كريم عرفان
الحوار المتمدن-العدد: 6797 - 2021 / 1 / 24 - 14:19
المحور:
الادب والفن
د دراسة نقدية "ثقافية " لرواية "بين حياتين " للأديبة والروائية والناقدة السورية
بين أيدينا عمل روائي جديد للكاتبة والأديبة والشاعرة السورية د / عبير خالد يحيي والتى تقتحم عالم الرواية بقوّة وذلك من خلال روايتها الجديدة "بين حياتين" ..
وقد ارتأينا أن نقوم بمناقشة هذا العمل الروائي ودراسته دراسة نقدية "ثقافية " تقوم على منهج التحليل النفسي .. إذ نقوم بتحليل الشخصية الرئيسة تحليلًا نفسيًّا وأيضًا نكتشف الأنماط والنماذج الأولية المتجذّرة داخل بنية هذا العمل الروائي وفقًا لما قرّره عالم النفس التحليلي الشهير كارل غوستاف يونج Carl Gustav Jung ؛ وكذلك نتلمس أغوار النص ونكتشف باطنه الذى يحوي تأثّر عميق بالأسطورة, وذلك من خلال المنهج الأسطوري, والذى يكشف عن البنية الأسطورية والتي يحويها النص الروائى وذلك وفقا للمنهج الأسطوري الذى وضعه نورثروب فراي Northrop Frye .
- عن الرواية ..
والنص الروائي الذى أمامنا باختصار شديد يقدم لنا حياة غالية؛ وهى فتاة سورية من جزيرة صغيرة اسمها أرواد تقع في دولة سوريا الشقيقة, وتعيش في مدينة طرطوس الساحلية, والرواية تعيش مع غالية وترصد حياتها من سن الطفولة إلى مابعد سن النضج, وترصد التغيرات النفسية والاجتماعية في كل مرحلة من مراحل حياتها ..
ونرى في طفولة غالية كيف يظهر لها كائن خفي أثيري يتحدّث إليها ويعلمها أشياء كثيرة ثم تمضي فترة الطفولة وتتزوّج غالية وتمرّ بالكثير من الأزمات التي تؤدي بها إلى اضطرابات نفسية .
1- عصام الكائن الوهمي .
عصام الكائن الوهمي أو الخفي الذى يتراءى لغالية ويظهر لها منذ الصغر أو على حدّ تعبير الرواية "الصديق الوهمي" وهو ركن رئيس في هذا العمل الروائي ..
وهذا الظهور الغيبي هو أمر مستمد ومستلهم من التراث العربي؛ فيحكي لنا ابن شهيد الأندلسي في رسالته " التوابع والزوابع " رحلته العجيبة إلى وادي عبقر ذلك الوادي الذى امتلأ بالكائنات الخفية والأصحاب الذين يوحون إلى الشعراء والخطباء ما يقولونه من أبيات وكلمات بليغة تسحر الألباب ..
فيحكي لنا ابن شهيد كيف أنه ذهب إلى هذا المكان العجيب وذكر لنا أن لكل شاعر أو خطيب صاحب من هذا العالم الخفي يلهمه ويوحي له ما يقول من أشعار أو خطب بلاغية ..فالتقى مثلًا بأصحاب ( طرفة بن العبد, امرىء القيس, النابغة الذبيانى ..وغيرهم ) ..ولم يقتصر الأمر على الشعراء, بل يحكي لنا لقاءه بأهل الخطابة والنثر من الكائنات الخفية, فالتقى بأصحاب الجاحظ وبديع الزمان الهمذاني وعبد الحميد الكاتب وغيرهم ..
