|
التهمة إدمان المنشورات
مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن-العدد: 6800 - 2021 / 1 / 27 - 15:45
المحور:
سيرة ذاتية
من الجرائم المرتكبة بحق مناضلي السبعينيات والثمانينيات، وبحق النضال نفسه، الاستهزاء بالمبادرات والاحتجاجات التي كانوا يخوضونها ضد نظامي السادات ومبارك القمعيين. فكانت العبارة السخيفة الرائجة بعد انتفاضة 2011: "لقد حققنا في 18 يوم ماعجزتم أنتم عن تحقيقه في أربعين عامًا".وهو كلام غير منصف وغير علمي ومليء بالزهو الأجوف، بل ومثير للريبة.
فنغمة التنابذ بين الأجيال في الحركة الواحدة هدفها التفكيك بقصد الانفراد الأسهل بالجناح الغض قليل التجربة، وهي أكبر خدمة يمكن تقديمها للقوى المضادة. بل ومن المثير للريبة أكثر أن الحكم نفسه، بأجهزته الأمنية والسياسية وإعلامه، كان يحدد من سيتفاوض معهم، بل ويعمل على تلميعهم بقوة، وهو ما كان يثير الفرقة أيضًا بين أطياف الجيل الجديد نفسه، واتضح في آخر الأمر أن الهدف الأمريكي والنظامي منه هو تمكين جماعة الإخوان وحفنة من الليبراليين من ادعاء الإمساك الحصري بأعنة العملية الثورية.
ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن عقبات كثيرة كانت تواجهنا في زمننا.. فنتيجة للمسار المعقد والمليء بالانكسارات في حركتنا، أخذ التحول صوب اليمين، وربما الانتهازية المموهة والمكشوفة على السواء، يصيب الكثير من القادة وغير القادة. وكان أخطر هذه التحولات بالنسبة لجناح بالغ الأهمية في الحركة الديمقراطية والتقدمية المصرية هو التماهي المتزايد بين الحزب الشيوعي المصري وحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.
وحتى تتضح وجهة نظر الكاتب سيكون من الأفضل أن أضرب مثلاً عمليًا ومحليًا جدا ومن واقع ممارستي الشخصية. وأتحدث هنا عن واقعة لإصدار المنشورات السرية. وكان هذا عملاً شديد الخطورة في أيامنا وتتعامل معه الأجهزة بكل قسوة وانتقام. وإذا كان مناضلو التسعينيات قد عرفوا تقنية الفاكس مما أعطاهم حرية حركة أكبر في النسخ والطباعة للبيانات، ثم أصبح بإمكان الشاب الواحد في القرن الحادي والعشرين أن يخاطب عشرات الآلاف من خلال البريد الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي، فإن جيلنا كان يعاني المصاعب والمخاطر من أجل طباعة منشور وتوزيعه.
كان الحصول على آلة كاتبة أمرًا بالغ المشقة والمجازفة، لأنه لا بد من تسجيل بصمة الآلة في مباحث أمن الدولة. أما امتلاك آلة رونيو للطباعة فيكلف حائزها سنوات من عمره، ربما في السجن الحربي. فكيف كنا نتحايل على ذلك؟ سأضرب مثالاً مهمة على هذه الصعوبة، وأيضًا كمثال على المصاعب الناجمة عن توجس نفر من القادة وميلهم إلى إحباط المبادرة إشفاقًا على حزب التجمع الذي سيتحمل نتائج "نزقنا".
في أوائل عام 1979 قررت مجموعة يسارية في مدينة المنصورة (وهي مدينة متحضرة تتصف بالحميمية والمزاج اليساري العام) القيام بحملات للكتابة على حوائط المدينة بأسلوب مبتكر ومجموعات متعددة للتنفيذ لفضح نهج السادات الخياني والقمعي و"الانفتاحي". وكان من المضحك أن ترى في صباح اليوم التالي عمال البلدية يلطخون الجدران بالطلاء لإخفاء الشعارات الجريئة، مثل "أين الرخاء يا لصوص الشعب"، "أين الحرية يا أبطال القمع والإرهاب"، "أين الاستقلال يا حكام التبعية والتطبيع"...؟
ثم قررنا تطوير العمل بإصدار منشورات محلية، وميزتها أنها تصل إلى المواطن مباشرة من تحت باب شقته أو دكانه.. ولأن الحصول على آلة كاتبة كان مغامرة في حد ذاتها، فضلاً عن صعوبة تأمينها، قررنا كتابة المنشورات بخط اليد. كلفنا زملاء بشراء رزم الورق، وقمت شخصيًا بشراء أوراق الاستنسل (الحرير) وقلم الكتابة عليها من مكتبة "السروي" المعروفة بالمنصورة، وألمحت للبائع- دون أن يسألني- أنها لكتابة ملازم دروس خصوصية.
