التطور التاريخي الجدلي هو المصدر الوحيد لاعظم اغتراب للانسان العامل عبر تاريخه الطبقي.ففي المعادلة التي ادرجها ماركس في رأس المال:ن-س-ن،هذه الصيغة التي يبدو فيها ان المال هو الذي ينتج الانسان.في حين ان الاصل هو الانسان،الانسان هو من ينتج رأس المال.وهذا في الحقيقة هو مصدر اغتراب لا العامل وحسب،وانما الرأسمالي ايضا في كل العملية الرأسمالية للانتاج.ومع ان كل منهما-العامل والرأسمالي-هو نقيض الآخر،ولكن مايوحدهما هو هذا التناقض عينه الذي يجمع بينهما.فالرأسمالي مضطر ومن اجل الحفاظ على وجوده ان يحافظ على وجود نقيضه العامل.اما من زاوية العامل،فهو مضطر الى ازالة وجوده،وبالتالي ازالة وجود نقيضه الذي هو شرط وجوده كعامل،اي الرأسمالي.والفرق بينهما هو قي نوعية ودرجة الاغتراب.فالرأسمالي في اغترابه الذاتي يجد قوته وسلطته وخيره في هذا الاغتراب.اما العامل فأغترابه مؤلم وسبب تعاسته وشقائه،وعاجز لاحول له ولاقوة في تغيير واقعه البائس،ووجوده لاانساني بكل المعايير،ومستلب في كل علاقاته الاجتماعية حتى داخل اسرته وعلاقاته الحميمة!. ...وفي الوقت الذي يديم الرأسمالي ،ويعيد انتاج هذا التناقض،ويحافظ على بقائه،لان بقائه هو من اجله هو بالذات،لاستمرار ارباحه وسيطرته.يسعى البروليتاري الى العكس،ومن اجل تحرره وانعتاقه من الاستغلال والاغتراب الى تدميره وازالته.لهذا يكون اغتراب العامل جوهريا ورئيسي وفاعل.عكس اغتراب الرأسمالي،الثانوي غير المؤثر،والذي يستمد منه الرأسمالي عناصر قوته وهوس مراكمة ربحه وانماءه،فبدون ذلك لاحياة للرأسمال.فما ينتجه العامل من سلع لايملكها ولاتنتمي اليه،فتواجهه كأشياء غريبة ومستقلة عنه.وسبب ذلك:ان ماينتجه العامل هو ملك لشخص اخر غيره هو الرأسمالي.وهكذا تكون عملية الانتاج الرأسمالي،العمل المغترب-هي علاقة انسان غريب عن العمل،ويكون خارجا عنه،ومستقلا،وملكية لآخر.اي علاقة العامل بالعمل تولد علاقة الرأسمالي بمنتوج العمل.يقول ماركس في رأس المال:"ان رأس المال يصبح قوة اجتماعية مغتربة".و"هذه العملية هي عملية اغتراب عمل العامل ذاته".ومن هنا تتشكل مفارقة بين الرأسمالي والعامل،فكلا فعاليتهما هي فعالية مغتربة.ويقول ماركس ايضا في رأس المال في معرض تمييزه بين التموضع والتشيؤ:"التموضع ليس الا تأكيد الانسان لذاته في موضع،ليس الا تجسيد الانسان للانا.اما التشيؤ،فهو انفصال الذات المتموضعة عن ذاتها،ولهذا فأن التشيؤ سلب للانسان،وسلب لشخصيته،وعزله عن اخوانه من البشر،فيفقد الموضوع طابعه الانساني،ويقف معارضا للانسان،بل بديلا عنه".وهنا كما هو واضح،فأن التموضع لاينتهي الى التشيؤ بالضرورة،ولكن التشيؤ يستلزم التموضع بالضرورة.لان التشيؤ يحيل الموضوع من موضوع انساني ينتمي الى الانسان ومن صنعه الى موضوع لاانساني،ومعادي للانسان،يغربه ويسلبه ذاته المتموضعة.كما يكشف التشيؤ الطبيعة الفوضوية للانتاج الرأسمالي،فهو عالم علاقات بين اشياء لاعالم علاقات اجتماعية بين البشر.فيصبح البشر اثر ذلك تحت رحمة الاشياء الصماء وهيمنتها،فتكون العلاقات الاجتماعية بين الاشياء،وعلاقات مادية بين الافراد،فتكون السيادة للاشياء وليس للمجتمع البشري،وما هو من خصائص الذات الانسانية،يمسي خاصية للاشياء الطبيعية من حيث هي مستقلة عن الانسان.فتكون النتيجة عالم من الاغتراب:بين العامل وما ينتجه،وبين العامل وذاته،والعامل واقرانه من البشر.فتسلط الرأسمالي على العامل ليس الا تسلط شروط العمل على العامل ذاته،وتسلط العمل الميت على العمل الحي،وتسلط الانتاج على المنتج،والتسلط في نهاية الامر ينطوي على تناقضات كل منها في حالة اغتراب.ولكون التشيؤ-وهو آس الاغتراب-ذو طابع طبقي،ينزع عنه الطابع الطبقي للاغتراب،فيبدو وكأنه من طبيعة الاشياء،لابفعل التفاوت بين من يملك وبين من لايملك،بين الرأسمالي وبين العامل.فهو يكشف-التشيؤ-عن عدم التكافوء بين من يخلق الحضارة(العامل)وبين من يستغلها ويستثمرها لصالحه(الرأسمالي).فكل منهما يمثل-العامل والرأسمالي- اشياء متشخصه،فيغترب الانسان.ومعنى ذلك ان العامل وهو ينتج الحضارة،ينتجها في شكلها المغترب،ويترتب على ذلك:ان الحضارة في تناقض مع الانسان-وهذا هو جوهر الاغتراب لدى فرويد كما في كتابه"قلق في الحضارة"كما سنرى لاحقا،وهذه النتيجة التي انتهى اليها ماركس من خلال التحليل والنقد الاقتصادي والسياسي والفلسفي،هي نفسها التي توصل اليها فرويد من زاوية اخرى مختلفة من خلال التحليل النفسي ولاوعي الفرد المعاصر-. ويمضي ماركس بتحليله لعلاقة العامل بما ينتجه من بضائع حيث يزداد فقر العامل كلما كبر وزاد ماينتجه من سلع،وحينها يصبح العامل نفسه سلعة ارخص بكثير من اي سلعة موجودة ومعروضة في السوق.فكلمازاد ماينتجه العامل من سلع قلت قيمته،واضحى سلعة فائضة عن الحاجة،وبائرة مكانها الشارع والبطالة.فقيمة الاشياء ترتفع بتناسب عكسي مع انخفاض قيمة البشر العاملين.وبالاضافة للسلع التي ينتجها العامل فهو ينتج ذاته كوجود بايولوجي،وسلعة للبيع في نفس الآن الذي ينتج فيه السلع،وماينتجه العامل..نتاج العمل يواجهه كقوة مستقلة،كشيء غريب،فهو موضوع منجز متموضع كعمل،كنتاج عمل.وهذا التحقق للعمل في المادة المنتجة،المنسلخةعن منتجها هو فقدان للموضوع،وعبودية ايضا في نفس الوقت.وهنا يصبح التملك اغترابا-الرأسمالي-واللاتملك اغترابا-العامل-فكلما ازدادت الاشياء التي يخلقها العامل بقوة عمله،قل مايستطيع الحصول عليه من اجر،او امتلاكه لما ينتج.فيقع تحت سيطرة ماانتجه هو،وماسبب اغترابه رأس المال.فالعمل المغترب نتيجة انه لايؤكد ذاته في العمل،انما ينكرها،ولايشعر بالرضى،بل بالتعاسة.لاينمي بحريه طاقته البدنية والعقلية،وانما يقتل جسده،ويدمر عقله،فلا يعود يشعر بأنسانيته الا من خلال وظائفه الحيوانية:الاكل،الشرب،التكاثر،وفي مسكنه.رغم ان هذه الوظائف هي انسانية،ولكنها كتجريد يفصلها عن كل نشاط انساني تكون او تبدو حيوانية!.فكل الحيوانات تفعل ذلك.اما وظائفه الانسانية فعلى العكس لايشعر معها الا بكونه حيوانا!.فماهو حيواني يصبح انساني،وماهو انساني يصبح حيواني!.وهكذا يطغى اغتراب الانسان عن الطبيعة،وعن ذاته ،وعن الآخر،وهو مستعبد بالعمل المغترب.فأذا كان نتاج العمل يواجه العامل كقوة غريبة طاغية مستقلة،فلمن ينتمي المتموضع اذا؟!.واذا كان النشاط العملي للعامل هو عذابا له،يحيونه،وينزع انسانيته،فحتما سيكون متعة وسعادة وبلهنية وآدمية لشخص آخر هو سيد او رب منتوج العامل،سيد غريب عنه،ومعاديا له،ومستقلا عنه،وخاضع له،هو:الرأسمالي.هذه العلاقة بين العامل والرأسمالي هي علاقه اغتراب متبادل.