إذن فغالية ليست بدعًا من هؤلاء الشعراء والكتاب الكبار الذين يأتي لهم أصحاب من عالم خفي ويقومون بإلهامهم بتلك الكلمات البليغة ..فإذا كان لامرىء القيس صاحب خفى فلغالية أيضًا صاحب خفي, فهي لا تقلّ عن هؤلاء العظماء بأي حال, وهو مانراه ماثلًا في هذا النص الروائي, وحرص العمل الروائي على أن غالية قد جمعت الحسنيين من نثر وشعر فامتلأت الرواية بالسرد وأيضا بالأبيات الشعرية ..وكأن عصام هو الصاحب الذى يملي عليها فن الكلمة ومبادئ السرد.
ولكن ما هي الدلالة الأخرى التي ترتّبت على ظهور عصام ذلك الكائن الخفي ..
- الدلالة الأسطورية :
هذا "الظهور " الغيبي" مثّل أهمية أخرى عميقة داخل بينة هذا النص وتركيبه؛ فنجد أن غالية قد انتقلت من خانة البطل الروائي العادي الذى يخضع لتكنيك الرواية ومنهجها في رؤية الشخصيات إلى حالة أخرى, وهى حالة البطل الأسطوري (بالمعنى العلمى للكلمة أو المصطلح ) ..لذلك فمن الممكن أن نخضع هذا العمل الروائي ونقوم بتحليله من خلال المنهج الأسطوري الذى قام بوضعه البروفيسور الكندى نورثروب فراي Northrop Frye..والذى يقرر باختصار "إن الأدب ماهو إلا انزياح للأسطورة " أو كما أقول دائمًا: إن الأسطورة كامنة في النص الأدبى ويجب البحث عنها في عمق النص وباطنه ..
والخاصية الأساسية للبطل الأسطوري هو أنه ذلك الشخص الذى يأتيه مدد أو معونة من عالم غيبي خفي مفارق, وتساعده قوى غير منظورة ..وهى الخصيصة الرئيسة طبعًا إلى جانب خصائص أخرى.. وهو ما يقوم بإثراء العمل, إذ تتعدّد المداخل المنهجية التي من الممكن أن نقرأ النص من خلالها .
- الدلالة النفسية :
عصام يعرف في علم النفس بظاهرة الصديق الوهمي, وهي ظاهرة يتعرّض لها بعض الأطفال بكثرة, وهو أمر إيجابي إذا حدث للطفل في سن صغيرة ..فالصديق الوهمي ينمي الخيال, كما أنه يساعد الطفل على اكتساب بعض المهارات اللغوية وإثراء القاموس اللغوي للطفل ويمنحه قدرة كبيرة على سرد القصص؛ كما إنه ينمي بعض مهارات التواصل وبعض المهارات الاجتماعية.. ولكن طبعًا إذا استمرت هذه الظاهرة بعد سنوات معينة يحتاج الأمر هنا إلى تدخل الطبيب النفسي .
2- النزوع إلى التفوق superiority
وتلك النزعة "السوبرمانية " وحب الكمال موجود و راسخ بشدة عند غالية منذ الطفولة وعلى أكثر من مستوى ..
" فمثلًا على مستوى الدراسة والتحصيل العلمي نجد المعلمة تقول لأمها :
" غالية تلميذة ذكية جدًّا وأنا مبهورة بتفوقها, تكتب وتقرأ بطلاقة تجعلني أستغرب من ذلك, وأنا بالكاد أعلّم التلاميذ الآن مسك القلم وكتابة الحروف " ص32
فمستواها التحصيلي يبهر معلمتها وكذلك تفوّقها. و"التفوق" هو تعبير يذكر صراحة ويتكرّر بكثرة..فهى كذلك تتفوّق على الصبيان أيضًا فيقول عصام : "أنا علّمتك الألعاب الصبيانية لتتفوّقي بها على الصبيان وأدهشتهم .." فدائمًا تعبير " التفوّق " يذكر صراحة ويتكرّر دائمًا مع غالية.. وهى دائمًا تدهش الجميع وتبهرهم ..فكما أدهشت المعلمة أدهشت الأم, فعندما قالت : " إن قامت الحرب العالمية الثالثة ستفنى البشرية حتمًا " جمدت الأم مكانها ..كيف لطفلة في السادسة من العمر أن تقول هذا الكلام ؟ وما أدراها بالحروب العالمية ؟ ومن أين جاءت بهذا الإستنتاج العميق " ص42
ويستمر الأمر حتى تكبر غالية وتنضج وتصير أمًّا, فيكون التفوّق في مجال آخر, وهو مجال الأمومة ..فنجد الرواية تقول :
- " تحاملت غالية على نفسها, وقامت باتجاه سامي وقد غشيتها ينابيع من الدموع ؛ بعثرت خطواتها, احتضنت سامي بعاطفة أمنا حواء ..بل أكثر " ص168
ودائمًا ذات التعبير "التفوّق " ولكن هذه المرّة التفوّق على من ..على الرمز الأمومي الأشهر في التاريخ الإنساني ..حواء .
