أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - يوسف الطاهري - الاختطاف كمقدمة لاغتيال المجتمع والانسان















المزيد.....



الاختطاف كمقدمة لاغتيال المجتمع والانسان


يوسف الطاهري

الحوار المتمدن-العدد: 477 - 2003 / 5 / 4 - 14:53
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


                                                                                            
  

-  معتقل سياسي مغربي سابق


 الاختطاف كمقدمة للاغتيال السياسي                                    
 يشكل الاغتيال االنتيجة الأقصى للإ ختطاف السياسي . حيث يفترض الجلاد أن أقصى ما يصل إليه في عملية تعذيب ضحيته ، هوتوقف دقات قلبه عن النبض . ولأن ذلك يتم بعيدا عن العيون، داخل الدهاليز التي لا تسمح بإثارة حدس الآذان . فيمارس أقصى ما تصل قوته وعبقريته في تعسير عملية التعذيب.
والاختطاف ممارسة حيوانية. فيعرف به الثعلب و يمارسه ضد فريسته الضعيفة جسديا . فيتحايل عليها ويوفر كل ما يجعل عملية الخطف سرية . لايختلف الجلاد الذي يمارس الاختطاف السياسي في ممارسته عن تلك الأساليب الحيوانية رغم ما قوت عنده عبقرية الانسان . فهو كما الثعلب جبان ولا يملك مشاعر قوية توقف غريزته الحيوانية في سفك الدماء وإذلال الانسان . ولا يدع للمختطف أي فرصة للتنفس ، والتمتع بحقوقه الطبيعية مثل الإقامة والتغذية والتطبيب.
 .يشترك في هذه الصفات مختلف أنواع الجلادين . سواء منفذ عملية الاختطاف أو عملية التعذيب أوالاستنطاق أو صاحب الأمر في عملية الإختطاف المتموقع في منصات السيادة والطبيب الذي يسهر على علاج المختطفين.
 وأي علاج ! فالطبيب يتحول إلى جلاد ، وقد ذكر احمد بن جلون في أحد تصريحاته للصحيفة  بشأن اختطافه سنة 72، كيف تحول الممرض الذي تقدم إلى علاجه بالتعفن الذي أصاب أحد أصبعه ، إلى عنصر للترهيب النفسي . وقد تعرض معتقلي 84  في إضراباتهم عن الطعام إلى تدخلات بعض الاطباء والممرضين. والذين اصبحوا جلادين بمعنى من المعاني، حيث تحايلوا بطرق شتى لإرغام المعتقلين على توقيف إضراباتهم، من خلال إبداع وسائل حديثة  لتطعيمهم عنفا . اذكر مثالا على ذلك ما تعرض له معتقلي السجن المدني بوجدة حيث تم نقلهم عنفا مرارا إلى المستشفى ويتحول هذا الاخيرإلى مركز للتعذيب، ونذكر النموذج المأساوي لمجوعة مراكش والتي سقط في إطارها شهيدين هما الدريدي وبلهواري. ولانعني بما سبق تشكيكنا في شرف ونبل وانسانيا مهنة الطب ولا في الاطباء بل فقط هناك من مختل الشرائح الاجتماعية من يتنازل عن منطلقاته المبداية ويقوم بممارسات مشنة تجت القمع والضغط والابتزاز.

يوحي الاختطاف ، بأن السلطة التي تمارسه لا تملك الشجاعة الكافية لاعتقال الضحية ، وفق الشروط المنصوص عليها في القانون. تخوفا من ردود الفعل السياسي. ويوحي كذلك بأن هناك نية مسبقة لممارسة أبشع أنواع التعذيب ، ومختلف الممارسات الحاطة بالكرامة والتي يجرمها القانون ،والتي لا تحتمل ممارستها في العلنية .
