|
الحراك الجماهيري والثورة: إعادة إحياء سؤال التمثيل
محمد محروس
الحوار المتمدن-العدد: 6826 - 2021 / 2 / 27 - 22:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بقلم دينا أنور المترجم ترجمة محمد محروس الحراك الجماهيري والثورة مقدمة كانت ثورة 2011 في مصر حدثًا استثنائيًا من نواحٍ كثيرة، وبدايةً جديدة لعملية طويلة من التغيير الثوري [1]. لم يشمل تأثيرها الكبير مصر فحسب، بل أصبحت حدثًا مهمًا ألهم بلدان الشرق الأوسط ما بعد الاستعمار لتحذو حذوها في مطالبتها بـ”الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية”. باختصار، ألهم احتلال ميدان التحرير في يناير وفبراير 2011 الناس في جميع أنحاء العالم تجاه إمكانية التغيير على هذا النحو. وكما هو الحال في الأوضاع الثورية، أصبحت الانتفاضات مصدر إلهام للناس في جميع أنحاء العالم لإعادة رسم الخرائط السياسية والاقتصادية وتغيير الظروف الاجتماعية في سعيهم لتحقيق قدر أكبر من العدالة.
قبل عقد من الزمان، خرج الناس في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى الشوارع، أولًا في تونس، ثم مصر وسوريا واليمن والبحرين وبلدان أخرى. تعبر هذه الانتفاضات الثورية في الشرق الأوسط عن إمكانية التغيير من خلال الحركات الجماهيرية التي تطالب بالتغيير والعدالة والمساواة، والأهم من ذلك تمثيل جديد داخل بلدانهم وداخل النظام العالمي ككل. يشير الفيلسوف الفرنسي آلان باديو إلى تلك الانتفاضات المُستلهَمة من الأحداث التونسية والمصرية باعتبارها “إعادة ميلاد للتاريخ”، “في مقابل التكرار المحض والبسيط للأسوأ” (باديو، 5). ويضيف: “من المؤكد أن ليس الرأسمالية وخدمها السياسيون هم الذين يجلبون ولادةً جديدةً للتاريخ، ذلك إذا فُهِمَت “إعادة الميلاد” على أنه ظهور قدرة -مُدمِّرة وخلَّاقة في آن واحد- تهدف إلى الخروج الحقيقي من النظام القائم” (باديو، 13). في الواقع، منذ عام 2011، تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حركاتٍ ثورية في المنطقة مع موجةٍ ثانية من الانتفاضات الثورية بحلول نهاية عام 2018 في السودان، وفي عام 2019 في الجزائر، نجحت في إطاحة حكامهم الديكتاتوريين القدامى، وكذلك في لبنان والعراق.
تحمل تلك الحركات، بلغة إعادة ميلاد التاريخ، إمكانية التغيير بدءًا من الكشف عمَّا يسميه باديو “حالة الوضع”، وكشف ديناميات القوة غير المتكافئة، والاستغلال، والشرطة والجيش، باعتبارهما حاملين رئيسيين للقمع في خدمة السوق العالمي. ومن خلال خروج الجماهير إلى الشوارع، لم تدرك الجماهير قدرتها على إحداث التغيير من خلال العمل الجماعي لإسقاط الطغاة فحسب، بل كشفت أيضًا عن حالة الوضع، أي الدولة ومؤسساتها والنظام العالمي بأسره. وبحسب باديو، فإن الدولة “تشمل جميع الأجهزة والمؤسسات التي تعيد إنتاج النظام (أو الهيمنة). وهذا يشمل البنية المهيمنة للخطاب، بما في ذلك الأيديولوجيا المهيمنة، والهياكل الاجتماعية التي تقوم عليها هذه الأيديولوجيا” (آندي ماكلافيرتي روبنسون) [2]. بهذا المعنى، تبلورت أولًا الطبيعة الاستبدادية للنظام التي شوَّهَت تمثيل السكان عمومًا، ثم تبعها التشكيك في النظام العالمي بأكمله؛ أي النظام الرأسمالي وطرقه في دفع الأفراد ليكونوا مسئولين عن أنفسهم، من خلال الإصلاحات النيوليبرالية وتراجع الدولة.