3 – مثلث غالية ومثلث هاملت:
سنجد أن ذلك المثلث موجود في هذا العمل الروائي بأضلاعه الثلاثة :
الضلع الأول : الكائن الخفي وهو عصام ذلك الكائن الأثيري أو الصديق الوهمي الذي ظهر في أول النص الروائي- تمامًا كهاملت – وظل تأثيره القوي إلى نهاية النص .
الضلع الثاني : مشكلة أو مأساة أو معضلة تسبّب فيها أحد الأقرباء أو المقربين, وأحدثت حالة من فقدان الاتزان النفسي لدى غالية؛ والأقرباء هنا هما ..الزوج وأمّ الزوج .
الضلع الثالث : مبدأ أخلاقي يتمّ كسره وانتهاكه مما يثقل كاهل غالية ويجعلها تعاني "عقدة الذنب " ..وهذا المبدأ الأخلاقي الذى تم كسره يظهر في الحدث المهم والفيصلي في الرواية "سجن العمّة " بذلك الشكل المهين, وحرمانها من أموالها ووضعها في زريبة حيوانات من جانب أم مصطفى وتبعها في ذلك مصطفى وأخته ..ذلك الحدث أربك غالية؛ ..الفتاة التي تربّت على الالتزام الخلقي, وكانت قدوة حسنة لأهل بلدتها وجدت نفسها أمام تلك الحالة التي استفزّت مشاعرها وإنسانيتها وزرعت بداخلها عقدة ذنب لم تفعله, ولكنها أحسّت أنها شاركت فيه وتستّرت عليه, حتى رأينا أنّها بعد ذلك الحدث مباشرة صارت تردّد كلمات أشبه بما كان يردّده هاملت ..كلمات تصوّر الصراع النفسي الرهيب الذي يعتمل داخلها ..فتقول غالية بعد هذا الحدث مباشرة :
)وبدأتُ من سجني أشاركُ تلك المأساة -التي فشلت في إنقاذها- ذاتَ الزريبة، وبدأ مشواري مع الوجع، كما يأوي المريض إلى فراشه منهكًا، يهذي من الحمّى والألم، كنت أنا أتوجّه نحو قبري كل ّ ليلة بعد أن يعييني التعب في صراعي من أجل البقاء، عجيب هذا التناقض...! أريد الحياة، وأصارع جنود الموت الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تحطيمي، وعندما أفترش لنومي، أرقد في قبر! أتساءل أحيانًا ترى لو يعرف الغرماء أن ملاذي هو قبر ألن يضحكوا من ازدواجيتي؟!) .
الأنماط الأولية والنماذج البيئية الموجودة في النص الروائي بين حياتين :
وفقًا لما قرّره كارل يونج عالم النفس التحليلي الشهير بوجود ما يعرف بأنماط ونماذج بدائية موجودة بشكل معمّق في اللاوعي الجمعى للشعوب, وهذه النماذج لها تأثيرها القوي, ولازالت تلقي بظلالها على اعتقادات وسلوكيات الأفراد والجماعات ..