فالاختطاف ومنذ انطلاق فكرته الاولى ، يعد انتهاكا لأبسط الحقوق المنصوص عليها في القانون والمواثيق الدولية لحقوق الانسان. بداء من التحايل من أجل القبض على المختطف، إلى حرمانه من المحاكمة العادلة، والاستنطاق في سرية تامة ، وعدم إخبار عائلته ، وعدم إشعار النيابة العامة بإلقاء القبض على المتهم. بل عدم صدور هذه الاخيرة لأي أمر بإلقاء القبض. إلى استعمال مختلف وسائل التعذيب مرورا بالتنصت على الهاتف، وتعذيب آخرين من أجل استقاء معلومات حول الضحية، وشراء الذمم واستعمال عناصر الوشاية والعمالة وغيرها. لتنتهي في الحرمان من الحق في الحياة، بعد الياس من امكانية تسكيت الضحية.أو إطلاق سراحه بشروط العمالة أوالالتزام بالسكوت النهائي عن ما تعرض له من تعذيب .
 وفي هذا الاطار تعود بي الذاكرة الى أواسط التسعينات عند اختطاف عبد السلام بوتشيش وسط حيه  بمدينة أبركان وأمام محل تجارته . وعندما قامت الجمعية المغربية لحقوق الانسان بالاتصال بالمسؤولين, نفوا كلهم علمهم بالحادث، بل أن أحدهم صرح أنه يستغرب لما يجري وانه لا يصدق ذلك ، علما أن اختطافات مماثلة وقعت في دائرة نفوذه ، وأحس بإهانة بالغة لاكنه لم يتجرأ رفض ذلك علنيا . وفي ما بعد سيتاكد بوقوع الاختطافات.
الذي نود الاشارة اليه هو أنه بعد قيام الجمعية المغربية لحقوق الانسان فرع ابركان  بمجوعة من الاجراءات الادارية والاعلامية من أجل الكشف عن مصير الضحية. قامت أجهزة المخابرات بالاتصال بعائلته هاتفيا. وأخبرتها بأن الضحية يوجد في حوزتها ، و أن إطلاق سراحه ممكن، لكن بشرط التنازل عن الشكايات المقدمة للاجهزة المختصة.  ورافق ذلك الطلب تهديد بعدم اطلاق سراح الضحية في حالة رفض  التنازل عن الشكايات .
الاختطاف يستهدف مختلف شرائح المجتمع
إن الاختطاف السياسي، فضلا عن أنه يعد مسا خطيرا بمختلف الدساتير والقوانين والمواثيق الدولية لحقوق الانسان مهما توفرت له من مبررات سياسية وأمنية واديولوجية ، و مهما بلغت درجة خطورة الضحية على الامن والشعب والدولة . فضلا عن ذلك  يعد شكلا من أشكال التحكم في السلطة ويعبر عن إرادة قمعية دكتاتورية ترى فيه الاسلوب الوحيد لدفن  الاراء المناهضة لطريقة ممارستها للسلطة,  ويستهدف النيل بالمجتمع بشكل عام وشرائحه ، منهم من يفترض انهم مسؤولين عن الأمن في البلاد. ويمكن إدراج بعض من يمسه مباشرة في ما يلي :
1- الضحية نفسه  بالدرجة الأولى، ويتعرض لأقسى أنواع التعذيب والإهانة ، قد تصل إلى حرمانه بالحق في الحياة .
2- عائلته وأصدقائه، وربما يتعرضون للتهديد أو ممارسات مشابهة لما يتعرض له الضحية . بمجرد الاصرار على معرفة مصير ابنهم.
3- المسؤولين عن الأمن ومسؤولي السلطة والنيابة العامة والذين لا يعلمون أي شيئ عن الاختطاف " هذا إن كانوا فعلا لا يعلمون شيئا عن الحادثة" في دائرة نفوذهم. قانونيا يشكل الاختطاف تجاوز وإهانة لمسؤولياتهم . وإذا كانت النيابة العامة هي ممثل الحق العام ، فمعنى ذلك أن تجاوزها ة وارتكاب جرائم الخطف  يعد تجاوزا ومسا خطيرا للقانون و المجتمع . ويستخلص من ذلك أن البلاد تعيش تحت سيادة دولتين . دولة يستطيع وكيل الملك أن يمارس سلطته في إطار الحدود المشروعة قانونيا ، ودولة أخرى تمارس سلطتها في دائرة نفوذه . ولربما يكون ذلك الوكيل خاضع لسلطتها وهي أقوى منه في دائرة نفوذه . وفي هذا الاطار يمكن ذكر ما يسمى بالتعليمات الصادرة وغالبا ما تاتي من رجال المخابرات .
