1- بين مجزرة ومجرزة هناك مجزرة :
بعد مجزرة "الدورة " ، و "الشعلة "و " الحلة " ،جاء الدور على "الزعفرانية " وبعدها جاءت مجزرة "الفلوجة" الأولى تلتها المجزرة الثانية .وقد قيل الكثير عن مسببات هذه المجزرة وكأن القتلة المحتلين بحاجة حقا الى أسباب لكي يقتلوا العراقيين . ومما قيل أن المتظاهرين كانوا يطالبون بخروج جنود الاحتلال من المدرسة الابتدائية التي اتخذوها قاعدة لهم ، وقيل أيضا إن المتظاهرين كانوا يحتفلون بعيد ميلاد الدكتاتور صدام المخلوع أو "المخروع " ويحملون صوره ، وهذه الرواية -إن صحت - تشير الى ممارسة بعثية استفزازية تشبه ممارسات فلول البعثيين في تكريت والموصل وبعض أحياء بغداد الذين أشعلوا شموع الفرح بمناسبة ذكرى ميلاد الطاغية المهزوم ربما لأنه حقق النصر ولكن للطرف الأمريكي !! تلك الممارسات الفاشية التي تعتبر تحديا واستفزازا لمشاعر عموم الشعب العراقي وللشرفاء الذين طالهم قمع النظام في تلك المدن خصوصا ، الشعب العراقي الذي مازال مشغولا بالبحث عن عشرات الآلاف من أبنائه الذين غيبتهم سجون النظام المستبد ، وباستخراج بقايا آلاف أخرى من الجثث من المقابر الجماعية ، إضافة الى أحزان العراقيين الجديدة بفعل سلسلة المجازر التي ارتكبها الغزاة قبل وبعد هرب واختفاء عصابة النظام .
إنه استفزاز واستهتار بحق هذا الشعب الذي اكتوى بنار الطاغية ونظامه طوال أكثر من ثلاثة عقود ، ولكننا نقول ، ورغم إدانتنا لهذه الممارسات البعثية الغبية ، فإنها لا يمكن أن تكون سببا معقولا أو حتى تبريرا لارتكاب المجازر من قبل المحتلين ،أو دافعا الى السكوت عليها والانشغال عنها من قبل عصابة الخمسة لتمرير الصفقات السياسية في خيمة الجنرال غارنر .
نعم ،إنه استفزاز ولكن لا يجب أن يترتب عليه قرار شمولي مضاد كالقرار الذي اتخذه مؤتمر ديناصورات "أور " القاضي بتصفية حزب البعث ومنعه وذلك للأسباب التالية :
- قرارا المنع سيكون قرارا على الورق فقط وهذا الحزب سيستمر في الوجود على الأرض شئنا أم أبينا ، فهو يمثل فئة اجتماعية لها وزنها على الأرض وليس معنى هذا الكلام تزكية لها بل هو وصف مجتمعي محايد .
- قرار المنع سيحول البعثيين من جلادين الى ضحايا ، وقد يربحون بعض التعاطف الجماهيري رغم كل الجرائم التي ارتكبها حزبهم بحق العراقيين والعرب والمسلمين عموما .
- التعاطف مضاف إليه مفعول قاعدة النفسانية (كل ممنوع مرغوب )ستزيد من قوة واتساع جماهيرية هذا الحزب .
- المنع والتحريم بحد ذاته ممارسة فاشية وشمولية بغض النظر عن مبرراتها .
- الحزب لم يعد يشكل خطرا على الشعب أو على النظام الديموقراطي وحتى إذا قامت فلوله اليائسة ببعض النشاطات التخريبية فسوف تتكفل الأجهزة المنية والقضائية بالتعامل معها .
- قرار المنع قد يتحول الى سابقة سياسية تكرر بحق كل من يختلف مع الحكم والحزب السائد .
- من البؤس والتعاسة الباعثة على التشاؤم أن تبدأ الديموقراطية العراقية عمرها بقرار حظر ومنع لهذا الحزب أو غيره .
- وخلاصة القول اتركوا هذه الجثة السياسية " حزب البعث " تتحلل وتتفسخ في ضوء الشمس لتكون سمادا لأشجار المستقبل بدل أن تحولوها من مجرم الى شهيد مجانا .
ونعود الى موضوع المجازر الأمريكية بحق العراقيين فنقول إن هؤلاء الضحايا الذين قتلهم جنود جيش "التحرير" الأمريكي بكل برودة دم هم مواطنون عراقيون رغم ممارسات بعضهم الحزبية الاستفزازية الخاطئة إن تأكد حدوثها ، وإذا كان الرد الأمريكي على كل من يتظاهر حتى إذا كان يحمل صورة للطاغية صدام هو إطلاق الرصاص على الرأس فإن الناس لن ترى فرقا كبيرا بين الفاشية البعثية المحلية وبين الدموية الاحتلالية القادمة من وراء الأطلسي والتي صفق ويصفق لها عبيد المحتلين كما في كل عصر وأوان !