ثمّ أتى بعد ذلك الناقد الكندي نورثروب فراي, والذي قام بتوظيف هذه النظرية لفهم وتحليل النصوص الأدبية ..
فنجد من تلك الأنماط :
1- الحاكم (رئيس الجمهورية )
وهو أول رمز ذكوري يطالعنا في هذا النص الروائي, وكما تقول بعض الدراسات النفسية الغربية والتي تمت تحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية- وهى دولة ذات نظام رئاسي – أن رئيس الجمهورية بالنسبة للأطفال يمثل الأب ويرمز له ؛ وهو أمر مشاهد, فإن كثير من المواطنين يتعلّقون بالحاكم أو الرئيس تعلق أبوي؛ كذلك الأمر في الأدب النسائي, فرئيس الجمهورية أو الحاكم أو السلطان يمثّل الأب ويتخذّ صورته..
خاصة إذا كانت الفترة التي كان يشغلها الحاكم أو الرئيس فترة حرجة وصعبة كفترة حرب 1973 كما جاء في النص الروائي؛ فسنجد أن المواطنين يلتفون تلقائيًّا حول هذا الرمز الأبوي .
2- حواء
الرمز الأمومي والأنثوي الأول والأشهر في التاريخ الإنساني, وجاء ذكر حواء بشكل هامشي جدًّا, وهو تهميش متعمّد فقد جاء ذكرها مرّة واحدة فقط, ولكنها كفيلة لنرى كيف ترى غالية نفسها فتقول الرواية : "تحاملت غالية على نفسها وقامت باتجاه سامي وقد غشيتها ينابيع من الدموع؛ احتضنت سامي بعاطفة أمنا حواء ..بل أكثر "ص 168
إذن فالرواية ترى أن عاطفة غالية تفوق عاطفة الرمز الأمومي الأول والأشهر في التاريخ, وهو ما يمنحنا كيفية رؤية غالية لذاتها, ويعزّز ما ذكرناه سالفًا من نزوعها المفرط إلى التفوّق .
3- ( أرواد )
أرواد كما تقول الرواية :" جزيرة صغيرة جدًّا؛ هي الجزيرة الوحيدة المأهولة في سورية؛ وتقع على مرمى النظر قبالة طرطوس " ص 65 وهى موطن غالية بطلة الرواية وهي بالمناسبة موطن الروائية د/ عبير خالد يحيي .
ولكن من هي أرواد ..
تقول الأسطورة أن أرواد كانت فتاة جميلة وابنة لملك البرّ واليابسة الذي كان يحبها ويحنو عليها, ويوفّر لها كل سبل الراحة؛ وكانت بين هذا الملك وبين ملك البحر"يم" خصومة ومعارك عنيفة ..ولكن العجيب أن أرواد أحبّت ملك البحر "يم" وعشقته وارتمت في أحضانه وتركت الأب ملك البر واليابسة؛ ومنذ ذلك الوقت والأب يقف على الشاطىء وينادي على ابنته التي لا تستجيب .
إذن فأرواد فتاة عشقت البحر وتعلّقت به, وفضّلته على اليابسة وتحولت إلى جزيرة
وهو الأمر الذى ترسّخ في اللاوعي الجمعي للأرواديين, ومنهم بطبيعة الحال والدة غالية ..التى نراها تحكي لغالية الكثير من القصص عن غرام الشمس والقمر وعداوة البحر للشمس عندما رفضت الزواج منه وفضّلت عليه القمر صار يبتلعها كل غروب, ويهضمها بين أسنانه ليتقيأها كلّ صباح ..حتى صارت غالية تنقّل بصرها بين ثالوث : البحر والشمس والقمر ..أنثى بين رجلين أحدهما محب والثاني عدو .