4-  المؤسسة التشريعية ، ممثلي الأمة . القائمين على تدبير الشان العام، و قد لا يعلمون أي شيء عن عملية الاختطاف واسبابها واهدافها . ويتم إقصائهم علنية . ولا يجدون أجوية عن تساؤلاتهم، إن كانت هناك تساؤلات حول عملية الاختطاف . مما يؤكد أن المؤسسة التشريعية مؤسسة شكليلة ، وضعت لتزيين الواجهة فحسب. ليست قادرة على معرفة الحقيقة حول ظاهرة مصيرية مثل الاختطاف.
5- تتعرض مصداقية الاعلام ، إلى اختبار في قدرتها على نقل الاخبار بصدق . وذلك نتاجا  لعدم إطلاعها من قبل المسؤولين على ما يجري في البلاد، في احداث قد تكون لها آثار على مستقبل البلاد. أو منعها والتضييق عليها حتى لا تقول الحقيقة . و في معضم الأحيان يكون نقلها للاخبار ناقصا من حيث المصادر. وقد تصبح الإشاعات مصدرا للخبر، وهنا تكون الكارثة . وقد تتعرض بعض الصحف للتهديد والتوقيف والحجز بمجرد تناولها خبرا عن معتقلات الاختطتاف، و عن أخبار يرى القائمين على الاختطاف ، بأنها قد تفسد عليهم مشاريعهم في التعذيب والاستنطاق. وقد عرف المغرب توقيف العديد من الجرائد والمجلات بمجرد نقلها لاخبار عن المخافر والمعتقلات السرية وأوضاع المختطفين . ولا يستبعد عودة تلك الأساليب في قمع حرية الصحافة والنيل من نبلها وشرفها .
6- واذا كان الاختطاف يمارس بسرية،  فذلك لا يسمح بتقريره ووضعه في الأرشيف، وهنا يكون الحرمان الواضح للحق في الحفاض على ذاكرة الامة بل ، يستهدف من ذلك إخفاء الحقيقة حول ماجرى من انتهاكات جسيمة .
7- الاختطاف عدو للحضارة و المجتمع ، وعائق لتقدمه. حيث يمارس بهدف قمع الرأي والابداع وبهدف تحجير العقل وجعله عاجزا على النفوذ الى عمق مشاكل وضواهر العصر والمجتمع. وبذلك يستهدف المثقفين بمختلف مشاربهم وانتمائاتهم .
8- ويستهدف المواطنين جميعا بكونه عنصر لخلق الرعب والخوف والهلع وسطهم ، وكونه أسلوب قمعي شرس، يهدف إلى إرغام الشعب بقبول الوضع القائم والسكوت عن تجاوزات السلطة في مختلف ممارساتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاديولوجية.
زمن الاختطاف هو زمن الموت بعينه
يملك المعتقل فرصة طرح قضيته على الراي العام ، من خلال إصدار بيانات وتقارير حول ضروف اعتقاله، وأشكال التعذيب التي تعرض ويتعرض لها. ويستخد م جسده وقوته المعنوية للتصدي للقمع الجسدي والمعنوي الذي يتعرض له وذلك من خلال خوضه إضرابات عن الطعام. وحضوره ضمن آخرين من معتقلين سياسيين ومعتقلي الحق العام, وربما بعض الحراس كشهود على التعذيب الذي يتعرض له. كل ذلك يجعله يتوفق في  ضمان إمكانية  فعل تضامني من الخارج ، يساهم في الضغط على الادراة بهدف تحقيق مطالبه.