أما جهاز الطباعة البدائي فقد حصلت عليه من عم جاد (المعروف باسم "بُرُّق") اليساري القديم، وهي عبارة عن لوح زجاج وبرواز من الخشب المزود بشبكة من الحرير، بالإضافة إلى "رولّة" (اسطونة كاوتشوك).. وجاء من القاهرة إلى المنصورة لزيارة أقارب له ومعه هذا الجهاز البدائي (المعروف حركيًا باسم "عزيزة") وقام بتدريبنا عليه أنا والمرحوم سعد الحنفي المحامي والدكتور عبد العزيز عبد الحق والمهندس نصر حلقة. ومن الطريف أنني أثناء سيري مع عم جاد في شارع جانبي، فوجئنا بالمناضل المرحوم رأفت سيف (الرفيق منير) في مواجهتنا مباشرة فتجاهلنا تمامًا، ولم يسألني قط بعد ذلك عن سبب الزيارة، فقد كان رحمه الله شخصية فذة وفي منتهى الانضباط.
وكالعادة قمت بصياغة أول بيان، وكتبه بخط يده على الاستنسل المرحوم سعد الحنفي (وهذه كانت مجازفة مشكورة منه).. اتفقنا على توقيع البيان باسم "الوطنيون الشرفاء". وتفتق ذهني على فكرة عجيبة بأن نضع على رأس المنشور عبارة "البيان رقم 2".. فاعترض الزملاء بأن هذا تدليس عبثي.. فأقنعتهم بأن ضباط أمن الدولة المسؤولين سيخجلون من الإبلاغ عن البيان رقم (2) وليس لديهم البيان رقم (1).. فكادوا يقعون من الضحك.. وإن أبدى أحدهم التخوف من أن هذا سيخلق ثأرًا شخصيًا مع الضباط.
قام بالتوزيع في المنصورة وبعض المدن الأخرى بالمحافظة مجموعات عديدة، كل مجموعة تتكون من رفيقين يتبادلان التوزيع والحماية. وحددنا بدقة لكل مجموعة المواقع التي سيتم التوزيع فيها، وألا يتجاوز زمن التوزيع نصف الساعة، وإن تبقى شيء معهم أيًا كان حجمه يتم التخلص منه فورًا. وحددنا لكل مجموعة حائطًا ما يقومون بكتابة علامة "صح" عليه عند إتمام العمل بنجاح. أما دوري فكان أن أسهر في مكان واضح للأمن مع المهندس أشرف تاج أو المهندس محمد الزيني.. وكأننا نقول للمخبرين "هانحن هنا"!! وعند الموعد المحدد نمر بالسيارة على الحوائط المتفق عليها لنأخذ "تمام" العملية بقراءة علامة الـ "صح".
أما التوزيع بالبريد فكنت أقوم به وحدي دون علم الرفاق.. قبل التوزيع اليدوي بيوم. وكنت قد طلبت منهم موافاتي بكشوف بعناوين شخصيات عامة مهمة. واشتريت عددًا كبيرًا من الأظرف بأشكال وألوان مختلفة، وكتبت العناوين عليها بخطوط مختلفة وبأقلام وألوان مختلفة.. وكنت أضع في كل صندوق بريد عددًا من الأظرف المختلفة.
في صباح اليوم التالي كانت المدينة كلها تتحدث عن المنشورات، حتى أشقائي. وبعد أسبوعين قررنا إصدار البيان رقم (3) وزدنا العدد المطبوع إلى 5 آلاف نسخة.. وجدير بالذكر أن قيادات الحزبين سابقي الذكر لم يتم إبلاغها بأي شيء. ولكن بعد تكرار الإصدار الناجح عرفوا من يصدرها.
كنا قد أعددنا بيانًا لا أذكر رقمه قمت بصياغته بحدة بالغة. لكن جاءني استدعاء حزبي قبل التوزيع بـ 24 ساعة. ولامني رفيق أحبه حبًا جمًا على عدم الإبلاغ، فقلت له إن هذه أبسط قواعد حماية عمل سري خطر. وأكد ضرورة الحصول على الموافقة المسبقة، فتحججت بأهمية المبادرات المحلية. وكان "الكارت" الأخير في يده أن قال: (مبادرتك حميدة.. لكنك عامل "بروز" في المنصورة سيدفع الأمن إلى انتقام شديد).. خاصة وأن عددًا كبيرًا من المشتركين ينتمون للحزبين.. وأن قيادة التجمع منزعجة للغاية ثم أبلغني بقرار أعلى هيئة حزبية بإيقاف العملية فورًا.. فطلبت منه أن ننفذ القرار بعد توزيع منشور الليلة، فرفض بقوة لأن "الوضع خطير"..
أبلغت سعد بعبارة واحدة : "تخلص من الجثة".. ففعل.. وأصابنا الحزن.
#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوارات ثورية
-
وتظاهرنا في ميت أبو الكوم
-
ويبقى أنيس مورقًا فينا
-
كيف أحرجنا رجال السادات
-
أركيوبتركس
-
الأم جونز
-
كنت ضيفًا على المخابرات السودانية
-
عشر سنوات على خطاب أوباما الثقافي
-
كرهت أستاذي.. والسبب ناصر
-
رفيقي الملاكم اليساري
-
حوار خصب مع سمير أمين
-
حقارة أن تتهكم على شعبك ولا ترى عيبك
-
الكيماوي الأمريكي الحلال
-
آخر أوراق سمير أمين
-
أعراض ليبرالية
-
اليسار والتغيير الاجتماعي
-
حاورت خالد محيى الدين
-
من ليالي المشقة والفزع
-
خرافة الحديث غير الرسمي للمتحدث الرسمي
-
الشفاء من الليبرالية
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|