اغتراب العمل هي علاقة العامل بالعمل،وعلاقة الرأسمالي بالعمل تتجسد،وهي متجسدة بالملكية الخاصة،والتي هي نتاج العمل المغترب.اي ان الملكية الخاصة هي علة اغتراب وشقاء الانسان،وبتخطيها-الملكية-الايجابي بتملك الحياة الانسانية هو تخطي شامل لكل اغتراب،وعودة الانسان الى وجوده الحقيقي الانساني الاجتماعي.فالاغتراب الديني الفيورباخي هو اغتراب على مستوى الوعي،العقل،الجانب الروحي في الانسان.اما الاغتراب الاقتصادي-الاجتماعي لدى ماركس فهو اغتراب مادي،واقعي،في الحياة المحسوسة والمعاشة.وبتجاوز هذا الاغتراب الاقتصادي المادي هو تجاوز لكلا الاغترابين. حدد ماركس مظاهر واشكال الاغتراب الاجتماعي-اغتراب العمل في العملية الانتاجية ومراحلها طوال يوم العمل،وايضا ابرز اغتراب العامل عن طبيعته الانسانية النوعية:حيويته النفسية،مزاجه،حاجاته،رغباته،واغترابه عن الافراد الآخرين.وهكذا-وحسب ماركس-يزدهر الاستلاب المتولد من تشيء العلاقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي.وهذا ماسعى ماركس لتبيانه وتحليله من خلال نقد الاقتصاد السياسي.فالتشيؤ للعلاقات الاجتماعية بتحويله لفاعلية العمال الانتاجية وماينتجوه الى موضوعات غريبة عنهم،هو آس الاغتراب العام للبشر.حيث تصبح السلعة قيمة مستقلة ومنسلخة عن خالقيها،فتبدو العلاقات الاجتماعية على السطح وكأنها علاقات بين سلع،بين اشياء،لاعلاقات بين البشر.فالعامل غريب عن نتاج عمله،وغريب عن نفسه وطبيعته كأنسان،كما تعزله دائرة الاغتراب عن اقرانه من البشر.فليست الانسانية هي مايربط الناس بأواصر من التعاون،بل المصلحة الخاصة وحدها.فالهدف من الانتاج ليس تطمين وتلبية الحاجات الانسانية لافراد المجتمع،بل الغاية من الانتاج هي توليد الربح وتراكم المزيد من رأس المال الذي لايشبع ابدا.وهذا مايقود الى تجريد العامل من نتاج عمله،واستعباده بنظام العمل المأجور الذي يسد بالكاد رمقه و نفقات تجديد طاقته وانتاج نسله من جبش العمل الاحتياطي.وتكون النتيجة هي مجتمع غابة تستشري فيه قيم الانانية والتنازع وشيوع العدائية والبغضاء،فيتحول الانسان ذئبا مفترسا لاخيه الانسان،فتمسخ انسانية الانسان ويتغرب عن ذاته وعن بقية افراد مجتمعه..فعندما يصبح المال-النقود كسعر للقيم التبادلية،وهو الوسيط المناسب للمبادلات عندها وحتما ستختفي كل علاقة انسانية خالصة،ماعدا هذا الوسيط المغرب،هذا الاله المرئي المعبود الذي يشيء كل العلاقات الاجتماعية،ويعم الاغتراب كل علاقة في شكل قاهر يخضع فيه الانسان لسلطة الاشياء،والمال كتعبيرها المقابل الكامل والضروري.اما الدين-بالنسبة لماركس-فلا يشكل سوى انعكاسا روحيا للاغتراب الاجتماعي،والذي يولده نظام الملكية الخاصة.ومايضخم هذا الاغتراب ويضاعفه هو العبودية الروحية التي تثقل كاهل الانسان العامل المستغل وخضوعه للرأسمالي والله معا.بتسويغ القانون الوضعي والتشريع اللاهوتي لهذه العبودية المركبة للجسد والضمير،ويجري تقديمها وكأنها اثر وفرض للارادة الالهية،وتبريرا للبؤس.فكلما زاد البؤس والتعاسة فرحت السماء بالمتساقطين في حضنها بأغترابهم الديني!.فالدين في ماهيته هو نفي لكينونة الانسان بتغريبها في الله،والملكية الخاصة بدورها هي نفي للعمل ونزع لجوهر الانسان وتغريبه في السلعة.لقد كان ماركس يفكر معتقدا بأن الاغتراب هو سمة اساسية للعصر الحاضر،وان تحرر الانسان بشكل كامل كان يعني الغاء كل الاغترابات الغاءا شاملا،ولكنه بخلاف فيورباخ،وكمدافع عن مصالح البروليتاريا،كان يعتبر ان الاغتراب الاجتماعي-العمل المغترب الذي ينتجه النظام الرأسمالي هو الاغتراب الاشد وطأة على كاهل البروليتاريا.ففي هذا النظام يتحول ماينتجه العامل الى سلعة غريبة عنه رغم انه خالقها ويستحق امتلاكها مع طبقته المنتجة.وما يجري:ان منتوج العمل المغترب وعلى هذا النحو يضبط ويحكم في هذه المنظومة المشيئة للعلاقات الاجتماعية،والتي تغدو جوهريا عبارة عن تبادل سلع،وعلاقات بين اشياء،تحول العمل الى فاعلية مغربة ومغتربة،مسلوبة وسالبة،مخلوعة وخالعة.فيفقد العمل جراء ذلك،ومع فقدانه لطابعه الانساني،كينونته الانسانية،ووظيفته الاجتماعية التي هي اصلا اقامة علاقات انسانية متكافئة ومتضامنة ومتآخية بين الناس من خلال نشاطهم الانتاجي المشترك والجماعي.لم يترك ماركس مجالا للشك في تحليله للاغتراب الاجتماعي بأن ماينتجه العمل يصبح غريبا عن العامل في هذا النظام الظالم -الملكية الخاصة لوسائل الانتاج-الذي يفقره ويحط من قيمته ويغربه بالقدر الذي ينتج فيه.وبدلا من ان يصبح العمل هو العنصر الخالق والمعبر عن الكينونة،يغدو نفيها.ان هذا الاغتراب-العمل المغترب-يشمل جميع البشر في نظام الملكية الخاصة.فالانسان العامل الذي يخلق عالما من الموضوعات المغربة يصبح عاجزا عن انسنة الطبيعة وطبعنة الانسان.وهذا النمط من الحياة المغتربة يجعل الانسان العامل ليس غريبا عن نفسه فحسب،بل وغريبا ايضا عن اقرانه من البشر الاخرين.فالمزاحمة المتولدة من نظام الملكية الخاصة تحدد تعارضا عاما بين البشر،وتقسم المجتمع الى طبقات متناحرة في عالم غابوي ماقبل انساني.هذا الاغتراب الاجتماعي-الاقتصادي يجد تعبيره في تزييف الحاجات.اذ تكف عن كونها حاجات انسانية،لتتحول اكثر واكثر الى حاجات مال،بوصفه وسيطا كليا مطلوبا في التبادل السلعي.فالمال ينزع انسانية العلاقات الاجتماعية،وينزل بها الى مرتبة الاشياء والسلع،لتهبط قيمة الانسان الى سلعة في عالم اغترابي مظلم.وتترتب على الاغترابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية،اغترابات ايديولوجية-ومنها الاغتراب الديني-تخدم تسويغ وتبرير وتوطيد المجتمع البرجوازي وهيمنته الخانقة،والتي لايمكن ان تفهم الا في تجلي طابعها الطبقي السافر.يخلص ماركس في تحليله لاغتراب العمل الى ضرورة الغاء النظام الرأسمالي،واستبداله بنظام شيوعي،بوصفه النتيجة الطبيعية والضرورية،وكسيرورة لتطور النظام الرأسمالي نفسه.وبصراع الطبقات بين البرجوازية المالكة والبروليتاريا الاجيرة والتي تقود الى الثورة الشيوعية كأداة للتغيير،وشرطها الاساس القضاء على كل الاغترابات بحذف الملكية الخاصة لادوات الانتاج حذفا جذريا شاملا ونهائيا... كان ماركس واثقا جدا من حقيقة ان التنظيم الانساني للانتاج والاستهلاك سيلغي كل اغتربات الانسان الاقتصادية والاجتماعية والايديولوجية المتولدة من نظام الملكية الخاصة،ولن يتحقق ذلك الا في الشيوعية حيث ستتفتح طبيعة الانسان الكلية وتزدهر طاقاته.كان ماركس كمواطنه الالماني فيورباخ يفكر بأن الاغتراب هو العلامة المميزة لحالة الانسان في المجتمع البرجوازي،وان الغاء ذلك الاغتراب هو الشرط الضروري للتحرر الانساني.