تهدف هذه المقالة إلى رسم الخطوط العريضة لتأثير هذه الانتفاضات في منطقة الشرق الأوسط، لإبراز ديناميات السلطة غير العادلة والمتجذِّرة بعمق في النظام العالمي، تلك الديناميات التي تتلخَّص في استغلال الموارد والعمالة الرخيصة لخدمة السوق الرأسمالية العالمية. تحمل هذه الانتفاضات بذور إعادة إحياء التاريخ في المطالبة بأشكالٍ جديدة للتمثيل. تقوم هذه المقالة بمهمتين؛ أولًا وضع الانتفاضات في السياق التاريخي، وتجادل مع آدم هنية ضد التحليل السلطوي المبسَّط، وفي المقابل تضع هذه الانتفاضات ضمن السياق الاقتصادي والسياسي الأوسع لإلقاء الضوء على مركزية السلطة الاقتصادية والسياسية على النخبة القيادية، ومن ثم تشويه تمثيل السكَّان عمومًا. وثانيًا، تحديد السمات الذاتية السياسية الناشئة كنتيجةٍ لهذه الأحداث، مُسلِّطةً الضوء على أهمية التغيير من خلال الحراك الجماهيري عبر رفع الثقة السياسية بالنزول إلى الشارع. وقد أدَّى ذلك إلى ذاتية سياسية جديدة عازمة على تغيير العلاقة بين القائد وأولئك الذين يقودهم، باختصار عازمة على تمثيل نفسها.
النضال ضد ماذا؟ تحدي الخطاب الاستبدادي مع التركيز على إطاحة أنظمة ما بعد الاستعمار من خلال شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، ركَّزَ المطلب الفوري الأول على الإطاحة بالديكتاتوريين القدامى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مما فتح الطريق أمام التغييرات الاقتصادية والسياسية. وهكذا تركز النضال في المرحلة الأولى من هذا التسلسل الثوري على إنهاء الحكم الاستبدادي على أمل ترسيخ سيادة الدولة القومية في المجالين السياسي والاقتصادي [3]. في حين كان هناك تركيزٌ كبير على إنهاء الحكم الاستبدادي لصالح بناء أشكال ديمقراطية للحكم، فإن مثل هذه النقاشات تبسِّط -وفي الواقع تضلِّل- من فهم مدى تجذُّر دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الاقتصاد العالمي.
تُظهِر ردود فعل دول الخليج والأردن والكيان الصهيوني والولايات المتحدة وأوروبا على تلك الثورات نفوذها القوي واهتمامها بالحفاظ على الاقتصاد العالمي للإبقاء على السوق الحرة دون مساس. وكما يشير آدم هنية، فإن “هذا الاندماج بين المجالين السياسي والاقتصادي تم تأكيده بقوة في طبيعة الرد المضاد للثورة” [4]. وكما يوضح هنية، فإن واشنطن وحلفاءها ردوا أولًا بحذرٍ وقلق في ضوء الثورة التونسية، في حين دعمت المملكة السعودية وملك الأردن والكيان الصهيوني ودول الخليج مبارك وبن علي علنًا:
“تم التأكيد على رفض المملكة السعودية بشكل أكثر صراحة من خلال انتقادات العاهل السعودي للمتظاهرين المصريين والتونسيين باعتبارهم “مندسين”، و”باسم حرية التعبير ينفثون حقدهم في الدمار … وإثارة الفتنة الكيدية”. وبالمثل، وصف السفير الإسرائيلي السابق في القاهرة السقوط المحتمل لنظام مبارك بأنه “سيناريو مروع” و”كارثة لإسرائيل والأردن والمملكة السعودية ودول الخليج وأوروبا والولايات المتحدة”. قدَّم زعماء عرب آخرون -بالأخص الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والملك الأردني عبد الله، والشيخ نهيان في الإمارات- دعمهم علنًا لبن علي ومبارك” (المرجع السابق، 165).
