|
دونية ومسحوقة أيضاً
منهل السراج
الحوار المتمدن-العدد: 1623 - 2006 / 7 / 26 - 08:50
المحور:
الصحافة والاعلام
أرسل لي صديق، معلقاً بغضب، عن آخر مادة نشرتها: ـ مادتك تعبر عن دونية مسحوقة، لكن لأنني أعرفك وأفهمك، أنصحك أن تبتعدي عن هذه الأفكار. ثم ألحقها برسالة أخرى: ـ من يتلاعب بعقلك؟ وفي رسالة ثالثة قال إنه آسف. صديقي يحب عروبته ويعتز بها. أنا أيضاً أحب عروبتي لكن والله لاأعتز بها. اعتذر لظنه أنه آذاني، لكنه لم يؤذني لأن حقيقة الأمر أن شعوراً بالعار يغمرني. ربما كنا يوماً أبطالاً كما يدعي التاريخ والأدب العربي. أرى استنكارا من ربما هذه! هذه دعوة لفضح التاريخ وفضح حالنا وبعضنا علنا إن خجلنا قليلاً، ننهض من وضعنا الذي أنهكناه بادعاءاتنا ومكابراتنا. قال إنه يوجد مشروع صهيوني عنصري، قلت موافقة: معك حق. ولكن لن أبدأ بالعدو، كما تحبون تسميته، وليس من مهمتي تغيير منهجه. سأبدأ بحالنا. بلاد العرب، تسمى دولاً وهي ليست أكثر من رؤساء وشعوب. ثنائية مكررة. الأول يرتكب الحماقات والثاني يموت، إما بسلاح زعيمه أو بسلاح عدو زعيمه. أحزاب وتجمعات ليست إلا مشاريع تتماهى مع الزعيم وأعضاؤها يتماهون معها، يؤمنون حتى الثمالة بقدسية الزعيم وهم مستعدون للموت في سبيله، أما هذا الزعيم، فلا دور له إلا تهديد الأعداء بهذا الرصيد البشري الذي يملكه، تراه يراهن على النصر، حين تصبح أجساد الضحايا جبالاً هائلة؟ إذا كان متأكداً فليخبرنا عن العدد الذي يلزمه للحصول على النصر، كي نعد قتلى كل يوم وننتظر الخلاص حين يصل العدد إلى الرقم المطلوب.
في الصباح أقرأ الصحف كما يفعل كل الناس، أقلب الصفحات وكما يفعل كل الناس، أكظم غيظي، وأرى بالتسلسل: صور الرؤساء يتصافحون، أو يخطبون أمام الشعوب، وهم على الغالب بصحة جيدة. أسماء الكتاب المشهورين، وصور الفنانين المعروفين. غالباً الصورة المكبرة، تكون في الوسط وهي تخص بقية الشعوب، أعني للخبر الطازج، تفجير الأمس في العراق أو فلسطين واليوم في لبنان.. طفل في لفافته لم يحي بعد ليموت، طفلة تبكي أبيها الذي كان يمسك بيدها منذ برهة، وربما تنتظر الأرجوحة الهانئة التي وعدها بها، أم تضرب صدرها وتشق قميصها. وكل يوم، كل يوم، شاب مراهق ملفوف بعلم البلاد. أمهات فلسطينات يزغردن لقتل أبنائهن، لماذا؟ لأنهم شهداء، هكذا لقنوهن، عليهن كبح الدموع والنواح كي لايحرمن الشهيد الشهادة. لكن الدم المهدور لم يذهب رخيصاً وحسب، بل وفتح جروحاً أخرى لتنزف المزيد والمزيد، الدم المهدور تسبب بتفجير أجساد أطفال آخرين وهدم البيوت وضياع الثروات والأعمار.
ماألاحظه في هذا العمر المتشابه في صفحاته الأولى والأخيرة، أن صور رؤساء الدول، وصور الفنانين والكتاب، صور ثابتة بينما صور الضحايا متنوعة وتلقائية. ذلك لأن أصحابها لم يعرفوا أبداً أنهم في الغد سيتبؤون الصفحة الأولى، ولن يفرحوا بهذه الشهرة لأنهم مضوا إلى الآخرة. بينما المشاهير يعرفون أن صورهم كل يوم تنشر، لذلك يحافظون على وجوهم مبتسمة ومبتهجة ومنتصرة، ذلك لأن الشعوب تنتظر طلتهم لتجعل يومها متفائلاً. وأكثر ما يملؤني عاراً. صور أطفال يهتفون بحياة الزعيم أو بسقوط العدو. أتذكر أن المسيرات التي كانوا يخرجونا إليها بالقوة، كانت تبعث على المتعة. تهتف الموجهة بنداء، يعيش الرئيس أو يسقط العدو، تتلقفه قائدة الصف وتردده علينا فنردده وراءها. في بادئ الأمر، نردده مجبرين، ثم يسري بيننا ضحك، ثم يصبح الهتاف ممتعاً. وهكذا تبدأ القصة بالمشاركة الباردة وتنتهي بهتاف حقيقي، لامعنى لكلماته، ولا قيمة لها، إنما بالصراخ والحماس الجماعي، نفجر كل الكبت الذي نعيشه في بيوتنا وحاراتنا ومدارسنا. وهؤلاء الأ"طفال المنهكون من الفقر والكبت والحرمان، سيهتفون ويحيون بطولة القائد ويسقطون العدو، عدو الزعيم، هو عدو البلاد. هتاف جماعي، استقواء وتعويض وهمي عن ألف خسارة يعيشونها يومياً، لامدرسة جيدة، لامكان حقيقياً ليلعبوا، لاضمان صحياً ولاضمان حياتياً. ذلك لأنهم صاروا مهيئين للجنات فقط. لسنا محملين بألم وإحساس بالخسران يدفعنا لطعن أنفسنا كما فعل الكاتب الياباني يوكيو ميشيما حين قتل نفسه على طريقة الساموراي، في نهاية محاولة يائسة صدمت خيال العالم بأسره، مع أن خساراتنا ليست أقل من خسارات اليابان بعد الحرب، ذلك لأننا لسنا بالشجاعة الكافية للاعتراف بهزيمتنا وعارنا أولاً حتى نكون قادرين على فعل كبير ومعلن كهذا.
#منهل_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مي شدياق .. أنا أنا لم أتغير
-
اعترافات عن عارف دليلة
-
كما ينبغي لنهر
-
تمرين صعب من اجل السلام
-
بين الضفتين
-
حقيبة فاتح جاموس
-
وصفة لشهرة. وصفة للسترة
-
جمعيات سقط عتب
-
ترى... من هو عريس الليلة!
-
أما أنا فأفهمك يانجيب
-
بترحلك مشوار؟
-
بأي حق يغتالون الصداقة
المزيد.....
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|