ولكنه بخلاف فيورباخ لم يكن يقر بالاغتراب الديني كسبب لاغتراب الانسان.بل كان ينظر اليه في شكله الاقتصادي-الاجتماعي،اي كعمل مغترب وكنتيجة تولدها الملكية الخاصة،وهو الشكل الرئيسي لاغتراب البشر،وخاصة البروليتاريا التي ترزح تحت ثقله الاكبر،لان منتوج العمل المغترب يتخذ شكل سلع تشيء العلاقات الاجتماعية،فتتمظهر-تلك العلاقات-كتبادل للسلع.فالعامل منفصل عن نتاج عمله وبدلامن ان يكون العمل تعبيرا عن شخصيته ونشاطه،يكون نفيا لها واغترابا عن نتاج عمله الذي يصبح ملكا لغيره،فيضعف ويتبلد وينحط بقدر ما ينتج من سلع.هذا الاغتراب هو عام في النظام الرأسمالي،والذي يمنع الشغيل من تحقيق انسانيته،وغريبا عن كينونته،ويضع العمال بعضهم ضد البعض الاخر في عالم من المزاحمة والتنافس..لقد استغل المفكرون البرجوازيون فكرة الاغتراب كمفهوم مركزي لماركس الشاب،وبالضد من مفهومه للبراكسيس كي يهمشوا العنصر الثوري للممارسة في الفكر الماركسي الثوري،ويختزلوه الى مجرد طوباوية اخلاقية وانسانية،يكون هدفها المبتسر هو تحقيق الانسان(الحق)بتجريد مثالي خال من التمايز الاجتماعي ببعده الراديكالي المغير من خلال الممارسة السياسية الثورية. وكخلاصة مكثفة لما طرحه ماركس عن العمل المغترب،وما اراد ان يقوله بهذا الشأن:ان اغتراب العمل الاجتماعي ليس بحالة قدرية ثابتة لاتحول او تزول،وانها مصير انساني نوعي حتمي وقار يدمغ الوضع البشري ابدا.بل افترض ماركس العكس،اي انه كنتيجة محصلة لظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية جائرة لسيادة الملكية الخاصة والعمل المأجور،وسيضمحل الاغتراب ويزول حتما،وبكل اشكاله عندما تتغير تلك الشروط جذريا بحلول مجتمع واقتصاد جديدان قائمان على المشاعية في الانتاج والتوزيع.وبالقضاء نهائيا على الملكية الخاصة والعمل المستلب اللذان يقهران الانسان العامل ويغربانه.هذه المهمة يقع عبء تحقيقها على الممارسة السياسية العملية(البراكسيس)الثورية للطبقة العاملة بتنظيم نفسها حزبا سياسيا يقود النضال والثورة لتحرير المجتمع من الاستغلال والاغتراب معا.ف"اغتراب العمل"هو نتيجة لنظم الملكية الخاصة ابتداء من الرق حتى النظام الرأسمالي القائم حاليا.فما ينتجه العمل بيديه وعقله يتحول بمفارقة عجيبة الى ضده ويسيطر عليه.لذلك فكل ماينتجه ويبتكره الانسان العامل يزيد من عبوديته واستغلاله واغترابه،وبالتالي لانسلاخه عما ينتج،بدلا من تحقيق ذاته وانسانيته بحرية من خلال العمل،وتملك مايخلقه هو واقرانه من عاملين. افالاغتراب بكل اشكاله وتجلياته-ووفق ماركس-هو تحصبل حاصل لعجز الانسان امام جبروت الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي.وبالاضافة للاغتراب الديني الفيورباخي الذي تأثر به ماركس كثيرا،هناك جذرا اخر لاطروحته عن الانسان المواطن في علاقته بالدولة استقاه من هيجل وعمقه بفكره المتوهج،وراكمه من خلال تأمله في تلك الحوادث التي وقعت في الموزيل وكتب عنها في الجريدة الرينانية في اقليم الراين عام1842-1843من سرقة اخشاب وقلع اشجار من قبل العمال الزراعيين المعدمين(الكرامين)،والتي وقفت الحكومة فيها الى جانب الملاكين ضدهم.فقد ادرك ماركس بعدها وبوعيه الفذ:ان الدولة ليست حيادية ولاتمثل مصالح جميع فئات المجتمع،بقدر ما كانت تمثل وتدافع عن مصالح طبقة واحدة من المجتمع هي طبقة النبلاء والملاكين الكبار السائدة والتي تشكل القاعدة الاجتماعية للنظام الحاكم.لذا رأى ان تنازل الافراد عن حقوقهم الفردية:الطبيعية والسياسية لدولة مثل هذه الدولة الظالمة والمتواطئة والمنحازة لطبقتها المسيطرة هو نوع من الاغتراب وانعدام الوعي،لانه يعني تنازل المواطنين الفقراء عن حقوقهم لنظم سياسية قاهرة تقمعهم وتستعبدهم وتغربهم.ومن هذه المنطلقات الفلسفية والسياسية والفكرية والوقائع اليومية ترسخت لدى ماركس فكرة"العمل المغترب"وبنى عليها اطروحته التي حررها بمؤلفات فترة الشباب في:"المخطوطات الاقتصادية والفلسفية"وبكثافة في"الايديولوجيا الالمانية"واقل من ذلك في"العائلة المقدسة".والتي توارت لاحقا-فكرة الاغتراب--ليحل محلها مفهوم(البراكسيس)العملي.فقد ولى زمن التأمل وحلت ساعة النشاط الفعلي الجاد والممارسة السياسية المنظمة كنقلة ناضجة ومتطورة لاستشراف آفاق الثورة داخل الحركات العمالية العفوية النقابية،والسعي لتحقيقها.. وقبل ان نغادر محطة ماركس التي وقفنا عندهاطويلا-لكونها اهم محطة-الى محطتنا الاخيرة-محطة فرويد-.نعيد سؤالنا السابق والدائم،بصيغة مختلفة.وسؤالنا المشاكس والنقدي والافتراضي عن عالم مستقبلي بعيد،وافتراضي ايضا مع طوباويته،وكأمكان ممكن بين ممكنات اخرى واردة.ليس في ذهننا القدرة ولا الخيال على التنبوء المطابق لها.-فهل حقا سيتلاشى الاغتراب كليا في مجتمع"لكل حسب حاجته"مجتمع"اللادولة"،محتمع الوفرة والرفاه،واطلاق لطاقات الافراد في الانتاج والابداع،فيعمل الانسان ويأكل ويشرب ويتناسل دون استغلال وقهر واغتراب وكل اشكال القمع والاضطهاد،ويستمتع بحريته وحياته وكرامته كأنسان حر دون اكراه او كبت؟!.هنا ايضا كما في اغتراب فيورباخ الديني نشك ايضا بتحقيق ذلك والخلاص الكلي من الاغتراب-بغض النظر عن التطورات الهائلة في التكنولوجيا الدقيقة والطفرات والثورات في الانتاج والاتمتة والربوتية وعناصر الدهشة والابتكار المستقبلي،والاتصالات الخارقة للزمان والمكان بقفزات فلكية تركت ورائها اشباح الماضي القديم لرأسمالية القرن التاسع عشر الكلاسيكية البدائية التي عاش في ظلها ماركس واستلهمها في كتاباته-فلن يزول الاغتراب في مجتمع كهذا ان لم يتخذ اشكالا اخرى!.لانه حتى في مجتمع شيوعي متكامل يقبع في جوف المستقبل النائي كأمكان ممكن واحتمال خيالي حلمي وارد.الا ان الاغتراب سيكون كامنا هناك في اغوار النفس،وطيات العقل ماتحت القشرة المتحضرة،بل وحتى في ذات الشيوعي الطليعي كمثال نموذجي،ناهيك عن طبيعة البشر العاديين الموروثة والمكتسبة.نعم قد نكون سعداء تلك السعادة الضحلة البلهاء مع تلبية حاجاتنا وتحقيق رغباتنا الحيوية ودغدغة مشاعرنا بشتى العواطف،وخضوعنا الكامل لحكم الغرائز البدائية كميكانيكية بايولوجية بليدة خالية من العقل والمعنى!.-وهذا على افتراض التحقق الواقعي الفعلي للشيوعية دون انحراف او نكسات او كوابيس التجارب الفجة للبيروقراطيات الكابحة والكاتمة للانفاس،وصعود التسلط الحزبوي المتربع على هامات الشغيلة،حيث تتدحرج صخرة سيزيف نحو اسفل الجبل كل مرة من جديد!-.فأغترابات اخرى لم ينتبه لها ماركس ولم تكن في باله بأستثناء الاغتراب الاجتماعي.اغترابات متنوعة وموجودة هنا والان،وستبقى في ظل اي نمط جديد للانتاج وادارة المجتمع،في عقل وخيال ووجدان الانسان-انسان الكهف الغرائزي الغريب-الذي لن يجد ذاته حتى في المجتمع المشاعي الفردوسي القادم!.