مع إطاحة مبارك وازدياد قوة الحركة الثورية في مصر، تحوَّل الخطاب إلى التركيز على الانتقال المنظم وأهمية التحول الديمقراطي في المنطقة. ومن أجل حماية المصالح الإمبريالية التي تتحقَّق بالحفاظ على إمكانية استغلال المنطقة من حيث الموارد والعمالة الرخيصة [5]، تحوَّل رد النظام الرأسمالي الراسخ نحو إبراز الطبيعة الاستبدادية لنظامي مبارك وبن علي وفصل النضال عن عدم المساواة الاقتصادية العالمية. يكتب هنية:
“بعد إطاحة مبارك في فبراير 2011، تغيَّرت لغة هؤلاء القادة. من موقفٍ تأرجَحَ بين الدعم السلبي والمفتوح لبن علي ومبارك، اتجهت السردية المهيمنة نحو الدعوة إلى “انتقال منظم” والتزكية بالحاجة إلى “الديمقراطية”. أعرب الرئيس الأمريكي باراك أوباما ومتحدثون آخرون باسم الحكومة موافقتهم على “روح الاحتجاج السلمي والمثابرة” وأعلنوا أن الولايات المتحدة “ستستمر في كونها صديقة وشريكة … على استعدادٍ لتقديم أي مساعدة ضرورية … لمتابعة انتقال موثوق إلى الديمقراطية”. في العديد من التصريحات مثل هذه، أعيد صياغة الانتفاضات على أنها نضالٌ بسيط من أجل الديمقراطية السياسية، معنية فقط بإنهاء سنوات طويلة من الاستبداد. تحوَّل تركيز القوى الغربية إلى مسألة “الانتقال المنظم” -وهي عبارة تكرَّرت بشكلٍ مثير للغثيان من قبل كلِّ أولئك الذين دعموا سابقًا الأنظمة الاستبدادية القديمة” (المرجع السابق، 165).
لم تكشف الانتفاضات الثورية سوء التمثيل الوطني من قبل القادة لشعوبهم خلال الحكم الاستبدادي فحسب، بل الأهم من ذلك أنها كشفت مدى عمق ترسخ أنظمة ما بعد الاستعمار داخل النظام العالمي الأوسع. لقد ساعد الشكل السلطوي للحكم على الحفاظ على الترتيب الاقتصادي العالمي بقمع الجماهير والسماح باستغلال الأرض والسكان. يمكن تلخيص الوجه الجديد للنظام الرأسمالي بالنقلة النيوليبرالية خلال ثمانينيات القرن العشرين والتي أنتجت تعميق اعتماد منطقة الشرق الأوسط على قوى الغرب الإمبريالي، ما أدَّى إلى ترسيخ اللامساواة وتوسيع الانقسامات الطبقية في المنطقة.
لقد عمَّقت النيوليبرالية التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المنطقة (بين دول الخليج الغنية بالنفط والدول غير المنتجة له) وكذا بين المستعمرين القدامى ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما بعد الاستعمار، التي اجتاحتها التحرُّكات الثورية في النهاية. من خلال برامج التكيف الهيكلي، تراجع دور الدولة عن توفير الوظائف والخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها للسكان، مما أدَّى إلى مستويات مدمرة من الفقر والأمية، إلخ. من خلال تنفيذ سياسات خصخصة صارمة بوساطةٍ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بدأت بعض المكاسب السياسية والاقتصادية لحركات الاستقلال في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من خلال تأميم الصناعات تتلاشى، تاركةً السكان عرضةً للاستغلال والفقر. على سبيل المثال، أحد التغييرات المدمرة الخاصة يتمثَّل في الاعتماد على الغذاء في البلدان المعروفة بثرائها الزراعي. من خلال المساعدات الغذائية ومبيعات القمح الرخيصة من الولايات المتحدة ولاحقًا من أوروبا، عجز المزارعون المحليون عن منافسة السوق الدولية. “في عام 1960، كان معدل الاكتفاء الذاتي في مصر من القمح (الإنتاج المحلي بالنسبة للاستهلاك) حوالي 70%. بحلول عام 1980، انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي إلى 23% مع ارتفاع الواردات إلى مستويات هائلة. تطابقت هذه العملية في الجزائر والمغرب وتونس -وقد دُعِمَت في تلك البلدان إلى حد كبير من خلال واردات الحبوب المدعومة من أوروبا بدلًا من الولايات المتحدة” (هنية، 30). ومن خلال الديون والمساعدات، أصبحت المنطقة جاهزة للامتثال لسياسات الإصلاح النيوليبرالية ولأن تصبح جزءًا من السوق العالمية.