يشكل الوفود المستمر لمعتقلين جدد ، عنصرا مهما يسمح بتفاعل المعتقل السياسي مع الخارج . وذلك يسمح  بالرفع من المعنويات ومحاولة جبر الانكسار الذي يعيشه الوعي الذاتي. و يوفر التواصل مع العالم الخارجي بالنسبة للمعتقل شروط الوعي باستمرار الحياة . وذلك بتوفر حدود دنيا أو جزء من العالم البشري بما هو عالم الأحياء في المحيط العام الذي يحيط بالمعتقل.
 فالمعتقل يتواصل مع هذا العالم في حدود ما يوفره السجن، و من خلال الزيارات والتعرف على معتقلين جدد . ويتفاعل مع تجاربهم في الحياة بما هي تجارب تحمل من الدلالات الانسانية ما قد ما يشبه حالته .
 وفي وفودهم من العالم الخارجي ، ينقل المعتقلون  أخبارا جديدة  تفيد ما يؤكد استمرار الحياة . وتكبر الرغبة في لقاء ذلك العالم، نظرا للأمل الذي ليس بعيدا تحققه ، رغم طول المدة المحكوم بها.
أما بالنسبة للمختطف ، فيتم عزله كليا عن العالم الخارجي .  الشيئ الذي يجعله يعيش العزلة والوحدة القاتلة. وذلك ما يثير في داخله أسئلة قاتلة من حجم اليأس الكلي من إمكانية العودة إلي الحياة . فهو على عكس المعتقل ، يتعامال مع عالم الأموات .  فزمن الإختطاف هو زمن الموت ، وكل شيئ فيه يوحي بذلك فالجلاد الكائن البشري الوحيد هو عنصر من عناصر الموت.
 وعلى عكس المعتقل فالجديد لدى المختطف، لا يأتي إلا من الجلاد . وجديد الجلاد معروف سلفا وهو التعذيب والارهاب النفسي . فهكذا، فالمختطف يتيه في مخيلته وأحلامه أحيانا في افتراض أن الانفراج ممكنا . لكن ذلك الحلم  يصبح باهتا يوما بعد يوما ، إلى أن يصبح غير قابل للتجدد. ويدرك وقتها، أن الجسد الذي حاول في بداية الأمر الحفاض على وجوده غير مشوه، أصبح مصيره المفترض هو الإنزواء تحت التراب قبل الانفراج.
المعتقل الذي يعرف حدود مكوثه في السجن بعد محاكمته. يحاول التكيف مع أوضاعه، وينشغل في أمور قد تبدو تافهة. لكنها في السجن تشكل أمور مهمة وأساسية . فينشغل بالنظافة والبحث عن لقمة , والنقاش الطويل وربما الغناء وحكي القصص في الليل،  وربما يحاول حل مشاكل العلاقات القائمة بين معتقلين أو بين معتقلين من جهة و الحراس من جهة اخرى ، أو ينشغل في مقاومة التضييق والخناق الذي تمارسه الادارة ضده. او يتورط في صراع مع معتقلين آخرين, أو ينشغل بأخبار قادمة من الخارج ،  تتعلق به شخصيا أو بقضايا المجتمع المجتمع اوغيرها.
 وهكذا يستفيق من هذا الانهماك في أوضاعه الداخلية في السجن ، ليجد أن مدة الحبس قريبة الانتهاء ،وأن الانفراج مقبل بعد ايام معدودة. لكن تلك الأيام تطول ويصبح اليوم بمثابة السنة الى ان يفقد القدرة على النوم في اليومين اوالثلاث الاخيرة. تائها في التحضير لوداع عالم السجن ، والبدء في معركة اخرى في الحياة.
يمكن تشيبه حالة المختطف في جانب منها بحالة المعتقل الموجود بالزنزانة الانفرادية "الكاشو" والمشترك في هذين الوضعيتين هو العزلة التامة عن البشر وفي غياب التواصل مع آخرين. ومع ذلك فأوضاع المعتقل داخل الزنزانة الانفرادية يكون محدود المدة، وبذلك يسمح بنوع من التخفيف بمقارنة مع المختطف الذي يدرك أن مصيره مجهول وقد ينتهي بالموت ولا أحد يعلم مصيره .