فمدنيته الطارئة التي تكمن خلفها البنية التحتية المعتمة من لاعقلانيته ولاوعيه ووحشته واغترابه،وادراكه المرير لوجوده العابر والمؤقت،و انفصاله عن عالمه الطبيعي الذي غادره توا مع بداية تاريخ تمدنه وانتاجه لوسائل عيشه وحاجاته،عالم ماقبل انسانية الانسان،عالم الكائنات التي لاتعرف الاغتراب.الاغتراب الذي هو لعنة كينونية لنوعنا المتطور،عندما بدأ الانسان ارتقاءه منذ ان هبط من اشجاره ليمشي على قدمين منتصبا يرطن بكلماته الاولى.من هنا بدأت قصة الاغتراب.فأغترابنا كذوات بشرية ليس طارئا او دخيلا،او مجرد وضع عابر سنتخطاه بسهولة حالما ننبذ الالهة ونغير عالمنا المختل الفوضوي الى عالم متناغم ومنسجم ومتساوي بين افراد نوعه- فيما اذا ماتحولت الطوبى والحلم الى واقع معاش!-.كلا..فالامر ليس على هذه الوتيرة والشكل،ولابهذه البساطة الخيالية.فالاغتراب ليس سبب او نتيجة،فلاعلاقة له بالظروف واوضاع الانسان الاجتماعية.انه جزء من الشرخ القديم،الانسلاخ بين ماكنا عليه وما اصبحناه كبشر.فكائن آخر يعيش بداخلنا هو مغترب دوما،يتعايش تارة ويتصارع تارة اخرى مع نده،قرينه،"انا"نا القابلة للتغيير.ذلك الانا الاجتماعي القطيعي المقلد والمؤتلف مع وسطه الجماعي،والمستجيب والمتكيف مع المتغيرات والمستجدات.اما ذلك الاخر:العبوس،العدائي،الرافض،اللحوح،الساخر ،المنزعج،العدمي،فلن يتصالح مع توأمه النقيض.فهو لايجد معنى ولاهدف ولاقيمة ولاجدوى لكل مايشكل معنى وهدف وقيمة وجدوى لدى الانا الاخرى القطيعية الاجتماعية.فالاغتراب لايوجد خارجنا،انه في داخلنا،في ذاتنا،في اساطيرنا وخرافاتنا،في ادياننا وطقوسنا،في طيات وعينا ولاوعينا،في نسيج مخيالنا واحلامنا وكوابيسنا.انه في اغوارنا السحيقة المظلمة لعقلنا ولذاكرتنا وذكرياتنا الشخصية والجمعية،وقتنا وتاريخنا،انه في"انا"نا المنقسم بين ذات واعية اجتماعية بسيطة مروضة ومقولبة في نشأتها وتطورها،وبين الانا الاخرى:الغريبة المتوحشة المتمردة الغرائزية التي تأبى الخضوع،وتزاحمنا في وجودنا،تقلقنا وتفصلنا وتلحمنا مع طبيعتنا البايولوجية والسايكولوجية والوجودية القديمة المنسجمة مع عالمها البدائي الذي انطوى ولازال عالقا بترسباته وادرانه الكثيفة بتلافيف ادمغتنا تحت قشرة الحضارة والمدنية الرقيقة الزلقة!.فحتى ذكريات حياة احدنا الواحد والتي هي لااكثر من عقود وفي نهايتها العدم! هي اغتراب الحاضر عن الماضي القريب في ارتحال مستمر وعودة ونكوص الى فترة الصبا والمراهقة والشباب التي طواها الزمن في الواقع ولكننا نعيشها في خيالنا النوستاليجي المزدهر في الذاكرة فيتداخل الومن الكرنولوجي بالزمن النفسي والزمن التاريخي والبايولوجي والكوني بحزمة من ازمنة وامكنة تعبر عقولنا كموجات صاخبة مبلبلة تقتات اغترابها كرجع بعيد متشابك!.. /سيغموند شلومو فرويد/ولد عام1856في بريتور-مورافيا التشكية حاليا،ومات منتحرا-كما يعتقد-بجرعة زائدة من المورفين في هامبستد-شمال غرب لندن عام1939-وهو طبيب اعصاب نمساوي،ورائد علم النفس السريري والتحليل النفسي.ولسنا معنيين هنا بنظرياته وطروحاته في:الهستيريا،والدافع الجنسي،والكبت والرغبات،والعقد النفسية،والشعور واللاشعور،بقدر مايهمنا بحثه المتفرد في موضوعة الاغتراب النفسي الفردي داخل الحضارة.الحضارة الغربية المضطربة كما عاشها فرويد من:نزاعات دولية وحروب وثورات ومتغيرات معتملة لاتهدأ،وصعود الفاشيات وموجة العداء للسامية التي اضطرته لترك وطنه النمسا والخروج الى المنفى-الاغتراب عن الوطن!-.كان فرويد يعتقد بوجود نزعتان متصارعتان بين الرغبة الشديدة بالحياة،وبين الميل الضمني الكامن المندفع نحو الموت.وان هناك مواجهة مستترة وحادة بين المجتمع المتحضر القامع،وبين الفرد المتمرد والرافض لكبت عواطفه وغرائزه المتدفقة اللاواعية.فالحضارة-حسب فرويد-تسعى لترويض وتهذيب -الوحش داخل الفرد-وقولبته وهندسته بالطاعة والانصياع من الخارج،وفي نفس الوقت من الداخل عن طريق رقيبه الداخلي المكتسب تربويا-اجتماعيا وتاريخيا وسلوكيا.حيث يعبر التأثير ممتدا ومتغلغلا الى اعماق الفرد السايكولوجية،لتمارس(اناه العليا)المزروعة دورها السلطوي الداخلي القامع لل(هو)الجواني كي يخضع بدوره للتطابق المتماهي مع قوانين واعراف وقيم وثقافة المجتمع،مجتمعه.لكي يقوم الفرد بردع ذاته تلقائيا بآلية الانصياع لصوت السلطة الاجتماعي والدولتي واناه المراقبة-المخبرة!.وبالاضافة للصراع بين المجتمع والفرد،ينشأ صراع آخر بين الفرد وذاته المنقسمة،صراع بين رغباته وغرائزه الفائرة المكبوتة التي تنشد الانطلاق والتحرر من القيود،وبين رقيبه البوليسي،وبين نظام المجتمع القاهر لكل خروج او مروق على معاييره المقررة.وهذا التوتر هو مايسبب القلق،واحتدام الثورة داخل الفرد ضد السائد والمقبول العائلي والمجتمعي والسلطوي.فينبثق الاغتراب النفسي ويعشعش،متحولا الى ظاهرة بنيوية لسايكولوجية الفرد المغترب عن الحضارة القائمة.والفرد المغترب يغدو عدوا للمجتمع والحضارة.فمن اجل ان يحمي المجتمع نفسه من العصيان الفردي المهدد لوحدة المجتمع بالفوضى والتفتت،يلجأ لكبح رغبات الفرد واهواءه الخارجة عن السياج الصراطي الحافظ،والذي بنته البشرية عبر تطورها وتحضرها بمشيداتها التنظيمية وهندسة الفرد والمجتمعات..اما فرويد فيعتقد بأن الانسان الفرد غير اجتماعي بطبيعته،ويميل الى التمرد على المدنية بموجات طاقات الغرائز الثائرة وغير المشبعة،والتي يعتبرها المجتمع تهديدا خطيرا لاسس ومرتكزات الحضارة،والتي تؤدي اذا ما اطلق لها العنان الى زعزعة الاستقرار وخراب الحضارة.فالاغتراب النفسي لدى فرويد يكمن في صلب الحضارة البشرية التي تجعل من الفرد مغتربا عن مجتمعه ومغتربا عن ذاته،وعن الآخر. والسؤال اليذي يطرح هنا هو:ماهي العلاقة بين الحضارة والاغتراب النفسي الفردي بتصور فرويد؟!.في كتابين لفرويد-واللذان بمثابة الحصيلة التأملية لفرويد حول الحضارة الانسانية وسلبياتها المنعكسة في اغتراب الفرد-نشرا عام1928-1929-الاول كان بعنوان:"مستقبل وهم"والذي اكد فيه فرويد على ان الدين ليس اكثر من وهم بشري،واماني انسانية خيالية عقيمة.اما الكتاب الثاني وهو:"الحضارة وماتنطوي عليه من عدم الرضى"والذي ترجم الى العربية بعنوان"قلق في الحضارة".في هذين الكتابين يجيبنا فرويد على السؤال اعلاه،وجوابه يستند على ان الحضارة هي انجاز جبار ومن صنع الانسان بلاشك،ونتيجة لعمله ومثابرته وبفضله تم تحقيقها.ولكنها وفي نفس الوقت كانت وبالا عليه ككيان فردي عقلي ونفسي يصبو لتوكيد ذاته وطاقاته النفسية بلا تكبيل.