أدى ما سبق إلى تراجع الدولة عن دورها في إعالة السكان تحت عنوان تحرير الاقتصاد وفتح السوق للاستثمار الأجنبي والتبادل. وبناءً على ذلك، أُلغِيَ دعم المواد الغذائية والغاز بما أثر على الهياكل الطبقية بشكلٍ كبير. من خلال عملية الخصخصة، ارتفعت البطالة مع تراجع الدولة عن توفير الحد الأدنى من الظروف المعيشية مثل السكن والغذاء والتعليم وغير ذلك، مما ترك الشباب بشكل خاص في وضعٍ ضعيف. وللبحث عن وظائف، هاجر الكثيرون إلى دول الخليج. “في السبعينيات، كان أكثر من 70% من العمال المهاجرين في الخليج من العرب -مصريون ويمنيون وفلسطينيون وأردنيون ولبنانيون وسوريون بالأساس. وكان العديد من هؤلاء العمال منخرطين في قطاع البناء (في عام 1975، كان 75% من العمال يمنيين مهاجرين، و50% مصريين، و40% أردنيين)” (هنية، 128). بدأ الكثيرون في العمل في مجال البناء الذي جاء بفائدة كبيرة لدول الخليج في بناء اقتصاداتها وبنيتها التحتية من خلال العمالة الرخيصة. ولكن في أعقاب حرب الخليج 1990-1991، عاد غالبية العمال المهاجرين إلى ديارهم مما تسبَّب في أزمة عمالة أعمق في أوطانهم.
هذه التطورات الاقتصادية لها تأثيرٌ كبير على دور الدولة. فبينما يبدو أن الدولة تراجعت في المقام الأول عن دورها في الرفاهة بسبب السياسات النيوليبرالية، إلا أن تركيز رأس المال في أيدي القلة، ومعه تعزيز مركزية السلطة في آلة الدولة، لم يزيدا إلا قوة. في مصر، على سبيل المثال، في ضوء النيوليبرالية، ظهر هذا التركيز في حكومة نظيف عام 2004 وما بعده، ومن خلال جمال مبارك، نجل حسني مبارك. توازى هذا المزيج من تركيز السلطة الاقتصادية في أيدي نخبةٍ محدودة مع الحكم الاستبدادي لإبقاء السكان تحت السيطرة ونزع فتيل إمكانية التمرد الجماعي ضد النظام، من خلال تعزيز الشرطة والقوات العسكرية لإحكام السيطرة والاحتفاظ بإمكانية استغلال موارد المنطقة بالإضافة إلى العمالة الرخيصة. وفقًا لمها عبد الرحمن، فإن “أحد مبادئ العقيدة النيوليبرالية العالمية، التي كان يُروَّج لها منذ أواخر السبعينيات، هو الحاجة إلى “دحر” الدولة المتفشية والمفرطة القوة. ومن المفارقات أن إعادة الهيكلة النيوليبرالية أدَّت إلى العكس من ذلك في وظائف الدولة الأكثر قسرية: الأمن والعمل الشرطي” (عبد الرحمن، 16) [6]. منذ تسعينيات القرن الماضي، كانت ميزانية وزارة الداخلية “تزداد باستمرار بالنسبة إلى الإنفاق العام، بما يتجاوز الإنفاق على التعليم والصحة مجتمعين” (المرجع نفسه، 17).
لعبت النيوليبرالية دورًا مهمًا في مركزة سلطة الدولة في يد نخبة حاكمة صغيرة مع وعودٍ فارغة بإرساء الديمقراطية، تاركةً الشباب بشكلٍ خاص في موقف متناقض. فمن ناحية، تم التعامل مع الشباب كمواطنين مسئولين تم تشجيعهم على أن يصبحوا رواد أعمال [7] كطريقةٍ لتحقيق الذات داخل السوق الحرة. ومن ناحية أخرى، ومن خلال القمع القاسي، لم يُسمَح لهم بالمشاركة في تشكيل حياتهم الخاصة، والتأثير في السياسات لصالحهم، وأن يصبحوا جزءًا نشطًا من المجال السياسي. تفاقمت هذه التناقضات في عاميّ 2010 و2011 في توجيه الانتفاضات الثورية الأولى في المنطقة في تونس ومصر. على الرغم من وحشية وشراسة الثورة المضادة في المنطقة اليوم من خلال المؤسسات العسكرية ونخب رجال الأعمال، غيَّرَت الانتفاضات الثورية بعمق من الذاتيات السياسية للثوار، لا سيما في علاقتهم مع رأس الدولة كقائدٍ لها. بإسقاط بن علي في تونس ومبارك في مصر، انتهى إرث ما بعد الاستعمار لرئيس الدولة كبطلٍ وأب وزعيمٍ يقود الأمة. ما يلي هو تحليل للذاتيات السياسية بالأخص في السياق المصري في علاقاتها المتغيرة بالقائد والتي بدورها غيَّرَت علاقاتها بالدولة وتصوُّرها لها.