أما رجال المعارضة العراقية المنبطحين تحت ظلال الجنرال غارنر ، أو الذين سيلتحقون بهم قريبا ، فلا ننتظر منهم ( هشاً أو نشاً )حول هذه المجزرة أو تلك ، لأنهم في غيبوبة سياسية وأخلاقية واجتماعية شاملة ، وعيونهم معلقة بقائمة المناصب والامتيازات .
إن هذه المجازر المستمرة ستقصر كثيرا من فترة المقاومة السلبية وغير المسلحة وتنتقل بالوضع العام من طور المقاطعة الى دور " القطع " حيث سيجد المحتلون وأذنابهم في الحكومة العميلة القادمة أنفسهم قريبا ، ومع ارتفاع درجات الحرارة مع اقتراب الصيف العراقي الذي لا يرحم ، هدفا لرصاص المقاومين الاستقلاليين العراقيين من جميع الاتجاهات .
وليس سرا ، أن منافسة تجري الآن على الأرض بين التيارات السياسية الرئيسية في المعارضة العراقية الرافضة للاحتلال ، وخصوصا بين الإسلاميين واليساريين و القوميين لكسب شرف إطلاق المرحلة الحاسمة من المقاومة و قيادة عميلة الانتقال الى الفعل التحريري الذي سيعاقب و سينال ليس من المحتلين فحسب بل ومن عملائهم و أزلامهم في الحكومة الطائفية العنصرية التي يطبخونها الآن على نار غير هادئة في سوق الهرج السياسي الذي يشرف عليه الجنرال غارنر وفق الوصفة الخبيثة لمؤتمر لندن سيئ الصيت .
2- لكي لا تُسْتَدْرَج الحوزة الى " سوق الهرج السياسي " !
أثارت المظاهرة التي احتشدت يوم عقد غارنر المؤتمر الخاص بالأحزاب السياسية المتعاونة مع الاحتلال والتي قام بها الآلاف من مؤيدي الحوزة العلمية العراقية الكثير من القلق بين أوساط القوى المعادية للاحتلال بسبب الشعار الذي حاول البعض ترويجه ، والذي يدعو الى عدم استثناء الحوزة من ذلك المؤتمر . والحقيقية فأن كلام بعض الخطباء الداعي لتوريط الحوزة في مباءة مؤتمر غارنر ، ومحاولات رئاسة المؤتمر الخماسية ( طالباني ،جلبي ، برزاني ،حكيم ،علاوي ) الهادفة الى طمأنة المشرفين على المظاهرة من أن الحوزة لا يمكن استثناؤها !!
الحقيقة أن كل هذه التفاصيل تؤكد أن هناك تيارا في الحركة الإسلامية الجديدة يحاول حرف اتجاهها من العداء للاحتلال الى التعاطي والتعاون معه كما هي الحال مع احمد أبو رغال الكبيسي ، وإحداث شرخ خطير بين هذه الحركة الإسلامية " الصدرية " وبين الحركة الوطنية العامة المعادية للاحتلال والمطالبة برحيل المحتلين . هذا الاستدراج إذا حدث لن يقضى على القوة المقاومة قضاء مبرما ولكنه سيلحق بها خسائر معينة على المستوى الجماهيري ، وقد يؤخر صعودها وتطور نشاطها من مرحلة المقاومة السلبية والمقاطعة المدنية والسياسية للاحتلال الى مرحلة المقاومة المسلحة القادمة حتما فالأمريكان لن يرحلوا إلا إذا جعلهم العراقيون يخوضون في دمائهم . وإذا ما حدث ومال هذا الجزء هذا التيار في الحركة الإسلامية الى التعاون مع المحتلين أو السكوت على وجودهم فسوف تفقد الحوزة العلمية بدورها هيبتها وجمهورها المعادي بالبداهة للاحتلال ، والساعي الى الاستقلال التام ،إذا ما تم استدراجها الى اللعبة السياسية ونعني لعبة تشكيل حكومة عميلة تحت خيمة غارنر و محاولة "التغليس" عن وجود الاحتلال ذاته .
ونود أن نذكر الأخوة في الحركة الإسلامية والاتجاه الصدري غير المخترق منها خصوصا ، بأن ما يحدث اليوم على أرض العراق ليس جديدا ولا سابقة له ، وهاكم الدليل : لقد أفرزت تجربة حرب المقاومة والتصدي سنة 1914 وتجربة ثورة العشرين ذاتها اتجاهين داخل حركة السياسية والاجتماعية . الاتجاه الأول هو اتجاه المقاومة والجهاد حتى التحرير والاستقلال ومثل هذا الاتجاه زعماء وقادة ثوريون معروفون من علماء الدين وشيوخ القبائل والشخصيات المدنية ومنهم الحيدري والخالصي والصدر والحبوبي وكاكه أحمد الحفيد وشيخ الشريعة وعبد الواحد الحاج سكر ومرزوق العواد وغضبان البنية وضاري الزوبعي وجعفر أبو التمن وشعلان أبو الجون ومولود مخلص وغيرهم من ثوار العراق الاستقلاليين الذين مازالوا أحياء في قلوب الناس .
