|
خلق الله الأنف لحمل النظارات ..
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6792 - 2021 / 1 / 19 - 13:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم ٦ - خلق الله الأنف لحمل النظارات .. شوبنهاور، الفيلسوف الكئيب، كان يعتقد أن قاعدة الإختيار الإنساني في الحياة لا تتعدى إختيارين " حيوان سعيد أو إله معذب " ولا مخرج للإنسان من هذا الفخ وليس له إمكانية تجاوز هذين الإحتمالين، وهو موقف متطرف يحصر الإنسان بين حدي المعادلة المستحيلة ويرفض الديالكتيك، الذي يفترض أن الإنسان يقف في منتصف الطريق بين الحيوان والإله. أما هايدغر، فبدوره أراد الخروج من عالم "الإنسان-الحيوان" أو الإنسان الطبيعي والملتصق بالتفاهات اليومية والإهتمامات التي ترسخه في عالم "الإنحطاط" والذي يسميه باللاأصالة inauthentique، للخروج من هذا العالم المزيف إلى الوجود الحقيقي الأصلي للإنسان، هناك إحتمالين كما هو الحال عند شوبنهاور. الإحتمال الأول هو إدراك الموت والوعي بإلتصاقه بالحياة، أي أن الإنسان يستطيع الهروب من الإنحطاطية لو أستطاع تنمية وتطوير عضو داخلي ينبئه ويذكره في كل لحظة عن موعد جنازته. أما الإحتمال الآخر فيقع في مملكة الشعر والفن والأدب، حيث الخيال الخلاق هو البديل لعالم التفاهات اليومية. ويبدو الأمر كما لو أن هايدغر قلب معادلة شوبنهاور، حيث أصبح الإختيار بين " حيوان معذب يترقب الموت وبين إله سعيد يعيش في السحاب". أما سارتر، فإنه فجر المعادلة أساسا ونفي فكرة الإحتمالات المتعددة، الإنسان حرية وملزم أن يكون حرا ليس له الخيار سوى بين الحرية والحرية، أي يستطيع أن يكون حيوانا أو إلها أوجنيا أو شيطانا، ولكنه يكون دائما حرا، وحريته تسمح له أن يكون حتى عبدا مكبلا بالأغلال. وهذا سيضع الإنسان في معادلة جديدة هي " الإنسان في العالم " فهو لا يوجد في فراغ سديمي بل يعيش في وسط مليء بالعوائق والمطبات والفخاخ من كل نوع، وعليه أن يشق طريقه وسط هذه الأهوال ويبني مشروعه خطوة خطوة. فالواقع الإنساني "وجود حر" بمقدار ما عليه أن يكون "عدما" لكينونته وتجاوزا لها بواسطة "الفعل". فـ"الفعل" يعني تغيير العالم، وذلك يستدعي "إمتلاك" الوسائل في سبيل تحقيق غاية مقصودة وواعية وهي المشروع الوجودي للكائن البشري. الخيال الديني يصور لنا العالم بكل ما فيه من كائنات حية من نباتات وحيوانات، أو غير حية كالبحار وألانهار والجبال والسهول كمكان معد خصيصا من أجل الإنسان يستطيع أن يعيش فيه ويستغل إمكانياته اللامحدودة من أجل حياة سعيدة ومريحة وان كل شيئ مسخر له ووجد من أجله. هذه هي الحجة "الغائية" أي تصميم العالم من أجل غاية محددة وهدف معين وهو خدمة الإنسان وتمكينه من الحياة على هذه الأرض، وذلك يعني بكل بساطة وجود إرادة عليا أولية، وخريطة أو خطة أو مشروع أولي. بطبيعة الحال هذا يبرر فيما بعد وجود المخطط والمهندس الذي قام بإنجاز هذا المشروع من أجل عيون البشر. يقول برتراند رسل بخصوص هذه الفكرة التي تأخذ في بعض الأحيان شكلا عجيبا " لنفترض على سبيل المثال أن الأرانب لها ذيولا بيضاء، كي نستطيع اصطيادها بسهولة. لا أعرف كيف سيكون موقف الأرانب من ذلك؟ أنها حجة تبعث على السخرية. أنتم تعرفون مقولة فولتير بأن الأنف مصنوع على هذه الشاكلة من أجل أن يحمل النظارة. هذا النوع من الآراء هي بعيدة عن الحقيقة و ليس ذلك فقط خلال القرن الثامن عشر لأننا منذ داروين بدأنا نفهم بشكل أفضل لماذا تتكيف الأحياء مع بيئتها. ليست البيئة هي التي صُنعت من أجل الكائنات الحية إنما الكائنات الحية هي التي تكيفت مع بيئاتها. هذه هي قاعدة التكيف ولا نستطيع أن نرى أنها في ذلك مصنوعة قصدا لتكون على هذه الشاكلة." ومن الغباء بطبيعة الحال الإيمان بأن الأذن تكونت أو خلقت من أجل أن تحمل الكمامة ضد فيروس الكورونا. وعندما ينظر المرء إلى الحجج الدينية بشكل دقيق، فانه لا مناص له من الدهشة والعجب. كيف يستطع الناس الإيمان بأن هذا الكون مع كل ما فيه من مصائب وكوارث ومع كل أخطائه هو أفضل ما استطاع هذا القادر على كل شي و العارف بكل شيء أن يصنعه خلال ملايين السنين، او لو أخذنا بالخرافة الدينية في ستة أيام، علما بأن اليوم عند الله يساوي مئات السنين عندنا نحن البشر ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ . ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) السجدة/4-6.. حقا، لا يوجد إنسان عاقل أو حتى متوسط العقل يستطيع أن يصدق ذلك. هل تعتقدون بأنه لو كنتم عارفون بكل شيء معرفة مطلقة وكاملة، ولو كنتم قادرون على كل شيء قدرة لا حدود لها وكذلك معكم من الوقت ملايين أو حتى آلاف السنين من أجل صنع الكون بأفضل شكل ممكن، هل من الممكن صناعة مثل هذا العالم المهلهل ؟ هل من الممكن أنكم لن تجدوا أفضل من داعش وترمب وماكرون ونيتانياهو أو أشباههم من الفاشيين؟ عندما ينظر المرء لقوانين العلم العادية سيكتشف أن الحياة البشرية على هذا الكوكب والحياة بشكل عام ستنتهي في يوم ما أو في لحظة زمنية معينة كما بدأت. لقد حدث أنه في الماضي وفي مرحلة انتقالية معينة تكونت الظروف البيئية والكيماوية والبيولوجية بطريقة مناسبة لظهور الحياة وذلك لمرحلة قصيرة من عمر المجموعة الشمسية، أي أن الحياة هي مرحلة انتقالية في إنتظار دمار و خراب وإنطفاء المجموعة الشمسية. كوكب القمر كوكب مثالي يعرض أمام العيون كيف ستكون نهاية الأرض، ميتة، باردة و بلا حياة، صخرة ضخمة تعوم في الفراغ. هذه الرؤية تسبب بلا شك نوع من التشاؤم والقلق الطفولي، كما يدعي البعض، وبعض الناس يدعون بأنهم لن يستطيعوا الاستمرار في الحياة عندما يكتشفون هذه الحقيقة. لا أحد يصدق ذلك، لأن هذا كلام خال تماما من الحقيقة، والإنتحار الميتافيزيقي أو الوجودي مجرد أسطورة أدبية شعرية. في الحقيقة لا أحد يمعن التفكير بما سيحدث بعد ملايين السنين، ولا يهمه أصلا ما سيحدث حتى بعد عدة أسابيع. والذين يعتقدون أنهم مهمومون بشأن ذلك فإنهم يخادعون أنفسهم. إنهم يقلقون بشأن أشياء دنيوية وعادية وعامة من إهتمامات الحياة اليومية، الأكل والشراب والسكن والمواصلات والعلاقات الأسرية والعاطفية وما شابه. و لكن التفكير، ماذا سيحدث للعالم بعد ملايين السنين، لا تسبب في بؤس و تعاسة أي إنسان. بالرغم من أنها في الحقيقة نظرة قاتمة عندما يرى المرء أن الحياة ستنتهي ورغم ذلك عندما نرى أحيانا ماذا يصنع البشر في حياتهم فإن النظرة التشاؤمية تقدم نوعا من التعزية. ولذلك فإن هذه النظرة التشاؤمية لا تتسبب بتعاسة حياتنا إنما تدعونا إلى لفت النظر إلى أشياء جانبية غير التي يجب الإهتمام بها حقا، أي نوع من التعمية والتضليل الذاتي. وخير دليل على ذلك هو التلوث البيئي، والذي أثبت العلماء مساهمته في الإسراع في إنهاء الحياة على الأرض، حيث يرى الجميع بأنه ما يزال لدينا الوقت الكافي للحياة والإستهلاك وشراء الآيباد الجديد والتمتع بـ 5G وصناعة الأسلحة النووية والبكتيريولوجية والكيماوية وشن ما نشاء من الحروب .. ولتذهب الأرض إلى الجحيم.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معنى الحياة والموت
-
قذارة البشر .. والآلهة
-
عبثية الإنتحار
-
لا تنظر للقمر
-
إنتحار الآلهة
-
ماذا يفعل الله طوال اليوم ؟
-
أركيولوجيا العدم
-
ضجيج الآلهة البلهاء
-
وحدة الله
-
الثورة على الله وأزلامه
-
القطار الأخرس
-
كوشيز .. الهندي الذي نزف حمرته
-
مقبرة الحروف
-
عن المحاجر والمحابر
-
لا تستنشق عبير الورود
-
ضرورة البراكسيس
-
الإنتحار العقلي
-
الإنسان إله أم حيوان؟
-
فلتحترق هذه الأرض
-
تناقض الفن والفلسفة
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|