جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 6796 - 2021 / 1 / 23 - 20:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يسبق للتيارات العنصرية المتوارية أن عادت إلى السطح مثلما فعلت في عهد ترامب. الواقع أن تلك التيارات قد كانت هناك ولم يخلقها ترامب, بل أن كل مافعله هو تفعيلها والدفع بها إلى واجهة المشهد السياسي بعد ان عرف كيف يتعامل معها بخطابه الذي دغدغ به المشاعر المحتشدة في قعر المجتمع الأمريكي.
الواقع أنه لم يكن صعبا على ترامب أن يدفع بالنزعات العنصرية التي تعمل تحت عناوين تفوق الرجل الأبيض, وبالميول الدينية المتطرفة التي تتجسد بالحركات الإنجيليكانية, أو بالتوجهات الإجتماعية المتطرفة التي تضم عتاة الجمهوريين, وحتى أولئك الذين مالوا إليه على طريقة (ليس حبا بعلي بل كرها بمعاوية), أو من أصحاب الولاءات الحزبية العمياء, لكي يكسب بهم جولة الإنتخابات ضد المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.
لقد عرف الرجل كيف يستقطب الدهماء الذين أبهرتهم كما هو متوقع شعاراته الشوفينية البراقة حول أمريكا العظمى التي تصورها وصورها دولة بجيشٍ مرتزق مدفوع الثمن لحماية الحلفاء الغربيين الذين يتهددهم الروس أو الصينيون أو الشرق أوسطيين الذين تتهددهم إيران أو الحركات الأصولية الإسلامية. وإذا ما ظل الجمهوريون أو الديمقراطيون يضعون مصالحهم الإنتخابية في المقام الأول فقد يربحون الإنتخابات لكنهم سيُخسِرون أمريكا.
لقد تم إقناعنا بنظرية أن الإقتصاد يلعب الدور الإبرز في تحديد الفائز في الإنتخابات الرئاسية. هذه في العادة كادت أن تكون هي القاعدة الذهبية التي يستند عليها الجميع لكي يتنبؤا بإسم المرشح الذي سيفوز في إنتخابات الرئاسة. لكن دعونا نفتش عن قواعد ذهبية موازية قد تكون هي صاحبة القرار في النهاية : لنسأل كيف فاز بوش الإبن الجمهوري على (ألغور) الديمقراطي بعد مرحلة الثماني سنوات من حكم الديمقراطيين (كلينتون) التي شهدت فيها أمريكا إزدهارا ملحوظا للإقتصاد .... الجواب لأن بوش إستطاع أن يحول الحوار إلى خلاف حول أخلاقيات الحكم بدلا من الإقتصاد, في حين أن ألغور حاول أن يستثمر تجربة الديمقراطيين الناجحة في مجال الإقتصاد, وحينها فقد رأينا كيف أن الأخلاقيات قد نجحت على الماديات ؟
تاجر العقارات كرر نفس لعبة بوش, إستعمل خطابه الديني المتحفظ الذي خاطب فيه المحافظين وجعلهم يتجمعون في كتلة صلبة واحدة لكي تمنع المدن الأمريكية المنفتحة على المهاجرين من سرقة أمريكا !!. وتحت شعار (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) كان الرجل يبشر بإعادة هيمنة الخطاب العنصري الذي يستهوي أنصار أمريكا القديمة حيث ثقافة حزب الشاي الضاربة في عمقها الإنجلوساكسوني وخطاب تفوق الرجل الأبيض وخرافات الصهيونية المسيحية التي تبشر بضهور المسيح مرة ثانية بعد أن تحقق إسرائيل إنتصاراتها العظمى.
فإذا ما أضفنا إلى ذلك صعود بعض المنظمات العنصرية مثل (براود بويز) الداعية إلى تفوق العنصر الأبيض, أو (كوكلاس كلان) التي كانت قد إشتهرت قبل عقود لمطارة السود وقتلهم وتعليق جثثهم وحرقها, أو (كيو أنون ) التي تدعو لفتح الأعمال التجارية في ظل جائحة كورونا، وترفض الإجبار على ارتداء الكمامة والالتزام بالإجراءات الاحترازية, وإستدعينا أيضا الخطاب الشعبوي وحتى الديني الذي إعتمده ترامب وأفلح في تفعيله وتشغيله لصالح وصوله إلى السلطة, ثم حاول طيلة وجوده في البيت الأبيض أن يبقي على شعلة ذلك الخطاب مشتعلة لغرض تحقيق عودة محسومة إلى الرئاسة, وما ظهر بعد ذلك على صعيد تصدع شخصيته كونها أفصحت عن صفات وسلوك نرجسي أزموي متفاقم, فلن يكون غريبا القول ان هناك فرصة كبيرة لكي يتقدم دور الفرد المحكم الخطاب على دور المؤسسة وحتى التغلب عليها كما حدث مع السيد ترامب نفسه.
ونعرف أن الناخبين الذين تجاهلوا أداء الإقتصاد المتميز في عهد كلينتون وأوباما ينتشرون بشكل أساس في المناطق الجنوبية التي تعرف بحزام الكتاب المقدس (العمق الجنوبي والولايات الحدودية وأدنى الغرب الأوسط) : مركز الأصولية المسيحية (الإنجليكانية البروتستانية أو الآخرين من عامة الأصولين) : القرى العديدة والمدن الصغيرة المنتشرة في مناطق الحزام المقدس أغلبها إن لم يكن المطلق منها ما زال مجتمع زراعي حاجات أهله بسيطة ومعيشتهم مضمونة وصراع الأفكار والثقافة بينهم محدود.