إن المختطف محروم بمجموعة من الشروط التي تؤكد طبيعته البشرية والانسانية، وتكرسها كحقوق طبيعة من أجل الاستمرار في الحياة . بل محروم من جسده ، فالجسد هو ملك الجلاد خاصة وأن هذا الاخير يملك كل الامكانيات المادية والمعنزية لتطويع الجسد، وجعله ميتا قبل أن يجف الدم في شرايينه.
 يفرغ الجسد من محتواه الانساني . وبما أنه أصبح في ملك الجلاد، فلا قدرة له على المقاومة و التصدي . وذلك عل عكس المعتقل الذي يفرض جسده نوعا من الاحترام على الجلاد، الذي يحاول الحفاض عليه  متخوفا من تدميره ، نظرا لما يمكن أن ينتجه هذا التدمير من انعكاسات سياسية ليست في صالح أولي الأمر . 
في حالة الاختطاف ، يصبح المختطف يائسا بإمكانية الانفلات من قبضة الجلاد . فقد ينتظر ما لاينتظر ، يحظر على جسده الحركة التي سبق وأن جمد حريتها أسلوب وطريقة إلقاء القبض عليه، يصبح الجسد كما الجدران التي تخفي عليه حقيقة العالم . الجدران  التي لا تفيد إلا في المزيد من تثبيت وتأكيد سوداوية العالم، بألوانها ورائحتها التي تشيه رائحة الموتى . كل شيئ يدعو إلى الموت ، أو يفيد في قدومها، أصوات الخارج ، التعذيب و االسب والشتم الذي يتعرض له باقي المختطفين ، صراخهم الذي يصبح روتينا قاتلا .
يعلم الجلاد، أن المختطف يعيش حالة انكسار في وعيه . ويستمر في المزيد من ترهيبه نفسيا وتعذيبه جسديا. فرغم المقاومة التي يبديها المختطف، كانت جسدية اومعنوية  لايفلح المختطف في التاثير النقسي على الجلاد لأنه بكل بساطة كلب شديد غليض يفعل ما يأمر.
وهكذا،  فإن وعي الجلاد بما يجري في دماغ الضحية تزيده الاستمرار نوعا وكما في عملية التعذيب. لينال مراده، وانتزاع ما يطلب منه انتزاعه . ومع طول مدة المقاومة وكمية التعذيب  يفقد الجسد قيمته و دوره. فإما أن يعتمد المختطف الصمود الذاتي المعنوي ويحاول الدفاع عن كرامة ضميره وقناعته ، مفترضا أن جسده معرض للتدمير لا محالة. وإما أن يحاول الحفاض على سلامة الجسد ويقدم ضميره في المقابل. ويستطيع في هذه الحالة تقديم ما يطلب منه . وهنا تصبح المعانات أكثر قساوة حيث يصبح التنازل المبدئي ، قربانا لسلامة الجسد ، الذي يكون قد تعرض لأشكال متعددة من التعذيب والتي لا تسمح بسلامته.
ما بعد الاختطاف اوذاكرة زمن الموت
إذا وافقه الحظ وأفلت من أيدي الجلاد.  يصبح المختطف متابع في معنوياته وذاكرته وأحلامه ، فيعيش أكثر من عذاب في الآن نفسه. جسد مطبوع بأوشام التعذيب الذي تعرض له ، ذاكرة متوترة معذية في مكوناتها الموشومة بجروح زمن الاختطاف و من معانات التعذيب ، صور الجلاد واستنطاقاته . وتظهر تلك المعانات وعودتها بشكل آخر عند سماع أي شيئ عن الاختطاف, وما بالك إن تعرض لاستفزاز يذكره  بذلك،  أوخدعه التلفزيون ليرى مشهدا من مشاهد الاختطاف، أو سمع خبرا عن اختطاف آخرين. فمن المحتمل أن تعود صور التعذيب والماأساة التي عرفها في أسرع وقت. وتجعله يعيشه حالة من الارهاب النفسي غير محمود العواقب.
