|
لودفيج فيورباخ (1804 – 1872 )
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 6786 - 2021 / 1 / 12 - 17:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فيلسوف مادي ألماني حاز على إعجاب معاصريه من الشباب، وكان لكتاباته تأثير كبير عليهم، فقد كتب إنجلز عن هذا التأثير قائلاً "كان الحماس عاماً وصرنا جميعاً فيورباخيين دفعة واحدة"([1]).
كان لودفيغ فويرباخ فيلسوفاً أنثروبولوجيّاً ألمانياً مشهوراً بكتابه "جوهر المسيحيّة"، والذي قام بنقد المسيحية، وكان مؤثّراً للغاية بأجيال من المفكرين اللاحقين، بما فيهم كارل ماركس، وفريدريك أنجلز، وريتشارد فاغنر، وفريدريك نيتشه.
دعا فويرباخ إلى الليبرالية والإلحاد والمادية، قدّمت العديد من كتاباته الفلسفية تحليلاً نقديّاً للدين. كان فكره مؤثرّاً في تطوّر الماديّة التاريخيّة. حيث غالباً ما يتم الاعتراف به كجسر بين هيجل وماركس.
كان هدف فيورباخ تحرير الإنسان من الوعي الديني؛ وفي مؤلفه "نقــد فلسفــة هيجـل" أعطى حلاً مادياً للمسألة السياسية في الفلسفة وهذا الحل يرتكز على اعتبار الطبيعة، أو الوجود، أو المادة واقعاً ينشأ عنه بالضرورة العقل المفكر.
اقترب في أواخر حياته من الاشتراكية العلمية خصوصاً بعد أن قرأ رأس المال، وأصبح عضواً في الحزب الديمقراطي الاشتراكي في عام 1870 م. إلاَ أنه لم يصل "بقناعاتــه" إلى مستوى المادية الديالكتيكية والتاريخية، حيث أن "لم يَقِبْلَ الماركسية على الرغم من أنه كان السَّلف المباشر لها"([2]).
أولا: فلسفتـــه: اعتبر فويرباخ فلسفته استكمالا، وتجاوزا، في الوقت ذاته، لمذهب هيجل وأسلافه، فاذا كان هيجل يعزل العقل، أو الفكر عن الانسان، عن نشاطه الحسي ومتطلباته، فإن "الفلسفة الجديدة"، أو "فلسفة المستقبل" – كما يسمي فويرباخ فلسفته- "تنطلق من الانسان، فالانسان، وحده، هو الذات الحقيقي للعقل، والانسان بدوره، نتاج للطبيعة"([3]).
وفي رأيه إذا كان الدين يَعِدْ الإنسان بالنجاة بعد الموت، فإن الفلسفة مدعوه لتحقق على الأرض ما يعد به الدين في عالم الغيب.. أي أن على الفلسفة أن تلغي الأوهام الدينية لتوفر وتعطي الإنسان القدرة على معرفة إمكانياته الحقيقية في بلوغ السعادة.. وهذا الهدف _السعادة_ هو ما سعى إليه أو إلى تحقيقه طوال حياته..! إن السعادة كما يبدو هي الهدف النهائي لفلسفة فيورباخ" ، وإن السعادة التي يسعى الإنسان إليها في الجنة يجب أن تتحقق في الأرض. الإنسان يصبح إذن المبدأ الأساسي في فلسفة فويرباخ، وكذلك تصبح سعادته القانون الاعلى في هذا العالم الانساني.
إن المذهب المادي في الطبيعة يشكل أساس الفلسفة الانتروبولوجية عند فويرباخ، وبالتالي فهو على النقيض من المزاعم المثالية واللاهوتية، حيث يؤكد أن الطبيعة هي الواقع الوحيد، وأن الإنسان هو نتاجها، وتمامها الاسمى، ففي الانسان، ومن خلاله –كما يقول فيورباخ- "تحس الطبيعة ذاتها، تتأمل ذاتها، تعقل ذاتها، وفي مجابهة الآراء المثالية- اللاهوتية، التي تحط من قدر الطبيعة"، يؤكد فويرباخ هنا، أنه لا شيء فوق الطبيعة، تماما كما أنه لا شيء أدنى منها، يقول: "تأملوا الطبيعة، تأملوا الانسان! هنا تتكشف لكم أسرار الفلسفة".