واقع الحال أن الريف الأمريكي بإمكانه أن يحقق كفايته الحياتية دون اية إشكاليات جوهرية قد تدفعه للبحث عن بدائل, وهو في الأصل بعيد عن التفاعل مع المتغيرات التي تحدث من خارجه كتلك التي تعيشها المناطق الصناعية والأكاديمية والتسويقية ومراكز الإختراع والإبتكار الدائمة التسابق مع العالم لأجل التغلب على المنافسين.
إن المدينة هي التي تفعل ذلك. أما الفلاح فعادة ما تكون مساحة التحديات أمامه ضيقة ومحدودة وكذلك دوره السياسي والفكري. إن ذلك سيوصينا بالإبتعاد عن التحليلات النمطية, ومنها الماركسية على أهميتها, إذ حين يتم تفكيك المجتمع الأمريكي لغرض تحديد نوعية القوى الفاعلة وتأشير طبيعة التناقضات المرحلية التي تتحكم بحركيته فإننا لن نخطأ إذا ما قلنا أن لأمريكا هنا حكاية مختلفة.
وفي مقالة سابقة لي, فور فوز السيد ترامب بالرئاسة, كتبت أن تاجر العقارات سيعيد ثانية تكوير الأرض التي بَسَطها (توماس فريدمان) في كتابه المعنون (العالم مسطح), فالرجل الذي يتقن بناء ناطحات السحاب وفنادق القمار الفخمة لن يخسر إذا أغلق بوابات أمريكا على أهلها وإنسحب من نشاطاتها العالمية المتعددة , ففي العادة لا يحتاج تاجر العقارات إلى أكثر من بضعة مئات من الأمتار لكي يقيم عليها مشاريعة البنائية الفخمة.
على العكس منه يقف الصناع الألكترونيين فهم بحاجة إلى عالم فريدمان المسطح وفضائه لكي يمارسوا نشاطاتهم المتجاوزة لجغرافية ترامب الوطنية التي صنعها وأمثاله في مرحلة ما قبل الآيفون والكمبيوتر وشركات التواصل الإجتماعي كتويتر والفيسبوك والأنستغرام وعمالقة إقتصاديين آخرين من أمثال رجل الأمازون.
هؤلاء الليبراليون كانوا قد شعروا بالإختناق فعلا حينما حاول السيد ترامب أن يقف حجر عثرة أمام أفقهم الإقتصادي الذي هو في حقيقته يمتد لكي يغطي كل الفضاء العالمي, أما الأغاني ذات الطابع الوطني الشوفيني التي راح ترامب يتغنى بها, حول عودة أمريكا إلى عظمتها, فهي قد تكون صالحة لعصر ما قبل الفضاءات السايببرية, ولذلك فهي عودة إلى الوراء, إلى عصر القوة التي كانت في وقتها, والتي ستصير مصدرا للضعف فيما إذا إستمرت بذات العقلية السابقة.
إن تاجر العقارات كان قد شيد نجاحاته بمواصفات محددة, وهو كان قد نجح فعلا, ولكن في عصر ما قبل الفضاءات المفتوحة. ولعل سياسة بناء الجدران مع الجيران والإنسحاب من الإتفاقات الإقتصادية العالمية والحكم بأخلاق القوة قد جاءت كلها لكي تعبر بحق عن ضيق أفق تاجر العقارات الذي حاول سحب أمريكا من عصرها (السايبري) وإعادتها إلى عصرها (العقاري) حيث بناء الدولة هنا هو غير بنائها هناك.
أما أولئك الذين راهنوا على أن بإمكان السيد ترامب ان يبني إقتصادا قويا لمجرد أنه كان أثبت نجاحا مؤكدا على صعيد بناء إمبراطوريته العقارية فقد كانوا واهمين جدا لأن نجاح الإنسان في مرحلة معينة لا يعني يالضرورة إمتلاكه لقدرات النجاح في مرحلة لاحقة. ولم يكن السيد ترامب من رجال وادي السيليكون أو العصر السايبري بل كان من رواد العصر العقاري, وفي حالات التقدم السريعة التي يعيشها بعض عالم اليوم, وأمريكا في مقدمته, فإن إسقاط مواصفات النجاح في مرحلة سابقة على مرحلة لاحقة ذات مواصفات مختلفة غالبا ما يتسبب بسقطات كبيرة.
بطبيعة الحال لا يمكن التعتيم على حقيقة النجاح الإقتصادي الذي حققه ترامب. ولكن من قال أن ذلك النجاح كان سيستمر لو أن الساحة التي تركها ترامب للمنافسين قد أدت إلى نشوء قوى إقتصادية جديدة وتحالفات إستراتيجية كبرى بمعزل عن الشرطي الأمريكي الذي راهن أكثر مما يجب على القوة العسكرية كبديل لكل القوى الناشئة الأخرى التي بإمكانها أن تكون هي التي تصنع التاريخ.
أما التأكيد على حقيقة أن جانحة كيوبيد 19 هي العامل الأقوى الذي تسبب بتوقف نجاحات التجربة الترامبية فهو أمر سليم مائة في المائة, لكن ذلك الإعتقاد يجب أن يعاد بناءه على حقيقة إن الذي أسقط ترامب ليس الجانحة نفسها وإنما فشله في مواجهتها والحد من أخطارها, وهو فشل يمتد إلى طبيعة معتقدات ترامب نفسها وإصراره على أن يحكم أمريكا حتى لو تطلب ذلك تهديم مبنى الكابيتول على طريقة شمشون: علي وعلى أعدائي.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