معانات ما بعد الاعتقال او الاختطاف، بغض النظر عن المعانات الصحية و الاجتماعية هي معانات مختلفة ومتنوعة، خاصة إن طالت مدة الحبس .وذلك حسب قناعات الضحية وطموحاته واهتماماته. ولكنها في الغالب تحضر لديه في أي حادث يذكره بضروف الاعتقال أو الاختطاف . والمشترك عند الضحايا هو حرمانهم من فترات أساسية من العمر، خاصة وأن أغلبهم من الشباب الطموح ، وقد تستطيع فترة الاعتقال أن تحدث تحولا جذريا  في مسار وحياة المعتقل ، أو المختطف. ويصبح بعيدا عن كل طموحاته وآماله في بناء مستقبله ومستقبل عائلته.,
يحضر لدي مثال عن أحد التلاميذ المعتقلين على اثر انتفاضة يناير 84 . والذي احترف الإجرام بعد قضائه مدة سنتين من السجن . وخلص في آخر المطاف إلى ارتكاب جريمة قتل، وحوكم عليه بعشرين سنة من السجن . وبالتأكيد أن تحوله كان ناتجا عن الاعتقال الذي تعرض له  وهو في بداية شبابه. والأمثلة من هذا النوع كثيرة لا تكفي مقالة لسردها ، وإبراز انواع المعانات التي يعانيها المعتقل بعد خروجه من السجن ، أوالتحولات الجذرية التي حصلت في حياة الشيباب المعتقلين على اثر أحداث جماعية أو فردية وطنية أو قطاعية .
 وإذا أخذنا مثالا عن المختطف الذي ذكر أنه قبل في الأخير شرط العمالة والتجسس لصالح المخابرات ، من أجل خروجه سالما بجسده وروحه . فتصريحه  بذلك بكل صراحة، شكل من أشكال الشفاء والدواء الشخصي الذي يقدمه بوعي منه ، بأن  البوح بحقيقة ماجرى ، يمنحه فرصة الثقة في ذاته. وبذلك يوقف ذلك الكابوس الذي هدده منذ انفلاته من ايدي الجلاد، وخطوة في اتجاه انهاء المعانات النفسية التي يتعرض لها.
إن صور التعذيب وضروفه ، تبقى قائمة وقابلة للعودة الى ذاكرة المختطف بوعي أو بدون وعي من الضحية. بل وتبقى لاصقة بالذاكرة . فقد ذكر احمد بن جلون عندما سمع صوت خاطفه . وقال أن ذلك  الصوت  يستطيع أن يميزه  من بين الآلاف من الأصوات. ويقصد بذلك صوت العشعاشي الذي مازل يصول ويجول معززا مكرما مواجها بصورته البشعة ضحايا التعذيب.
فليس فقط لأنه يعرفه حق المعرفة ، بل ربما لأن ذلك الصوت رافق مأساته التي تعرض لها . ذلك الصوت الذي أصبح ثاقبا للأذن ، كالرعد المفاجئ . وفي لحظات كانت حاسة السمع تكبر وتفرز بين الجلاد القادم للتعذيب والجلاد القادم للاستنطاق والجلاد الذي يقدم الأكل وغيرها .
ولأن ذلك الصوت مازال مستمرا وقائما في الوجود ، لن ينساه المختطف أو المعتقل. لأن الاسلوب الوحيد الذي يمكنه إتلاف ذلك الصوت ، هو انتفائه كصوت يدعو للموت. متوحش ينعي بكل مايسئ للانسان كاإنسان ويحرمه من العيش  في آمان شخصي.
وعندما قال لحريزي في حوار أجرته الصحيفة مع مجموعة  بنو هاشم إثر زيارة قامت بها  المجموعة لقلعة مكونة ، قال أنه فرح ويحس بانقباض في صدره . فلأنه سيتعرف على المكان الذي أفقده الأمل في العودة إلى الحياة . المكان الذي جعله يتيه في متخيل الرعب والخوف . المكان الذي شوه فيه الجسد .المكان الذي جعل من تاريخه يعرف أشياء أخرى غير الهدوء . ويتعرف على وحوش لم يكن يدرك وجودها بالفعل. رغم ما كان يحاول تصور صفاتها وقدراتها على التخلي عن إنسانيتها . الآن تمنى لو التقى مباشرة مع جلاديه "مالين الوقت"، الذين كانوا وحدهم يدركون حركة عقارب الساعة.  ولم يكن هو يدرك إلا أوقات الوجبات الغذائية المتعفنة، أو غلق الزنازن وفتحها، قبل وبعد لحظات الجلد والتعذيب . كان يعرف الأوقات عندما يسمع أحذية الجلاد تحدث ضجيجا وصخبا على الارض التي تشهد بغزارة الدماء التي سقطت هدرا ،   أوعندما يسمع ضجات مفاتيح الابواب" لبلاندي ". 
