تصحيح على مقالة محمد الحجيري
شاعر عراقي مقيم في السويد
"يا سماءَ العراقِ..
أما من هواءٍ
تلفّتُ..
كانتْ سماءُ العراقِ مثقّبةً بالشظايا
وكانتْ…………
تعثّرتُ في صخرةٍ
فرأيتُ حذائي الممزقَ يسخرُ مني…
- لا بأسَ…
فليكتبِ المتخمون وراءَ مكاتبهم عن لحومِ الوطن"
- من ديوان "سماء في خوذة" الصادر هناك عام 1988-
في "الملحق الثقافي لصحيفة النهار ع 1581 بتاريخ 27 نيسان 2003 نشر الاستاذ الكريم محمد الحجيري موضوعاً غاية في الجرأة والكشف معرياً فيها تجار الكلمة الذين لطخوا مداد ضمائرهم بزيف المديح الفارغ لجبروت أعتى سلطة دكتاتورية شهدها عصرنا الحديث والتي جرّت بلادنا إلى الخراب بعد ثلاثة حروب طيلة عقدين من الزمان لوّنت سماء العراق بالدم والرماد.. هذه السماء الرحيبة التي حشروها في خوذة – كما عبرت عن ذلك في ديواني "سماء في خوذة" الصادر في الوطن عام 1988
لكن وردت في مقال الحجيري عبارات أساءت لي هي ترديد لحملة البيانات والاشاعات التي نسجها وأطلقها رجال النظام البائد عام 1997 وصدقها البعض – للأسف الشديد - وتداولها تحت باب "قيل أن" دون تمحيص أو تدقيق..
وقد كتبت ردي وقتها (انظر "السفير" بتاريخ 26/9/1997 وناقشت فيه تلك التهم الظالمة واحدة واحدة ومن كان وراءها وتحديتهم أن يثبتوا واحدة منها. وها أنا أجد نفسي بعد 6 أعوام مضطراً لتوضيح بعض النقاط التي انطلت على السيد سلام عبود فروّجها في كتابه والتي استند عليها الاستاذ الحجيري في مقالته تلك التي يبدأها بقوله:
قيل عنه أنه عمل مسؤولاً للتوجيه السياسي!! ومن مروجي ايديولوجيا الحرب!! ومن منظمي مديح الدكتاتور!!.. والخ
وأنا لستُ كذلك أبداً وهذا ظلم وتجنٍّ كبيرين..
وقبل أن أناقش هذا "القيل" أقول:
أولاً: لم أعمل مسؤولاً في دائرة التوجيه السياسي أبداً.
ثانياً: لم أمدح صدام أو البعث أو النظام بسطر واحد ولم أكن مروجاً لايديولوجية الحرب.
ثالثاً: لا علاقة لي بمهرجان الميلاد مطلقاً.
وسأتوقف أما ما ذكرته نقطة نقطة لتوضيح ومناقشة تلك الافتراءات.
النقطة الأولى: أُقتدت للخدمة العسكرية الاجبارية في الجيش جندياّ نعم جندياً فقط لأكثر من 12 عاماً كأغلب أبناء جيلي، عشتها بكل تفاصيلها. متنقلاً بين المعسكرات وسواتر الحرب: جندي مشاة، ومغاوير، وحمّال صناديق أرزاق وعتاد مع البغال، أشرفتُ على الموت مراراً على سواتر الحرب الأمامية، قضيت منها عاماً ونصف تقريباً في اسطبل مهجور للحيوانات في قرية شيخ اوصال في السليمانية رموني فيه وفي تلك الأجواء الكابوسية بدأت بكتابة نشيد أوروك..
على أثر احتياج صحيفة القادسية لأقلام صحفية وأدبية نقل العديد من الأدباء والصحفيين ممن يؤدون خدمتهم في الجيش وأنا منهم. كان ذلك عام 1986 أي بعد 6 سنوات من جحيم القصف والمعسكرات المتعددة، عملتُ في البدء مصححاً في جريدة القادسية، ثم محرراً ثقافياً فيهاً، ثم مسؤولاً للقسم الثقافي في مجلة "حراس الوطن"، حتى انتهاء الحرب وتسريحي من الجيش في كانون الثاني عام 1989.
في صحيفة القادسية، كانت لي زاوية ثقافية كل ثلاثاء، أسميتها "مرايا" وقد جمعتها فيما بعد وأصدرتها في كتاب تحت عنوان "مرايا لشعرها الطويل" قدم لها الشاعر عبد الوهاب البياتي.