صعود ذاتية سياسية جديدة في نهاية عام 2010، أدلى حسام الحملاوي، العضو القيادي في الاشتراكيين الثوريين، بملاحظةٍ مهمة نشرها في مدونته. بعنوان “هناك شيءٌ ما في الأجواء”، سجَّل الحملاوي لقاءاته مع الناس العاديين في مصر مثل سائق تاكسي نقلًا عنه قوله “الله يحرق النظام ده. البلد دي هتولع قريب، قريب أوي. احنا مانقدرش نستحمل أكتر من كده. ليه الكل بيلوم حكومة نظيف؟ نظيف ولا حاجة. حسني مبارك هو المسئول عن الوضع اللي وصلنا له. ليه مابتتكلموش عن مبارك؟” [8]. بدلًا من التركيز على أحمد نظيف، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من عام 2004 حتى عام 2011، بدأ الاهتمام يتحوَّل نحو رئيس الدولة، حسني مبارك. كان الحملاوي مُحِقًا عندما أشار إلى أهمية التركيز على استهداف مبارك في الفكر والعمل الثوري. كانت إطاحة رئيس الدولة مهمةً بشكلٍ خاص في هذا التسلسل الثوري عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مما فتح الطريق أمام إعادة تصوُّر العلاقات بين الدولة والمجتمع في الدعوة إلى أشكال جديدة من التمثيل.
طوال فترة حركات الاستقلال منذ الخمسينيات فصاعدًا، دمجت شخصياتٌ بارزة مثل جمال عبد الناصر صورة القائد مع صورة الدولة. في مصر، حطَّم ناصر المكاسب الديمقراطية القليلة لثورة 1919، وحلَّ الأحزاب السياسية والبرلمان، وفرض بدوره نموذجًا مركزيًا للقيادة. ظلَّ رأس الدولة، كبطلٍ وزعيم للأمة يجب الوثوق به واتِّباعه، مُكوِّنًا مهمًا يفرض علاقةً أبوية بين الدولة والشعب. لعب رئيس الدولة دور مقدِّم الرعاية، وطالَبَ السكان بالتضحية في أوقات الأزمات.
في حالة مصر، استخدم الرئيس المخلوع حسني مبارك مرارًا عبارات مثل “كلنا فقراء” وأسوأ من ذلك في إشارته عام 2010 إلى محاولة المعارضة تشكيل برلمان ظل، إذ علَّقَ قائلًا: “خليهم يتسلوا”. مبارك، كشخصية الأب، كان يرى الناس ويشير إليهم كأطفال ليس لديهم فهمٌ يُذكَر للاقتصاد السياسي والنظام العالمي. مع صعود الجماهير ضد ديكتاتورية مبارك كرئيس للدولة، تغيَّرَت العلاقة بين الحاكم والمحكوم بشكلٍ جذري. لقد واجه رئيس الدولة، الذي لعب دور منقذ الأمة وبطلها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا [9]، تحديًا في هذا التسلسل الثوري الذي غيَّر الفكر الشعبي إلى الطعن في القائد بما في ذلك طبيعته الأبوية، ومن ثم الدولة. من خلال فصل رأس الدولة عن الدولة، فُتِحَت مساحاتٌ جديدة لإعادة تصوُّر العلاقات بين الدولة والمجتمع. كما كتبت جماعةٌ من الأشخاص بشكل معبر:
“إذ يتحرَّر المواطن من تقديسه للحاكم، يقيم علاقة جديدة بينه وبين الوطن. “فلقد ظلت هذه العلاقة منذ تأسيس النظام الناصري علاقة ملتبسة، مشبوهة بهيبة الرئيس القائد الملهم، الذي يدعي أنه يجسد في شخصه وحدة الوطن، فلا يمكن الانتماء للوطن الا من خلال الولاء لشخصه. انهى ميدان التحرير هذه الاسطورة، فأحس كل مواطن انه ينتمي مباشرة وجسديا للوطن دون اية حاجة للرجوع الى زعيم او قائد ملهم. ونسج الميدان وجدانًا وطنيًا افقيًا، يشعر الفرد من خلاله بمسئوليته الشخصية تجاه الوطن، أي دوره المباشر في الحفاظ عليه وتسيير أموره والقيام على مستقبله” [10].