حيث انتصبت الحضارة كقوة قاهرة وعدائية ضده.فالانسان تمكن وبنجاح في محاولته لترويض الطبيعة واستغلالها لاغراضه من ان يحقق عمارته الحضارية السامقة من خلال اخضاع تلك الطبيعة بعمله لغاياته ومراميه.ولكنها كانت له ايضا-الحضارة-ذلك الغريم المعادي الذي كبت اهواءه ورغباته وغرائزه الدفينة.يقول فرويد واستنادا لمقدماته هذه،بأن كل فرد هو بالضرورة عدوا للحضارة،لانها الكيان الذي يقمع ذاته النفسية ويقيد غرائزه.وبالنسبة لفرويد ف"الانا العليا"الاجتماعية-الاخلاقية-القيمية،هي المحدد للسلوك والشعور الفردي الضابط والجامع بين افراد المجتمع.وهي مجموعة القيود الثقافية،والتعاليم والقيم الاخلاقيةوالدينية والوضعية المعترف بها اجتماعيا وقانونيا.هذه الاغلال المعيقة والقامعة لحريات ورغبات وغرائز الفرد اللاواعية،والقمع الجنسي-العاطفي هو قمع اجتماعي حقا ضد الفرد المنشق الناشز عن الحضارة.الحضارة التي هي على العكس تنمي الضبط والمراقبة والسلوك القطيعي المستحسن والمقر من قبل الهيئة الاجتماعية ضد كل الدوافع البدائية البرية الاصيلة،والتي تحكم لاوعي الفرد بتاريخه البايولوجي الطبيعي،وتحاول الظهور والتعبير عن حاجاتها لتطمينها واشباعها.ومن اجل العيش في مجتمع حضاري متماسك موحد،فيجب على الفرد ان يضحي بكل محفزاته ونزعاته وطاقاته الداخلية الخفية الحبيسة،او ان يعيش الفرد اغترابه النفسي عن نفسه وعن الآخر وعن الحضارة،حيث يواجه ويعيش الانسان تناقضه الدائم بين واجب الفرد الاجتماعي بحماية الحضارة التي يعيش بكنفها وتحميه وتحتمي به،وبين الخروج والانسلاخ والانخلاع من المجتمع بغية تحقيق ذاته الفردية من خلال فك اسر دوافعه البيولوجية والنفسية الاصيلة،والتي يدجنها المجتمع بتلطيفها ونزع اظافرها لاقصى حد ممكن من الترويض كحيوانات منزلية اليفة!.وسيكون ثمن التضحية بالدوافع الجنسية والنفسية باهضا جدا وهو الاغتراب المتأصيل بين الفرد والحضارة. لذا يمكن القول ان العلاقة بين الانسان والحضارة هي علاقة"عصابية"متوترة وصراعية لاتهدأ،ويستعين فرويد لدعم اطروحته بشواهد تسندها في تفسير اغتراب الفرد النفسي عن الحضارة،يستقيها من ماضي الانسان البدائي.منها:كتاب"الغصن الذهبي"لفريزر،وايضا من نظرية التطور لدارون..ففي المجتمع البدائي-وفق فرويد--هيمن الاب على جميع الذكور،وكانت جميع النساء تحت سيطرته،وهذا ما اثار حفيظة وحنق رجال القبيلة،فقتلوه وأكلوه،ولكنهم عانوا بعد ذلك من فصام نفسي-عاطفي مؤثر من شعورهم بالآثم والذنب والحب للاب من ناحية،وبين الكراهية والعداء له من ناحية اخرى.وكماهو معروف عن فرويد وبتصوره،ان مرد ذلك يعود ل"عقدة اوديب"القائمة على جريمة قتل الاب،وكتبعة ونتيجة لهذه العقدة الاصلية نشأ لدى الانسان-مااطلق عليه فرويد-"الانا الاعلى"وهو الانا المراقب والزاجر والمعاقب،اي الضمير الاخلاقي الرادع والمترصد والمانع من تكرار ذلك الفعل الجنائي الشنيع القديم الاول.هذا الانا الاعلى-الاخلاقي المتزمت والصارم كان هو البذرة الاولى التي انتجت الدين،والتي وفقها احال الانسان عناصر الطبيعة القاهرة والغامضة التي تحيط به الى كائنات وهمية غريبة هي: الطواطم والالهة والارباب،ومنحها واسقط عليها خصائص الاب البدائي من قسوة وانتقام وحب ورعاية-وهذا مقارب سايكولوجيا لرؤية فيورباخ عن الاغتراب اللاهوتي،مع الفارق في المنطلقات والتفاصيل!-.ومن خلال ذلك الانا الاعلى الحاكم،بات الانسان كائنا اجتماعيا واخلاقيا ودينيا احاط نفسه بأسوار النواهي والتحريمات. ولكن هذه الوضعية المشرعنة-المقوننة ذاتها كانت ضد الانسان،والذي في نفس الوقت يجد سلواه وعزاءه في الدين ونظامه،ومع ذلك لم تكن تلك القناعة كافية ومجدية لان الدين-كما يقرر فرويد-هو مجرد وهم لااكثر-وهنا ايضا يقترب فرويد من فلسفة فيورباخ واغترابه الديني!-.بأسقاط صفات وخصائص الانسان الحقيقي الطبيعي على كائن وهمي هو(الله)مع انها صفاته الجوهرية هو كأنسان!.فمن اين يأتي الاغتراب اذا ويصيب الانسان؟!.هذا السؤال يجيب عليه فرويد:انه يأتي من الحضارة!.فالحضارة نفسها هي علة الاغتراب النفسي الفرويدي. ويفسر فرويد ذلك ب:تنازع صراعي داخل الفرد بين رغبته بتدمير الحضارة لانها لاتفوم وتستوي الا بلجم وتكميم وردع وحرمان الانسان من اطلاق غرائزه واشباعها بتفريغها،وبين شيوع اغتراب الفرد عن الحضارة وعن ذاته وعن الآخر.حيث يخضع الفرد لسيطرة الوعي الضابط و المنضبط على اللاوعي المنفلت والتحكم به.هذا الكبت للنوازع اللاواعية المدمرة هو ماكانت تتطلبه الحضارة لتستمر وتزدهر.فالاكراه الحضاري وتقييد الغرائز،ولجم الفرد هو الاساس الذي تقوم عليه كل حضارة،ولكنه وفي نفس الوقت هو المفرخ الدائم لاغتراب الفرد عن مجتمعه،ولن يحدث تصالح بين طبيعة الفرد البرية الحرة،وبين اقفاص أسر الحضارة!.هذا ماارتكز عليه منهج التحليل النفسي الذي ابتدعه فرويد،والذي ينصب على تحليل اللاوعي،ومايعتمل في اغوار النفس البشرية الجوانية من رغبات واهواء وغرائز مقموعة اجتماعيا.ومن اجل ان ترضي المجتمع عليك ان تضحي بغرائزك ودوافعك ورغباتك الدفينة.ومايجري كبته على مستوى الروح بالدين،يجري كبته ماديا ونفسيا بالحضارة!. وماذا عن الوعي؟...رحلة الانسان التاريخية،وفي فترة القنص والصيد الطويلة،والتي كانت توحد الانسان بالطبيعة بشكل غير واعي،وبعد ان توارت وانتهت لاسباب تاريخية واقتصادية وبيئية وديمغرافية،وعوامل موضوعية اخرى،نشأت بعدها وفي مرحلة الحضارةالزراعية الاولى علاقة جديدة ومختلفة بين الانسان والطبيعة قائمة على الانفصال بينهما.حيث بدأ وعي الانسان بالاغتراب عن محيطه ونفسه.فالعلاقة بين الانسان والطبيعة هي علاقة عامودية وليست افقية.وهذا يعني ان من الممكن ان يتجاوز الانسان الطبيعة،وبمعنى آخر ان قدرة الانسان الفائقة على تغيير الطبيعة،وتغييرها يعني ببساطة انسنتها،وانسنة الطبيعة وطبعنة الانسان،يعني الوعي بوحدة الطبيعة والانسان والعودة مجددا لتماهيمهما معا- وهنا من جديد اصداء فكرة ماركس عن العمل المغترب والاغتراب الديني لفيورباخ-.ولان انسنة الطبيعة لم تحدث تماما لحد الان،وبالتالي يبقى الوعي غير مكتملا،وتمام اكتماله هو بتمام وحدة الانسان الكاملة مع الطبيعة.وهذه الوحدة المنشودة-عبر فيورباخ وماركس وفرويد-تهيء لازالة الاغتراب!. بعد عرضنا الموجز لثلاث أنماط ( نماذج )