وفي مجلة حراس الوطن عملنا: ضرغام هاشم (أُعدم في بداية التسعينات) وعلي المندلاوي وسلام الشماع وآخرون. كنتُ أحرر صفحات القسم الثقافي وكانت لي فيها حوارات ثقافية شهرية طويلة أجريتها مع العديد من المبدعين، منهم: عبد الرحمن طهمازي، محمد خضير، د. علي عباس علوان، فؤاد التكرلي، عيسى الياسري، د.علي جواد الطاهر، ديزي الأمير، بهجوري، فاضل ثامر، ياسين النصير، لطفية الدليمي، رشدي العامل وغيرهم
كما أعددت للمجلة أول ملف عن جيل الثمانينات (ع387 في 1987) تحت عنوان: "أيها النقاد انتبهوا رجاءً.. الثمانينيون قادمون. جيل الثمانينات جيل الحرب" ضم شهادات لعدد من أبرز الشعراء الشباب وقد حظي الملف باهتمام الوسط الأدبي. وعدته الكثير من الدراسات بأنه أول ملف للجيل
لو تصفحتَ نصوصي وكتاباتي وتلك الحوارات لأدركت حجم التحديات والمخاطر التي كان علي أن أجتازها وسط عقلية طبول الحرب.
من عام 1989 وحتى خروجي من العراق عام 1993، عملت محرراً في مجلة "الطليعة الأدبية" وفي نادي الكتاب ومجلة "الكتاب" في دار الشؤون التقافية وأثناء تلك الفترة أيضاً دفعني بعض الأصدقاء بحماسهم إلى الترشيح في الانتخابات الجديدة التي أجريت في منتدى الأدباء الشباب، فرشحتُ نفسي ورشح البعض من الأصدقاء من الأدباء، فتم 41
انتخابي رئيساً للمنتدى. وعبد الحميد الصائح نائباً للرئيس. وانتخاب بعض الأسماء أعضاء منهم: عبد الرزاق الربيعي، فضل خلف جبر، دنيا ميخائيل، محمد مظلوم، أمل الجبوري، حيدر منعثر، وسام هاشم، محمد حياوي، لهيب عبد الخالق، وغيرهم..
كنا مجموعة من المهووسين بالنص المغاير وبالقصيدة اليومية الجديدة. وقد حلمنا وعملنا وسعينا لتأسيس أو تقديم ثقافة جادة مغايرة الى حدٍّ ما، بعيداً عن تداعيات واشكاليات المنتدى القديم الذي رأسه لؤي حقي وعاث في الوسط الثقافي فساداً وبعيداً عن سطوة أعضاء اتحاد الأدباء الكبار، كما كنا نعتقد بحماسنا الشبابي.
42
43
لقد لفتت فعاليات المنتدى إليها الأنظار في تلك الفترة، رغم المضايقات الكثيرة والصعوبات المالية التي كانت تجابهنا، حدّ أننا لم نكن نملك أجرة نقل الشاعر كزار حنتوش من الديوانية بعد أن اهملت الوزارة أمر المنتدى تماما.
لكننا من جانب آخر استفدنا من هذا الاهمال فأقمنا نشاطاتنا الأدبية بمناخ شبه مستقل.
ومن تلك النشاطات أذكر على سبيل المثال لا الحصر، أول أمسية لقصيدة النثر في العراق ليومين متتاليين، شارك فيها الشعراء: عقيل علي، خالد جابر يوسف، خالد مطلك وآخرون لا أتذكر الآن أسماءهم، وأول أمسية لجماعة "تضاد" القصصية: اسماعيل عيسى ، شوقي كريم، عبد الرضا الحميد، حميد المختار، واماسي لأدباء ومفكرين مثل محاضرة للعلامة د. علي الوردي عن المجتمع العراقي. وكان ذلك أول ظهور له بعد عزلة طويلة في منزله، وأمسيات لعيسى حسن الياسري وكزار حنتوش وحسن مطلك (أعدم في 18/7/1990) وحاكم محمد حسن (أعدم نهاية الثمانينات) ونصير شمه وديزي الأمير وأحمد دحبور ورشاد أبو شاور (أثناء زيارتهما الى بغداد)، وأماسي لأدباء المحافظات، وغير ذلك من النشاطات.
أما مجلة أسفار فقد أصدرنا منها في دورتنا عددين فقط، هما: العدد المشترك والخاص بالجيل الثمانيني 11-12 في 1989 والعدد 13 في 1992) الذي خصص لأكبر ملف عن الجيل الثمانيني ضم أكثر من 40 شاعراً
44
وقد أثار العدد الكثير من الاهتمام والنقاشات. وقد كتبت عنه الصحافة العراقية والعربية كثيراً. منها مقالة للشاعر عباس بيضون ( ملحق النهار 25/4/1992).
لكن العدد أثار من جانب آخر هياج كتاب التقارير والشعراء الفاشلين ورموز السلطة إلى حدٍّ كبير.
هذه باختصار سيرتي وعملي هناك..
كان الخيار صعباً، ففي أرض معوجة كيف يمكنك أن ترسم خطاً مستقيماً كما تقول سيمون دي بوفوار؟..