لكن حضوره للمكان خاليا من تلك الوحوش، التي افقدته الامل في الحياة والتواصل مع العالم البشري جعله فرحا . ولأن المكان جزء من تاريخه ،أي انه جزء من تاريخ مأساته. ولم يكن يعرفه من قبل بتضاريسه الخارجية وعمرانه. وهو الآن يكتشف جزء من الحقيقة . وهذه  الحقيقة جعلت الفرحة تعم كيانه، و قد لا يستطيع التعبير عن مداها ، فما بالك إن تمت عميلة إبراز الحقيقة كلها .
 فالفرحة التي تسربت إلى جسده  ناتجة على وجود مكان واحد على الأقل خال من تلك الوحوش. فلو تم انتفائها من على وجه البسيطة فسوف تكون الفرحة بنوع خاص .
لكنه متأكد أن أمكنة عديدة مستمرة في البقاء، تشبه قلعة مكونة. لذلك فقد أحس بانقباض في الصدر. فاستمرار ضاهرة الاختطاف استمرار لتلك الضروف التي عرفها داخل السراديب ، يعاني منها اناس اخرون . الجلد المبرح والتعذيب بمختلف انواعه ، إهانة وإذلال للذات والجسد . ويعلم  أن استمرارها يكون على حسابه شخصيا بالدرجة الاولى. ويحس أن مسؤولية توقيفها مسؤليته الشخصية. ورغم أن لسانه لم يكف عن تحسيس الناس بما يجري داخل عالم الاختطاف الذي هو جزء من عالم الموت, فذلك لم و لن يشفي غليله إلا بالتوقف النهائي عن سماع أخبار تثير استمرارية تلك الضاهرة. والسبيل الوحيد هو الحقيقة كاملة ومعاقبة المسؤولين على تشكيل ذلك العالم .ورسم أشباحه المرعبة .
ومن خلال الوعي في أن غياب الحقيقة حول ما تعرض له من تجريد كلي لانسانيته ، ستستمر تلك الضاهرة بكل ما تحمل من تشويه للخلق والانسان في طبيعته . واستمرارها استمرار معاناته حتى وإن هو خارج تلك الدهاليز، وأفلت من قبضة الوحش الجلاد.
رغم الفرحة التي شكلت مدخلا في إشراقة ممكنة أحس بها معتقلوا بنو هاشم ، فقد غادرتهم تلك الإشراقة وعم السواد بمجرد أن فرض المكان حضور  شراسة الزمن الذي تعرفوا خلاله على المكان .
في إثارة الزمان أصبح المكان لاغيا، وبدى شكلا لا مضمونا,.وذلك نتاجا لقوة وسلطة زمن الجلد  والتعذيب والمأساة الذي استمر ولم يتوقف، رغم التحولات التي بدت على المكان وغياب الجلادين.
 فالزمان الشرس يقفز بسهولة ويتسرب بمرونة ليحتل موقعا فعالا في الذاكرة . وتصبح الاختطافات المستمرة محركا فعالا لذاكرة الزمن الاسود ، ولاستعادة صور الوحوش الضالمة المضلمة. يجد هذا المحرك وقوده في كل مايسمع عن معانات المعتقلين، وتبوء الجلاد مكانة فاعلة في  سلطة  الزمن الحاضر كما كان في الماضي، وفي سلطته وقوته الحالية على تجديد تحديد ملامح المكان وبشاعته.