نوعية متميزة من الاغتراب في السرديات الحديثة ، و بالرغم من الاختلاف والتفاوت في الفهم و التفسير و التحليل لماهية و أشكال و وجوه الاغتراب التي بُحثت كأسباب تارة و كنتائج تارة اخرى ، او كجزء من البنية السيكولوجية التكوينية للانسان ، عند : فيورباخ ، و ماركس ، و فرويد . مرة كأغتراب لاهوتي ، و مرة كعمل مغترب ، و مرة كأغتراب الفرد النفسي عن الحضارة . و مع الاختلاف في التناول و المعالجة لظاهرة الاغتراب ، الا ان هناك وشيجة جامعة تربط مابين مفاهيم و تصورات الثلاثة بخيوط نسيج واحد ، و خلفية سيكولوجية متشابهة وحدتهم بقراءة الاغتراب كعلاقة بين :الانسان - الفرد - الذات ، و بين مايتصوره روحياً - وجدانياً ، و ما يخلقه او يصنعه او يبتكره او يشيده الانسان بنفسه من قيم مادية و انجازات ، و يغترب عنه في نفس الوقت . هي علاقة سايكولوجية اساساً لأن طرفها الدائم هو الانسان . فالدين كتجريد هو اغتراب روحي - عقلي للانسان عن ذاته و صفاته و طبيعته . كما ان العمل المأجور المغترب هو استلاب مادي ، و ايضا نفسي للعامل المنتج عن ما ينتجه من سلع . و الحضارة كعمران و تنظيم اجتماعي هو اغتراب نفسي مزدوج للفرد عن ما انجزه و أقامه من حضارة و عمارة و تطور ، و انسلاخه و غربته عما ابدع و حقق ، و لكن كل هذه التمظهرات المتنوعة لوجوه الاغتراب المتعددة تبقى متصله و متداخلة بمشترك سايكولوجي واحد - انساني ، فاعل و منفعل ، مؤثر و متأثر ، ذات و موضوع . فالانسان هو الجزء الثابت في معادلة تلك الاغترابات ذات السمات المتغايرة و المتباينة : دينياً ، اجتماعياً ، حضارياً ، و المتحدة انسانياً . الذات - الدين / الذات - العمل / الذات - الحضارة . فبالنسبة لفيورباخ الذي كان يعتقد بأن زوال الاغتراب الديني هو ممكن ،.و لكن مشروط بأدراكنا لغربتنا الدينية كأسقاط بشري و همي لجوهر الانسان ذاته على كائن مصطنع و متوهم هو ( الله) . وحين نعي ذلك و نفهمه سنتحرر منه و من كل الاغترابات . و قد ذكرنا انه ليس (المؤمن ) فقط بالدين هو المستلب، بل ايضاً: ( الملحد ) و ( اللاديني ) و ( اللاادري) و كل من هو متحرر و خارج الدين يعانون ايضاً من اشكال اخرى من الاغتراب . و بغض النظر عن طبيعة ذلك الاغتراب . فنجد امامنا بديلاً للاغتراب الديني هو الاغتراب ( الالحادي) اللاايماني !. و كذلك الامر ينطبق على اطروحة ماركس : فالعامل مغترب عما ينتجه من سلع ، و الرأسمالي ايضاً مغترب عن ما يتملكه و يحصل عليه دون المشاركة في انتاجه !. و تلك مفارقة غريبة : أن تملك فأنت مغترب ، و ان لا تملك فانت مغترب كذلك . فهل الاغتراب طبقياً كما يقرر ماركس؟! و ماذا عن بقية الطبقات غير المنتجة و غير المالكة؟!. لقد اعتقد ماركس بأن زوال الاغتراب مرتبطاً بزوال الملكية الخاصة ، و العمل المأجور ، و زوال الطبقات و اضمحلال الدولة و زوالها ، و تحقق المجتمع المشاعي في الانتاج و التوزيع و الاستهلاك ، اي اشباع الحاجات البيلوجية الغرائزية الضرورية للبقاء و هذا لن يتحقق كما نعتقد و كما بينا : زوال الاغتراب في المجتمع الفردوسي الطوباوي قطعاً !. أما فيما يتعلق بفرويد ، والذي كانت له قواسم مشتركة مع فيروباخ و ماركس في نزعتهما المتفائلة المادية و المؤمنة ايديولوجياً بزوال الاغتراب بتوفر شروط زواله ، والذي قال :" لا شك ان الانسان سيتوصل يوم يقطع رجاءه من عالم الغيب ، او يركز كل طاقته المحررة على الحياة الارضية ، ان يجعل الحياة قابلة للاحتمال من قبل الجميع و لن تسحق الحضارة بعدئذ احداً " . و مع ان هذه الكلمات هي مجرد امنية عامة وكلام مرسل على عواهنه و تمني غير قابل للتحول الى واقع ، الا ان فرويد كان مرتاباً بل يائساً من زوال الاغتراب ، فهو واحداً من قلة اعتقدت بأستحالة زوال الاغتراب النفسي للانسان و هو يواجه و يصارع مارد الحضارة بعدائية و حرب دائمة . فمن اجل القضاء على الاغتراب الديني ازاح فيورباخ الله - الانسان المقدس ليضع بديله الجديد المطلوب : الانسان - الله ! و من اجل ازالة اغتراب العمل نحى ماركس ( انسان ) فيورباخ المجردالخيالي اللاتاريخي ليضع مكانه الطبقة العاملة المتصورة كفارس نبيل و محرر لنفسه و للمجتمع من الاستغلال و الاستلاب ، و كأداة اجتماعية - اقتصادية للتغيير و غاية تاريخية مهمتها أزالة نفسها كطبقة و معها كل الطبقات ، و قامة المجتمع المشاعي السعيد! . أما فرويد فأبد التناقض بين الحضارة و الفرد و بين التاريخ و الطبيعة فهو واحد من نزر يسير ك ( روسو ) و ( اريك فروم) وأخرين اعتبروا الاغتراب ظاهرة بنيوية تتسم بالديمومة المصاحبة للانسان - الفرد- و المعارضة للحضارة المجتمعية و أستبعد اي نهاية للاغتراب الا بتوفر ظروف التحرر الكامل من الدين - و هذا غير وارد !- و ايضاً بجعل الحياة الارضية قابلة للاحتمال بتقبل الفرد و تصالحه مع واقعه الحضاري و التكيف التوفيقي مع متطلباته من كبت و أخضاع و قطيعية - و هذا ايضا مستبعد!- . لكن فرويد ايضاً اخطأ عندما اختزل الاغتراب الى مجرد اغتراب نفسي دائم عن الحضارة ، فحضارة فرويد - التي عاش في كنفها- في العصر الفكتوري الطهراني على المستوى الاخلاقي - القيمي المحافظ في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين عندما كانت الضغوط الاجتماعية و الاقتصادية و الجنسية تسحق الفرد و تطلعاته و اندفاعاته النفسية . و لكننا اليوم و في عالم مابعد الصناعي المهول في تقدمه ، و بالرغم من كسر اغلب التابوات و الممنوعات ، و ترك حبل الحريات على الغارب للفرد، حيث فسحت الحضارة المجال و قدمت تنازلات كثيرة للفرد في ممارسته لحريته الفردية ، و اطلاق العنان لنزعاته الجنسية بلا رادع ، فهو يستطيع ان يفعل ما يشاء في حياته ، فتقلصت الفجوة المتناقضة بين الفرد و الحضارة . و مع كل ذلك نجد نسبة عالية من حالات الانتحار في اكثر تلك المجتمعات رفاهاً و حرية و تحضر !- و كما نعرف فأن الانتحار هو احد الظواهر النوعية الدالة على تجلي الاغتراب و بأجلى معانيه !- اذاً فالحضارة ليست سبباً وحيداً لاغتراب الانسان المعاصر ، و ابعد من ان تكون علته الوحيدة هي الحضارة فقط . و رغم وجاهة و طبيعة نظرية فرويد ذات النزعة السيكولوجية و التي تعتبر الحضارة المادية مضادة لكينونة الانسان و نقائه ، و اسبقية الحس الغرائزي على الوجود المادي ، والذي يعلي من شأن العنصر السيكولوجي على موضوعية الظواهر الاجتماعية - السياسية - الاقتصادية ، كدالة حاسمة للشعور و اللاشعور . الا انها تبقى قاصرة عن تفسير الاغترابات الاخرى خارج نطاقها الضيق . و ما نعتقده أن لا الاغتراب الديني ( فيورباخ) و لا اغتراب العمل ( ماركس ) و لا الاغتراب النفسي الحضاري للفرد ( فرويد) يغطي كل وجوه ظاهرة الاغتراب المتعددة و المتنوعة . و التي يعاني منها انسان القرن الواحد و العشرين . أريك فروم الذي حاول ان يطعم علم النفس و التحليل النفسي بالمنهجية الماركسية و الفكر الاجتماعي اليساري مع قدر كبير من المرونة و الانفتاح المتفائل بمستقبل اكثر اشراقاً و املاً يقول في احد كتبه : " حين يوسع الانسان حريته يقع تحت عبئها ، و بابتعاده عن الدين و تقديس الالهة يكون قد خلق لنفسه أقانيم جديدة ، وبتجاوزه لبعض أشكال الاغتراب يصبح الانسان أكثر اغتراباً ، وسواء أكان عن نتاج عمله، ام عن الاخرين ، ام عن نفسه ، مما يولد لديه اللامبالاة و الاكتراث بالحياة و حنيناً لاوهام الماضي للاندماج بالطبيعة فاقداً فرديته و تفرده ككائن بشري " - انها نفس رؤية فرويد بالضبط - فحتى لو زالت الاشكال القديمة للاغتراب من : دينية و اجتماعية و حضارية ، فهناك اغترابات اخرى جديدة تنشأ و تتناسل و تتطور مع تطور الحضارة . و لا منجى من الاغتراب مع ذات غريبة تفقد باستمرار فرديتها و طبيعتها و كينونتها البشرية الضائعة !.. دافع الانسان عن نفسه ودائما ضد الطبيعة وانتهكها،وضد الآخر وقمعه.