هذا ما حاولته. فهل نجحتُ؟
لا أدعي بطولة ولا أفكر بها.
ولو قُدّر لي الأمر، لو كنتُ أملك حريتي لقفزت على تلك المحطات التي وجدتُ نفسي فيها مرغماً. والتي أخذتْ وضيّعتْ الكثير من وقتي ومشاريعي الشعرية. رغم ما قدمتهُ شخصياً وما قدمه البعض من الأدباء من جهد وحماس حقيقيين، لإشاعة ثقافة، نظيفة، جادة، وشابة ومورقة.. في ذلك الزمان اليباب.
النقطة الثانية: لقد كتبتُ وعملتُ بنزاهة ووعي وضمير أدبي وانساني، متجنباً السقوط في شراك السلطة وألغامها ومغرياتها وأوحالها.
33
32
نعم أعتز أنني كتبت ونشرتُ وأصدرتُ 6 مجاميع شعرية وخرجتُ بقلم نظيف لم يتلوث أبداً بمديح أو تهريج أو اسفاف، تحت كابوس أعتى دكتاتورية عرفها التأريخ المعاصر، ومناخ ثقافي لا يُحسد أي أديب عليه.. وما كان ذلك ليتحقق لولا رفض حقيقي يعتمل في الروح، روح الشاعر، ولولا التفاف البعض من أصدقائي الرائعين حولي، ولولا دم أصدقائي: علي الرماحي وحميد الزيدي، وعبد الحي النفاخ الذي كان يذكّرني ويحرّضني وهو يصرخ في شراييني
ويضيء
النقطة الثالثة: لاعلاقة لي مطلقاً بمهرجان "ميلاد القائد". والجميع يعرف أن المسؤول عنه ومنظمه هو الشاعر رعد بندر الملقب بـ "شاعر أم المعارك".
وأخيراً أقول:
يقول الأديب سعيد تقي الدين في عبارته الشهيرة:
"إذا أردت قتل خصمك لا تطلق عليه الرصاص
بل أرمهِ بشائعة".
لستُ الأول من تعرض لمثل هذا الـ "الاشاعات الرخيصة" ولن أكون الأخير..
لكن ينبغي علينا كمثقفين الوقوف بوجه هذه الممارسات وتفحصها لكي لا تستمر الاساءة إلى الآخرين.
لقد خرجت من العراق عام 1993 وأصدرت ديواني "تحت سماء غريبة" في لندن عام 1994 بتقديم الشاعر سعدي يوسف، ثم انتقلتُ الى بيروت وأصدرتُ نشيد أوروك، والخ.. فلماذا إذن لم يثر أحد مثل هذا القول عني إلا في عام 1997. وأسأل: لو خرج شاعر بمثل تلك المواصفات المرعبة التي ذكرتها هل يحتاج لفترة أربع سنوات لينكتشف من هو أم أنه الجميع سيعرفه في الساعة نفسها أو اليوم أو الشهر أو السنة؟
لماذا انخبصت الدنيا عليّ عام 1997 بالتحديد، بعد حصولي على جائزة الشعر في هولندا!؟
لقد أثارت رسالتي الخاصة التي وجهتها الى البروفسور أ.ج. فان فيرستاي رئيس منظمة الشعر العالمية أثناء انعقاد المهرجان في هولندا عام 1997 غضب النظام العراقي وأعوانه وكنت قد تحدثت فيها عما يجري للمثقفين العراقيين داخل العراق وما يتعرضون له من قمع وإذلال وتصفيات ومصادرة حريات. وكانت تضم أسماء وتواريخَ وأحداثاً، وكذلك عن وضع الأدباء والمثقفين في المنفى وما يتعرضون له من ملاحقات مستمرة بسبب كتاباتهم.
وقد جند النظام أبواقه ومرتزقته لملاحقتي والإساءة لي وكذلك للتشويش على المهرجان، معتمداً أيضاً على بعض الأدباء الفاشلين الذين أعمى الحقد والحسد والفشل قلوبهم وعيونهم وأفكارهم. أن هؤلاء الفاشلين الذين كانوا يروجون داخل العراق أن قصائدي معادية وأن "أفكاري سوداوية لا ترى بيارق النصر التي تلوح على جبين القائد الملهم"، هم أو من هم على شاكلتهم في المنفى من أطلقوا تلك الاشاعات والاقاويل الرخيصة..
لقد وضعتني صورة الارهاب الثقافي هنا وهناك، أمام مفارقة مرعبة لما آل إليه وضعنا السياسي والثقافي والأخلاقي، متمنياً أن ينتبه المخلصون إلى هذا كي لا يستمر الفاشلون والمخبرون في اشغالنا عن مهمة الكاتب الأجدى والأسمى والأبهى؛ وتلك هي التي تخيفهم حقاً..