في تحدي رأس الدولة خلال أحداث 2011، هناك ذاتية سياسية جديدة في طور التشكيل، رافضةً الطبيعة الأبوية للدولة التي لا جدال فيها على القائد الذي يجب اتباعه. منذ ذلك الحين، تم إسقاط رأس الدولة من موقعه المنبوذ في الفكر والخيال والعمل السياسي. من رسم الرسوم الكاريكاتورية التي تسخر من القائد، إلى صعود حركة نسائية مهمة، حرَّرَت انتفاضات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل فعال عقول ومخيلات الذوات السياسية الجديدة واضعةً نهايةً لإرث ما بعد الاستعمار للزعيم كبطلٍ ينبغي اتِّباعه [11]. في الانتفاضة اللبنانية لعام 2019، طوَّرَت الجماهير هتافًا محدَّدًا ذا مغزى، وهو “كلن يعني كلن”. منذ ذلك الحين، انطلقت شرارة الروح الجماعية للعمل الجماهيري في إسقاط رؤساء الدول، حيث يكون رؤساء الدول موضع تنازع، ويمكن تحديهم ومحاسبتهم. حتى لو لم يُترجم هذا حاليًا إلى أفعال سياسية على الأرض في مواجهة الديكتاتوريين الجدد للثورات المضادة، فقد تُرجِمَ إلى ذلك بالفعل في مخيلاتهم.
استنتاج مع العام 2011، تكتسح تصوراتٌ سياسية جديدة عقول وقلوب الثوار بحثًا عن أشكالٍ جديدة للتمثيل. إنها باختصار “سياسةٌ تعتبر ما اكتشفته الحركة الجماهيرية أبديًا على أنه وجود ما لا وجود له، وهو المحتوى الوحيد لإعادة ميلاد التاريخ” (باديو، 64). منذ الاستقلال الوطني، تم تمثيل السكان بطرقٍ تناسب قائد الدولة الموجهة نحو النظام الرأسمالي العالمي. وعلى وجه الخصوص، كان للتحول النيوليبرالي تأثيرٌ عميق في تراجع الدولة عن توفير الدعم للسكان، بينما في الوقت نفسه، تمركزت السلطة في أيدي عدد قليل من نخب رجال الأعمال التي تدار من خلال رئيس الدولة.
مع ارتفاع معدل البطالة، أصبح السكان يُصوَّرون باعتبارهم عبئًا على الدولة والمجتمع، عبئًا يجب تأديبه من خلال الشرطة والجيش. في هذا السياق على وجه الخصوص، تم تصوير الشباب بشكلٍ مُشوَّه على أنهم كسالى ومدللون وغير مستعدين لتحمل المسئولية عن حياتهم وحياة بلدهم. في سياق شبيه، يُصوَّر الرجال والنساء على أنهم غير قادرين على التعاون، لأن الرجال في المقام الأول يقمعون النساء وكذلك المسلمين يتغلبون على المسيحيين. هذا الحديث لا يعني تقويض العنف المأساوي الموجود فعليًا فيما يتعلق بالتحرش الجنسي والموقف تجاه المسلمين والمسيحيين. إلا أن ما أثبته احتلال ميدان التحرير هو أن هذا الانقسام جاء نتيجة تشويه الدولة تمثيل الشعب، الأمر الذي تغيَّر بشكل فعال مع الثورة عندما اجتمع الناس بكل اختلافاتهم خلال الثمانية عشر يومًا، وفتحوا إمكانية العمل الجماعي بهدف إيجاد طرق وأشكال جديدة للتمثيل، كما يرونها مناسبة.