وصنع حضارة مبنية على القوة والسيطرة والتسلط،وزرع الخوف والاتكال والتنافس.فكل ماقدمه الانسان من تقدم ورقي وتطور تقني وعمراني،نعم وفر قدرا وبعض الرفاهية والعيش المريح،ولكن بموازاة ذلك ابتكر آلات العنف والتدمير من اجل الحفاظ على الهيمنة والتنافس المميت،فصرنا اكثر وحشية من الحيوانات المفترسة-الحيوانات التي هي اكثر (انسانية)في تعاملها مع بعضها البعض-فكل مكتشفاتنا العلمية وظفناها للشر والحروب فحضارتنا متعفنة وخاطئة منذ بايتها ونستطيع ان نقول حتى نهايتها الهمجية.فعندما تتصدع اسس النظام الاجتماعي القويمة فأن ذلك التصدع والتمزق يتمخض عن ذلك الذي اطلق عليه اميل دوركايمanomieوهي الحالة التي تعبر عن ذلك الفراغ او الخواء الاجتماعي،وبمعنى اخر:الاغتراب،لان الوجود الفردي يصبح منقطع الجذور مع البيئة الاجتماعية الحاضنة،المتماسكة والمحافظة على لحمة المجتمعات،حيث تسود مظاهر الاغتراب من:الانتحار والجريمة والفوضى،فتفقد دوافع الحياة اتجاهها ومعناها،فيطغى التنافر والاغتراب دليلا على اختلال العلاقة بين الانسان واخيه الانسان،وبين الانسان وبيئته.فبون شاسع بين تطورنا المادي،وبين تطورنا النفسي-الروحي.فالحضارة التي يعيشها الفرد المنسحق هي حضارة مريضة ومرعبة ومن البدء،وربما فات الاوان على التغيير!. هناك اشكالاً و وجوهاً عديدة اخرى غير التي عرضناها للاغتراب، منها : الاغتراب الميتافيزيقي - اغتراب الانا عن ذاتها- و الاغتراب الانطولوجي - حيث تقود الحياة الانفعالية الى محض ألية الاستجابة الحيوانية للمؤثرات- و الاغتراب الوجودي - حيث تعيش الذات تجربتها الفردية الخاصة في نطاق الانا افكر ( الكوجيتو الديكارتي) - ، و ايضا الكثير مما يُستجد من انواع جديدة من الاغترابات مصاحبة للتطور و المستحدثات من التقدم العلمي و التكنولوجي ، كالاغتراب التكنولوجي بمعانيه و دلالاته الواسعة و الشاملة لكل مظاهره الملموسة التي نراها اليوم : من عزلة و اغتراب ، و لا انتماء ، و انسلاخ الفرد عن نفسه و مجتمعه ، و تحوله الى عبد للاتمتة المغربة. فنرى الفرد مجرداً من انسانيته و مختزلاً الى سمارت فون او حاسوب او لوح الالعاب الالكترونية او غيرها من مبتكرات الاغتراب الجديد و المتشعب و القادم اكثر هولاً و غرابة!. كتب الفيلسوف الايطالي مارسيليو فيتشانو لأحد اصدقائه قائلاً :" لا اعلم في هذا الوقت ماذا اريد ، و ربما ايضاً لا أرغب في ما اعرف ، و اريد ما لا اعلم "! ما قاله هذا الفيلسوف الحائر هو أحد اقفال الاغتراب العصية على الفتح ، القفل الذاتي الطلسمي المحير ، و الذي يحتاج لمفتاح فريد من نوعه ، ليفتحه !. فهو اية من ايات الاغتراب الانساني الاشكالي ، و مأزق تكويني دون انفراج او حل !. فلو تطلعنا حولنا بحثاً عن ماهيات الاغتراب و رصد حالاته و تمظهره ، فأين نضع مثلا اغتراب " ميرسو " غريب كامو - الذي ازعجته الشمس فأرتكب جريمة قتل اعتباطية دون مبرر!- في تصنيفات اشكال الاغتراب ؟! . و أين نضع اغتراب كافكا - عن تسلط الاب ، و بيروقراطية ساحقة لحرية و أختيار الفرد ، وقدرية الوضع البشري التي تحول الانسان الى حشرة ؟! . و ماذا عن اغتراب "ادغار الن بو " - الذي مات غائباً عن الوعي بتأثير الكحول و الافيون هارباً من اغترابه ، وغرابه يقرع بابه وسط سكون منتصف الليل ؟! . وفي اي خانة نصنف اغتراب " رامبو" - الذي ترك باريس و الحضارة الاوربية الباردة ليموت مجهولاً منسياً لاغياً شعره في قيض ملتهب لصحراء الحبشة القاحلة !-؟! . و ماذا عن اغتراب ابو حيان التوحيدي - المغترب الاكبر الذي عاش قبل الف عام - و هاكم وصفه لاغترابه و كما دعاه هو ، يقول التوحيدي :" قد قيل : الغريب من جفاه الحبيب ، وأنا اقول : بل الغريب من واصله الحبيب ، بل الغريب من تغافل عن الرقيب ، بل الغريب من حاباه الشريب ، بل الغريب من نودي من قريب ، بل الغريب من هو في غربته غريب "!! . ويقول ايضاً " أين انت من غريب لاسبيل له للاوطان ، ولا طاقة به على الاستيطان "؟! غربة مركبة كثيفة عميقة قلقة ، فهو يغادر غربته الى غربة اخرى، الى اخرى، كغريبٍ حق عندما يشعر بأن غربته نفسها قد تحولت الى وطن فينسحب منها الى غربة اكثر نأياً و تطرفاً ، فوطنه غربته و غربته وطنه ، بلا توقف ، فأي اغتراب هو هذا و هو بوسع الوجود ؟!. فأذا كان الاغتراب و لدى التوحيدي بهذا التعقيد و العمق الاشكالي التراجيدي ، وهو الذي عاش في القرن الرابع الهجري ، فكيف سيكون شكل اغترابنا نحن بناء الالفية الثالثة؟!. و هناك الكثير من النماذج المستلبة العصية على التفسير و الوصف و التصنيف في الخانات التقليدية المعروفة من الاغتراب - ان تكون كاهناً، درويشاً ، مؤمناً بالدين، ملحداً ، زنديقاً ، لا ادرياً ، متحرراً من الأيمان بكل اشكاله ، غارقاً بالدين الى درجة التصوف و النسك ، عاقلا ام مجنونا،عاملاً، برجوازياً ، راعياً للغنم ، او اي من الطبقات الاجتماعية ، أو الجماعات او الطوائف و الاقليات ، ان تكون و سط الحضارة و قلب المدنية ، او في عمق الصحراء و بعيداً عن العمران ، منتمياً او لامنتمياً ، كن من تكون ، و كيف تكون فالاغتراب في داخلك يعتاش و يتغذى من عقلك و مخيلتك و تصوراتك و اسئلتك ، و احلامك و كوابيسك ، من امالك و أحباطك ، من غضبك و سكينتك ، من قلقك و بؤسك ، من تصالحك مع واقعك و مصيرك ، من ثوراتك و تمردك و خروجك عن المعايير .. في كتابه " فينومنولوجيا الروح" و في الفصل المعنون " الوعي الذاتي " يعتقد هيجل - وهو على حق- بأن الحياة نفسها هي طاهرة غريبة عنا نحن الاحياء !. فالوعي الذاتي هو وعي انساني بالحياة ، و لكن هذا الوعي يبدو و كأنه شخصاً اخر غير الذات !. فأنا ارى ذاتي خارج ذاتي ! وهذا الاغتراب الانطولوجي سيبقى ملازماً للانسان دائماً و ابداً . أما روسو ، فيعرف الاغتراب في كتابه :" العقد