إذن فالبحر عدو للشمس التى هي حبيبة غالية والرمز الأكبر في حياتها, كما سنرى ..فمن باب أولى أن يكون عدوًّا لغالية ..وهو الأمر الذى استجابت له غالية, فكما تقول الرواية : "لا حظت الأم أن غالية مع الوقت صارت تتفاعل معها وتصغي إلى قصصها " .
العجيب أننا نرى الرواية تصف غالية ..وجهها تحديدًا وكأنها تصف وطنًا أو مساحة جغرافية أو جزيرة فتقول :
(الطفلة الصغيرة التي وهبها الخالق معالم رقيقة في كل ملامحها الجسدية، واختصّها بعينين لوزيتين غير مألوفتين في بلدها وفي العائلة، كانت تخجل بهما، لتكتشف لاحقًا أنهما أجمل ما أعطاها الله، فيهما سكن الأمل والعسل، وفيهما استوطنت رقرقات السحر والحنين، حاجبان تسابقا على سهل الجبين ليرسّما الحدود بينه وبين أفق الناظرَين, أنف صغير قرّر الفصل بين خدّين اكتنز فيهما الخجل، لينتهي مرتفعًا عند منحدر يصل واديًا منتظم الحافتين, تتعامدان ارتفاعًا على الشفة العليا التي أخذت حقّها من التكوّر واللون القرمزي، تسندها السفلى شهية كحبة الكرز..) ص 28
فالرواية تصف غالية وكأنها تصف وطنًا أو أرضًا لها حدود جغرافية أو جزيرة مثل أرواد فتستخدم مفردات مثل ( استوطنت- سهل – ليرسما الحدود –الفصل – منحدر –وادي )
وكأنها جعلت من وجهها جزيرة تشابه جزيرة أرواد ..
أيضا ذكر اللون القرمزي له دلالته فهو يعلن عن انتمائها الفينيقي, فالفينيقيون –أجداد غالية – هم أول من صاغ اللون القرمزي واكتشفه, وقاموا باستخراجه من محار البحر الأبيض المتوسط .
4 – الحكيم
هناك رمز آخر موجود في النص الروائي, وهو رمز هام وهو الحكيم أوالمعين the helper وهو في الغالب يكون في صورة شيخ حكيم يتميّز بالخبرة وحسن التوجيه ويقدم معونته إلى البطل وتتميّز في توجيهه السديد ؛ وينتصر البطل الأسطوري في الغالب بفضل توجيه ذلك الشيخ الحكيم وبفضل مساندته . وهو في هذا العمل الروائي هو البروفيسور أو الأستاذ الوقور الذي ظهر لغالية من خلال شبكة الإنترنت والذي قدّم لها معارف جديدة عن النقد وتقنياته ..
تقول غالية : " نظرة سريعة مسحت بها عيني صورة رجل وقور تجاوز العقد الخامس بتقديري مع سيرة ذاتية متواضعة؛ أيقنت بعد قراءة الدراسات المنشورة أنها تواضع العلماء "
فغالية تريد أن تتعرّف على ملامح هذا الأستاذ وتقرأ فيها ذلك الرمز الكامن في اللاوعي الذي تنشده, وهو الحكيم الذى يتميّز بالخبرة, وسيقدّم لها التوجيه السليم .
ونجد أن ذلك البروفيسور منحها منهجًا وكتابًا جديدًا غيّر من حياتها ومثّل بعثا جديدًا لها؛ والأمر الهام أنه أقنعها أنها ليست مريضة, وأن ماتعانيه هو أوهام, ثم جاءت لحظة الخلاص عندما أطاحت غالية بحبة الدواء لتعلن خلاصها بفضل ذلك الشيخ الحكيم .