يمثل 2011 بذلك عامًا حاسمًا في العودة إلى الفكر والعمل الثوريين. لقد لعبت انتفاضات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دورًا جوهريًا في إعادة تصوُّر التحوُّل، والثورة، والعلاقات بين المجتمع والدولة. لقد بدأ التغيير الثوري في لحظة إدراك إمكانية التغيير من خلال العمل الجماهيري. إن احتلال الشوارع من قبل النساء والرجال، والعمال والطلاب، والشباب والمجموعات السياسية، فتح إمكانيات تحدي رأس الدولة، بل وإسقاط بن علي في تونس ومبارك في مصر عام 2011، وعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر وعمر البشير في السودان عام 2019. من خلال تحدي رئيس الدولة أخيرًا، حققت الانتفاضة الثورية إنجازًا غير مسبوق في المنطقة وبين دول ما بعد الاستعمار. من ناحية، بدَّدَت الغموض عن صورة القائد كبطل، بهدف محاسبة الرئيس. وثانيًا، فتحت المجال للطعن في العلاقة المركزية بين القائد والدولة. هذا العمل السياسي المفصلي المهم يثير أسئلةً مهمة فيما يتعلق بتأثير الثورة على الفكر والممارسة الثوريين، خاصة فيما يتعلق بمسألة التمثيل.
تتعقَّد مسألة التمثيل بشكلٍ كبير داخل سياق الرأسمالية العالمية. إن تأثير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في فرض إصلاحات وطنية لتلائم النظام الرأسمالي العالمي، من خلال تحرير السوق والخصخصة، لهو دليلٌ على مدى تعقيد مسألة التمثيل في سياق الرأسمالية العالمية. وكما قال آدم هنية بصراحةٍ وبحق: “يجب أن تستمر العملية الثورية في المُضي قدمًا لتوقيف الرأسمالية نفسها أو أن تُسكَت على مدار جيلٍ آخر” (هنية، 173). وبالتالي، فإن مسألة التمثيل ليست مجرد مسألة داخل الحدود الوطنية من خلال عقدٍ بين الدولة والمجتمع، بل هي مسألة عالمية. كعملية طويلة، كانت تلك الثورات في المناطق مجرد البداية في الطعن في الحكم الاستبدادي والقمع والفقر، ليس من حيث المطالب المباشرة فحسب، ولكن أيضًا من حيث الفكر والأفكار والتصوُّرات. من خلال نهوض الشعب، حوَّلَت إمكانية التغيير بشكلٍ فعال الذاتيات السياسية بشكل لا رجعة فيه بما يزيل الغموض عن دور القائد ويفتح إمكانيات العمل الجماعي.
هوامش: [1] El-Hamalawy, Hossam https://english.alaraby.co.uk/english/comment/2019/2/27/revolution-is-a-process-and-its-far-from-over [2] Andy McLaverty-Robinson, https://ceasefiremagazine.co.uk/alain-badiou-state/ [3] Sameh Naguib, Maha Abdelrahman, Hanieh [4] Hanieh, Adam (2020) Lineages of Revolt. P.164 [5] Hanieh [6] Abdelrahman, Maha Egypt’s Long Revolution [7] Herrera [8] Hamalawy, Hossam https://arabawy.org/22329/something-in-the-air/ [9] مجموعة النداء بالتغيير, 16 Sept. 2016. عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر [10] مجموعة النداء بالتغيير, 16 Sept. 2016. عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر [11] EL Sharnouby, META
#محمد_محروس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هيجل والتاريخ والثورة
-
كيف هزمت الثورة الروسية الأوبئة؟
-
نعوم تشومسكي: العالم يتغير، وهذه مهمتنا، فهل نحن مستعدون؟
-
السعودية من الأمر بالمعروف إلى رعاية حقوق المرأة
-
مشروع ترامب للاستيلاء على ثروة العراق مقابل إعمارها
المزيد.....
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
-
عاجل | مراسل الجزيرة: 17 شهيدا في قصف إسرائيلي متواصل على قط
...
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|