أما التيار الثاني في الحركة السياسية العراقية قديما ، فقد راغ ومال الى المساومات والتعامل والتعاون مع المحتل البريطاني والمشاركة تشكيل الوزارات بعد إعلان الاستقلال الشكلي ، ومن هؤلاء آية الله كاظم اليزدي وعبد الهادي الجلبي وعبد المحسن السعدون ونوري السعيد وصالح جبر والعديد من رؤساء الوزارات في مملكة العار والمجازر الهاشمية . إذن ، قصة الانقسام الى ثوار وعملاء ليست جديدة ، بل نحن إزاء نسخة منقحة شكلا وتافهة مضمونا منها ، وعلى الإسلاميين الاستقلاليين أن يكونوا في خندق الخالصي والصدر و وليس في خندق الجلبي الصغير و علاوي وطالباني وحكيم .
الخيار واضح ..
ومعركة المقاومة وتحرير العراق قادمة..
والتاريخ حين يعيد نفسه فهو يرتدي في المرة الأولى مسوح المأساة وفي الثانية ملابس المهرج !
3- بكائيات رامسفيلد :
في آخر قصيدة عصماء له ، ألقها من قناة الجزيرة القطرية قال وزير الدفاع الأمريكي المسخرة العبقرية "رامسفيلد " بأن قواته لن تبقى في العراق أكثر مما ينبغي يوما واحدا .وأضاف مجرم الحرب هذا قائلا ، وإذا كان وجودنا – نحن الأمريكيين – غير مرحب به في هذا البلد أو ذاك فنحن يمكننا أن نذهب الى أماكن وبلدان ترحب بنا كل الترحيب . وبعد ذلك بيومين أو ثلاثة أعلن الأمريكان ومن طرف واحد عن سحب جميع قواتهم وقواعدهم من المملكة السعودية تاركين العرش السعودي الملطخ بدماء أحرار الجزيرة يواجه عواصف ما بعد احتلال العراق وحيدا ، ومأزوما ،ومكروها من غالبية الشعوب العربية والإسلامية ، هذه الشعوب التي تنظر الى الأسرة السعودية المالكة كعصابة من اللصوص التي استولت بدعم من النار الأمريكية على نفط الجزيرة العربية وجعلته ملكا عائليا خاصا بها .إن هذه البكائيات الأمريكية تعكس مأزقا أمريكا كبيرا بعد أن تلاشى منظر الزهور التي تمطرهم بها الجماهير العراقية و التي وعدهم بها الكاتب الزنيم صاحب الأذن الموسيقية ، وحل محلها الرصاص والقنابل اليدوية . وعلى أرض الواقع فشل المحتل الأمريكي في تنصيب حكومة احتلال أمريكية محضة ، وعاد الى مستودعات الخردة السياسية وأخرج منها أطراف المعارضة العراقية التي أهملها بعد مؤتمر لندن ،ولمع عدة قطع منها ،وعقد لها مؤتمرا آخر في بغداد المحتلة ، على أمل أن تطبخ له حكومة عميلة خلال شهر دون أن يدري انه أحرق أوراق هؤلاء " القطع السياسية " و دمرهم سياسيا .
وسيستمر المأزق الأمريكي وسيزداد شدة مع اقتراب الطور الأول من المقاومة السلمية من نهايته واشتعال الطور الثاني تحت أقدام الغزاة الذين لم ينجحوا حتى الآن إلا في الحفاظ على وزارة النفط ومدينة تكريت وفندق فلسطين . أما المحتلون البريطانيون فقد قبلوا " بقسمتهم " وحافظوا على مطار البصرة سليما إضافة الى إنهم لم يتورطوا في مجازر دموية ضد العراقيين فقد حفظوا الدرس الذي تركه لهم أجدادهم في بدايات القرن الماضي ، وأكثر من هذا إن القيادة البريطانية الميدانية أمرت جنودها بالإكثار من الابتسام بوجوه أهالي البصرة حتى ظن البصريون أن الجنود الإنكليز يعانون من حكة خاصة في "موضع ما " من أجسامهم تجبرهم على الابتسام ، ويقول شاهد عيان إن الأطفال البصريين صاروا يصيحون كلما شاهدوا جنديا بريطانيا يبتسم بوجوههم : إجته الحكة ، إجته الحكة ..!!
هامش / تحية اعتزاز للكاتب سلام عبود : أقترح على القارئ الكريم مطالعة المقالة المهمة والممتازة للزميل الناقد العراقي سلام عبود والتي تحمل عنوان " أقنعة الفرهود " والمنشورة على موقع الحوار المتمدن rezgar.com قبل يومين ، والتي يحلل فيها بشكل علمي رصين ظاهرة السلب والنهب والفرهود التي سادت بغداد وبعض المدن العراقية الكبرى خلال اجتياح المحتلين الأمريكان والبريطانيين لها . تحية للزميل سلام ولكل قلم شريف يعادي الاحتلال الأجنبي والإمعات المرافقة له من رهط المثقفين العراقيين العملاء وأنصاف العملاء .
كما أقترح على المواقع العراقية الأخرى إعادة نشر تلك المقالة ، والشكر موصول للزميل نزار رهك الذي نبهني الى أهمية تلك المقالة .