- دورة الحياة النفسية لغالية بطلة الرواية :-
سنجد أن لغالية بطلة هذا العمل الروائي دورة حياتية نفسية تعرضت لها وهى تبدأ من:
( ظهور الكائن الأثيري –مرحلة الطفولة – مرحلة العبور من الطفولة إلى الأنوثة – الزواج – مأساة العمّة والمشاكل والأزمات في علاقتها الزوجية –الاضطرابات والأزمات النفسية التي نتجت عن ذلك ولجوئها إلى الطب النفسي – ظهور ثانٍ متمثّل في الأستاذ الوقور – الخلاص والذي تمثل في إلقائها حبة الدواء )
وقد تحدثنا عن هذه العناصر فيما سبق باستفاضة ولكن بقى لنا أن نلقي الضوء على مرحلتي الطفولة والعبور من الطفولة إلى الأنوثة ..
مرحلة الطفولة :
أسهبت الرواية كثيرًا في ذكر مرحلة الطفولة, طفولة غالية, لأنها مرحلة عميقة ومتجذّرة في شخصية غالية وظلّت معها إلى النضج, وهي طفولة لا تخلو من بعض المظاهر النفسية, فقد رأيناها يصحبة ذلك الصديق الوهمي, ورأينا أيضًا أن الطفلة كانت "شقية" مفرطة في الحركة في البيت والمدرسة, وأيضًا تقمّصها دور الصبي, وحرصها على التفوّق على الصبيان في الألعاب الصبيانية .
مرحلة العبور من الطفولة إلى الأنوثة :
وهى المرحلة الهامة والتي ظلت كامنة في لاوعي غالية, فهي مرحلة حرجة جدًّا وصعبة جدًّا فهى تصف جسدها في هذه المرحلة بقولها ( ثديان احتلا صدرها ). والثدي وهو رمز النضج الأنثوي, وهى تصفه في هذه الفقرة وكأنّه محتل, وذلك يعني أنّها لاتزال بعد في طور الطفولة, وأن مرحلة الأنوثة قد اقتحمتها بعنف وكأنها غزو أواحتلال .
وهذه الدورة النفسية لغالية بمثابة الخريطة أو البوصلة التي ترشدنا إلى قراءة هذا العمل ...
كذلك يمكننا أن نقرأ هذا العمل من زاوية أخرى ثنائية, فنقول إن غالية بين ظهورين:
الظهور الأول : الذى بدأه الكائن الوهمي عصام والذي رسم حياتها الأولى وهو "ظهور أسطوري ".
الظهور الثاني : الذى بدأه البروفيسور أو الأستاذ الوقور, والذى أعاد الثقة إلى نفسها ومنحها حياة جديدة وهو ظهور "حداثي " إذ تم عن طريق الرمز الحداثي( شبكة الإنترنت) .
- هل تنتمى الكاتبة إلى المدرسة الشمسية ؟
"والمدرسة الشمسية هي المتمثلة في نظرية بلفنش الطبيعية, والتي تؤمن بأن جميع الأساطير قد انبثقت من الصراع المثالي الذى قام بين النور والظلام ..بين الشمس وأعدائها الأسطوريين "
ومن الواضح جدًّا تأثّر الروائية والتصاقها بالشمس كأحد أهم الرموز الحياتية والمظاهر الطبيعية ..كما رأيناها تخلع عليها كلّ الصفات الأنثوية والأمومية, فهي على حدّ تعبير الرواية ..أنثى بين رجلين – كما شبّهتها بالأم التي تطعم المخلوقات من حليبها ..
كذلك أيضًا تأثر الروائية بالأسطورة وبالنمط الأسطوري, القائم على الثنائية المطلقة ما بين الخير والشر, والحق والباطل والموت والحياة ..وهي كما نرى ثنائية قائمة على الصراع, فلا توجد ثنائية إلّا وتتضمن الصراع ..