 فالحل الوحيد لتجاوز ذلك الزمن أو دفنه  هو  تحريره من المتحكمين في إدارته . بل خلق زمن يصين كرامة الانسان ويعطيه قيمته بدل الاستمرار في التشويه الاجرامي للانسان. و الحلقة الاولى في بناء الزمن المطلوب هي إبراز الحقيقة والكشف عنها.
وهناك فقط تعود الامور إلى حالتها الطبيعية . فاستمرار الاختطاف حالة لا طبيعة يعيشها المجتمع . فهو عمل حيواني وغير إنساني. ولن تستقيم وتعود حالة الانسان إلى حالته الطبيعية إلا بسيادة سلطة تحترم الكيان وتصينه وتضع له كل امكانية  لممارسة حرياته وحقوقه. فيها بدون أدنى تشويه سواء بالاختطاف أوالاعتقال أوالنفي أوالحرمان من الحقوق الطبيعة للبشر.

كشف الحقيقة حول ماجرى يحقق للمختطف نوع من الانتصار على وعيه المعذب. ليعود الى طبيعته الاصلية ، عندما كان موضوع الاختطاف أوالاعتقال والتعذيب ، يثير بالنسبة له نوع من رد الفعل العاطفي من موقع المتضامن لا ضحية. أما الآن عندما أصبح ضحية ، فقد تحول ردالفعل لديه إلى جعل الاختطاف عدو شرس يتابعه في كل مكان، وداء قاتل يجب الشفاء منه. وليس غير الحقيقة مخرجا للشفاء, ففي غيابها سيادة اللاطبيعي أو قل أن وعي المختطف يقيس طبيعية التاريخ من سيادة الاختطاف أو انتفاءه.
والحقيقة مطلب لمعرفة واقع مجهول ، أريد له أن يكون كذلك، حتى تصعب مقاومته والتصدي له من قبل المجتمع . لان ماجرى داخله يمس المجتمع .فلو لم يكن بذلك القصد، لتم خلقه علنية.
.يستشف من ما سبق أن الحقيقة كشف لمجهول ضار بالمجتمع، وسبب في تدنيه . وإذا كان على الأقل سلوك واحد لا يراد كشفه،  فبالتأكيد أن هناك مجالات أخرى تتطلب الكشف عن حقيقة ما جرى فيها.  مثل إفلاس المؤسسات العمومية واستغلال أموال الشعب لأغراض مصلحية ذاتية، وتربع مناصب اجهزة الدولة والتواطؤ مع الباطرونا في صراعها مع العمال وتفقير المرافق العمومية مثل الصحة والتعليم والسكن ...
هناك إذن واقع ناتج عن الممارسات الخارجة عن القانون والقائمة في المجهول . ولكن نتائجها تؤكد وقوع تجاوزات لا يمكن لصاحبها أن يفلت من العقاب من أسفل الى قمة هرم االسلطة. وذلك هو السبيل الوحيد لشفاء المجتمع وانعتاقه من المجهول الذي ما زال يقيد ارتقائه وتطوره إلى مستوى متقدم .
                           
  يوسف الطاهري مقيم بفرنسا
  عضو الكتابة القليمية لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي
  فدرالية اوروبا
                                                      

                  

                                                       



#يوسف_الطاهري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بوتين: لدينا احتياطي لصواريخ -أوريشنيك-
- بيلاوسوف: قواتنا تسحق أهم تشكيلات كييف
- -وسط حصار خانق-.. مدير مستشفى -كمال عدوان- يطلق نداء استغاثة ...
- رسائل روسية.. أوروبا في مرمى صاروخ - أوريشنيك-
- الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 80 صاورخا على المناطق الشم ...
- مروحية تنقذ رجلا عالقا على حافة جرف في سان فرانسيسكو
- أردوغان: أزمة أوكرانيا كشفت أهمية الطاقة
- تظاهرة مليونية بصنعاء دعما لغزة ولبنان
- -بينها اشتباكات عنيفة بالأسلحة الرشاشة والصاروخية -..-حزب ال ...
- بريطانيا.. تحذير من دخول مواجهة مع روسيا


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - يوسف الطاهري - الاختطاف كمقدمة لاغتيال المجتمع والانسان