الاجتماعي - و روسو يعتبر أول من كتب عن ظاهرة الاغتراب في العصر الحديث - قائلاً :" ان تغترب يعني ان تعطي او تبيع ، فالانسان الذي اصبح عبداً للاخر لا يعطي ذاته ، انما يبيع ذاته على الاقل من اجل بقاء حياته. أما الشعب فمن اجل ماذا يبيع ذاته؟" . و هنا يميز روسو - حسب تصوره- بين العطاء والبيع، فالعطاء مجاني بلا مقابل ، اما البيع فينطوي على التبادل شيء مقابل شيء ، وروسو يرى هنا بأن يعطي الانسان ذاته مجاناً هو محال و غير متصور و اعتماداً على ان من يقوم بفعل العطاء هو قطعاً مجنون ، والجنون لا يولد اي حق . اذاً فالاغتراب عند روسو هو اغتراب جزئي و ليس اغتراباً كلياً . اما اغتراب الشعب فمن الممكن ان يكون كلياً اذا احال نفسه و خضع لسلطة مطلقة ، و طالما ان الملكية الخاصة هي السائدة فلن يزول اغتراب الانسان . و قد نقده هيجل على تناوله المجرد للاغتراب . و لكن يبقى روسو هو الاكثر قنوطاً من اضمحلال الاغتراب و اختفائه . فهو يقول في مقال له عن اصل التفاوت بين الناس ، عندما اشار الى الملكية الخاصة و المنافسة كعلة رئيسية للاغتراب: " ان الانسان بطبيعته مغترب و لن يصل للاكتفاء الذاتي او يبلغ الكمال "- هل كان روسو هو الاب الفكري الروحي لماركس - و هو يتحدث هنا عن الملكية الخاصة و المنافسة كعلة رئيسية للاغتراب؟! .- في عنوان مقالي و في شطره الثاني ذكرت :" تداعيات اغتراب ذاتي خارج النسق " و قد تعمدت ذلك لابين انها وجهة نظر فردية خارج انساق و نظريات و طروحات محددة تصدت لمشكلة الاغتراب ، و ادعت الحلول الناجعة للقضاء على هذه الظاهرة الانسانية الملموسة في تجلياتها و صورها العديدة المصاحبة للوجود الانساني . و هي تداعيات بالمعنى الفكري و النفسي و الادبي تتأمل في كنه و ماهية الانسان ككائن هو الوحيد بين كل الكائنات الحية المرتبط بنيوياً و المدرك لاغترابه . و يبقى السؤال عالقاً و قيد التداول و الطرح و الديمومة ، السؤال المركزي الذي لن يقبل باي جواب مبتسر و جزئي يختصر الظاهرة الاغترابية بعامل واحد او اكثر و هو السؤال الذي نختم به مقالنا : اذا كان الاغتراب صحيحاً ام خطئاً ، فهل هو جوهرياً و بنيوياً و تكوينياً في الانسان ؟ اي هل هو جزء من بنيته و تركيبه و صميم التكوين الوجودي الانساني الداخلي ، أم هو العكس ، مجرد ظاهرة طارئة و عرضية و خارجية ترتبط بشرط الظروف و الاوضاع الاجتماعية - الاقتصادية - السياسية - و مدى التقدم في الوضع البشري ؟ يجيب على هذا السؤال طرفان متناقضان - و لازال الجدل قائما و محتدماً بين نعم و لا! . الطرف الاول وهم غالبية علماء النفس و المفكرين الماركسيين يجيبون بنعم على كون الاغتراب ظاهرة مؤقتة تتعلق بالظروف الاقتصادية - الاجتماعية و الثقافية و ستزول حتماً بزوال عللها و اسبابها لانها تنشأ اصلاً وسط بيئة نفسية ملائمة و ظروف اجتماعية ، و اوضاع اقتصادية خصبة تساعد على استنبات عوامل و شروط الاغتراب . و من الممكن ان يعود الانسان الى طبيعته الانسانية النوعية المتصالحة و المنسجمة و المتوحدة مع عالمها و ناسها ، اذا ماتلاشى الدين من خيال الانسان و تفكيره، و اذا ما تحقق المجتمع المشاعي المثالي و يملك فيه الانسان زمام القرار في حياته و ما ينتجه ، و في نظام اجتماعي يساهم في بناءه كل افراده دون استثناء بمساواة و حرية ، و في الجانب النفسي يمكن ان يعود الانسان الى طبيعته السوية المندمجة في وسطه الاجتماعي من خلال دور المحللين النفسيين و الطب النفسي و لتسود العلاقات المتوازنة بين كل افراد المجتمع ، فلا يعود هناك اغتراب !. أما الطرف الثاني المضاد فهم الفلاسفة النهلستيون و الوجوديون و قسم من علماء النفس و الاجتماع . و الذي يقول لا- لانهاية لاغتراب الانسان ، فهو داخل النسيج التشكيلي للانسان ، فنحن محكوم علينا بالاغتراب - كما يقرون - فأن الاغتراب هو جزء من التكوين العقلي و النفسي و البايولوجي و الوجودي للانسان . فأن تقول انسان يعني ان تقول الكائن المغترب ! . و مهما بذل او حاول الانسان التملص و الفكاك من وضعه التراجيدي البائس و المعذب ، فلا من خلال الحرية ، و لا من خلال التحرر من الاوهام الدينية ، و لا من خلال تجسيد الاحلام و الاماني الطوباوية و الخيال الفردوسي ، و لا من خلال تغيير العلاقات الاجتماعية او تحرير العمل، و لا من خلال اشباع حاجات الانسان البايولوجية . كل هذا لن يشفي الانسان من مرضه الوجودي و الولادي الكوني ... الاغتراب و منذ بدء الوجود و حتى الموت سيعيش الانسان مغترباً لان الحياة نفسها ، الوجود الانساني نفسه هو اغتراب!. فالحياة هي مجرد فاصل قصير بين عدم ماقبل الوجود ، و عدم ما بعد الوجود ، فاصل فيه الكثير من الاغتراب و التفاهة وربما القليل من الاغتراب و الكثير من التفاهة !!... نأتي الى الوجود وحدنا ، و نغادره ايضاً وحدنا ، ولا يوجد اسوء من موت الانسان وحيداً ، و مع ذلك فالجميع يموت وحيداً . الحياة بائسة جداً و تافهة ، و لكننا نلطفها بالاوهام و المشاريع ، و من المستحيل ان نعيش دون اوهام و غايات و لكننا مهجورون ليس فقط من الاخر الغريب ، بل و مهجورون من ذواتنا و هذا الانفصال عن الذات هو الذروة في الاغتراب! ...
#ماجد_الشمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رداء الوضع البشري وفضيحة الفايروس!
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(14-الكامل).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(13).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(12).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(11).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(10).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(9).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(8).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(7).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(6).
-
ايوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(5)
-
ايوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(4)
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(3).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(2).
-
أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(1).
-
الانقلاب الوظيفي والقيمي لاثداء النساء!.(7-الكامل)
-
الانقلاب الوظيفي والقيمي لاثداء النساء!.(6)
-
الانقلاب الوظيفي والقيمي لاثداء النساء!.(5)
-
الانقلاب الوظيفي والقيمي لاثداء النساء!.(4)
-
الانقلاب الوظيفي والقيمي لاثداء النساء!.(3)
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|