وكما ذكر بلنفنش تمامًا, أن الأساطير جميعها تعود إلى الصراع بين الشمس وأعدائها الأسطوريين ..فسنجد أن الصراع في الرواية بين الشمس وعدوّها الأسطوري البحر, وقد وصفت الرواية العلاقة بينهما "بالثنائية العجيبة "
والثنائية كما ذكرنا مرتبطة عند الكاتبة بالصراع, وقد ذكرت ذلك صراحة على الغلاف فنجد الروائية تردد عبارات مثل :
( الحياة مجموعة من الثنائيات –ثنائية يتخلّلها صراع بين الخير والشر – ازدواجية الصراع الثنائي ).
ولكن السؤال ..من تصارع غالية في هذا النص وفقًا للمدرسة الشمسية ؟
وللوهلة الأولى يبدو للقارىء أن هناك صراعًا بين غالية ومصطفى ..ولكن هذا غير صحيح فلا تقوم بين غالية ومصطفى علاقة ثنائية قائمة على الصراع بدليل هذا النص ..
( مصطفى الذى لم يرتح فعلًا في بعد عن غالية ونور ؛ غالية المحور الذى يدور حوله باستمرار ولم يستطع ليّه رغم كلّ الطرَقات القوية التي أوقعها عليه ) ص170
إذن فغالية تعتبر نفسها بمثابة الشمس, ومصطفى هو الكوكب الذى يدور حولها رغم كل المشاكل والأزمات التي قامت بينهما .
وإنّنا نلمح ملامح من صراع خفي يدور بين غالية وأمّ مصطفى ..فنجد النص الروائي يحكي لنا عن أول مقابلة بين غالية وأمّ مصطفى فيقول :
( فأوجست غالية خيفة من أم مصطفى التي كان من الواضح أنها تتحكّم وتمسك بكلّ زمام حياته لكنها وطّنت نفسها واثقة بقدرتها على احتوائه والاستقلال به دون أن تبخس أمّه حقها ) .
العتبات النصية : ( العنوان – الغلاف )
أما إذا جئنا إلى العتبات النصية المتمثّلة في الغلاف والعنوان, فنجد أن العنوان والغلاف يركّزان على ذات الفكرة "الثنائية " والتي تعزّزإيمان الكاتبة بالثنائية, وتجعلها تبتعد كثيرًا عن النظريات والرؤى التي تطرحها مابعد الحداثة والتي تقوم على التعدّدية كبديل عن الثنائية ..وهو أمر طبعًا مفهوم في ظل إيمان الكاتبة العميق والباطني بالأسطورة, وكمونها في النص الأدبي وقيام الأسطورة على ذلك النمط الثنائي .
العنوان : فنجد العنوان بين حياتين يصوّر امرأة تقف في مرحلة فاصلة ومفترق طرق بين حياة أولى رسم خط سيرها عصام, وحياة ثانية بدأت بظهور الأستاذ أو الحكيم كما قلنا ..
أيضا سنجد العنوان يحمل فكرة البينيّة التي تؤكد على فكرة الصراع الداخلي أو التردّد, تلك الصبغة المستقاة من النص المسرحي هاملت كما أشرنا .
الغلاف : أما الغلاف فهو تعبير فني وبصري جمالي, وترجمة فنية لما يحتويه النص الروائي والغلاف هنا يمثل بورتريه لوجه امرأة هي غالية, وهذا الوجه آخذ في التلاشي ..وهو تعبير فني صادق وثري, وأيضًا متعدّد التأويلات, فهو يمثل الثنائية والصراع الداخلي الذى يدور في داخل عقل غالية.
وهذا الوجه يجعلنا نتساءل هل هذا الوجه بمثابة الوطن أو الجزيرة كما ذكرت ذلك ووصفت الرواية وجه غالية؟ وهذه الأرض تحمل عالمًا خفيًّا لم يكتشف بعد ..عالم يعادل العالم الظاهر المرئي؟! .
أو أنّ وجهها يشبه القمر, وهو هنا في مرحلة الخسوف؟! أو ينبّه على أن هناك " عالم غامض " قابع في تلك الظلال المعتمة ؟!.
د/ كريم عرفان
#كريم_عرفان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