يرى فويرباخ أن مفاهيم "الوجود"، و"الطبيعة"، و"المادة"، و"الواقع"، تمثل جميعها رموزا مختلفة لمعنى واحد، هو الوجود المادي للطبيعة الخالدة، في إطار الزمان والمكان، باعتبارهما الشرطان الاساسيان لكل وجود ولكل ماهية، لكل فكر ولكل نشاط، لكل ازدهار ولكل تقدم"، وليس هناك من واقع خارج الزمان، كما أنه لا وجود لزمان أو مكان خارج الطبيعة، ولذا فإن المزاعم الدينية عن بداية العالم باطلة من أساسها"([4]).
وقد اعتنق الهيغليون الشباب هذه الفلسفة بشكل واسع وحماسي، وخاصة ماركس؛ ولكن ماركس رأى أن هذه الفلسفة تحتوي على عيبين رئيسيين، فهل نستطيع أن نتحدث عن "جوهر" الانسان؟ ولماذا يكون الإنسان مختلفاً مثل هذا الاختلاف في ظروف مختلفة ومراحل تاريخية مختلفة؟ وكيف يتحول من عبد إلى فلاح، ومن فلاح إلى برولتياري، ومن برجوازي صغير إلى رأسمالي، ثم بعد ذلك، هل صحيح أن الإنسان نتاج لبيئته فقط؟ هل يقتصر عقله على مجرد تلقي الانطباعات من العالم الخارجي؟
وقد أجاب ماركس عن السؤال الأول فأشار إلى ان الإنسان يوجد دائماً في علاقات اجتماعية محددة كما أنه ينتمي إلى فئة اجتماعية متميزة، ليس هناك "جوهر" للإنسان، على شكل شيء ما مجرد ينتمي إلى الإنسان كانسان، فالانسان يتغير بتغير المجتمع والمجتمع يتغير بواسطة إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية بشكل مستمر لجعلها تتفق وطرق الإنتاج المتغيرة"([5]).
وفي هذا السياق يقول د.هشام غصيب "لقد خطا الفيلسوف الألماني المادي، لودفيغ فويرباخ، خطوة مهمة على درب علمنة الفكر والوعي حين نقد دين العقل الهيغلي نقداً ماديا يعتمد النهج المادي أساساً له، والحال أن الفلسفة الغربية البرجوازية في مرحلة صعود البرجوازية الغربية تمثلت في ثلاثة تيارات رئيسية: دين العقل (العقلانية المثالية)، والمادية (العقلانية المادية)، والتجريبية، وبالتالي، لم تكن هذه التيارات معزولة عن بعضها، وإنما قامت بينها تقاطعات متواصلة وتفاعلات تناحرية مريرة، وجاء فكر لودفيغ فويرباخ في سياق هذا الصراع المتواصل والمتكرر، وخصوصاً بين دين العقل والمادية، فقد بدأ لودفيغ فويرباخ ذلك باعتبار دين العقل الهيغلي استمراراً للاغتراب الديني، أي اعتبره إسقاطاً اغترابيا للطبيعة البشرية، بحيث تبدو وكأنها عقل مطلق موضوعي خارج البشر، بل وكأن البشر مجرد ملحق لهذا الإسقاط، أو بالأحرى مجرد أدوات يحقق العقل المطلق ذاته بها وعبرها.
من ناحية ثانية، دعا فويرباخ إلى التغلب على هذا الاغتراب بإعادة العقل المطلق إلى حيث ينتمي فعلاً، إلى عقل الإنسان وقلبه، وبالتالي افترض فويرباخ أنه بالحب بين الأنا والآخر وبالتعاون بين الأفراد على أساس هذا الإدراك، يتغلب الإنسان على اغترابه التاريخي ويحقق مآربه التاريخية"([6]).
ثانيــاً: فهمــه المــادي للطبيعــة: يؤكد فيورباخ أن الطبيعة هي الواقع الوحيد، وأن الإنسان هو نتاجها؛ وعنده أن "ليس للطبيعة بداية ولا نهاية.. فكل شيء فيها في تفاعل متبادل، وكل ما فيها نسبي، وكل ما فيها متعدد الجوانب ومترابط بغيره".. وهذه النبوءة الديالكتيكية لم تلق التطوير اللاحق عنده حيث أنه لم يدرس الأشكال المختلفة لترابط الظواهر وتبعيتها المتبادلة، ولذا فإن مذهبه في الطبيعة لم يخرج عموماً عن إطار المادية الميتافيزيقية.. وقد تجلى هذا في تعريفه للطبيعة بقوله: "أنني أفهم الطبيعة على أنها جملة القوى والأشياء والكائنات الحسية التي يميزها الإنسان عن ذاته باعتبارها غير إنسانية، أو من وجهة النظر العملية أن الطبيعة هي: كل ما يتجلى للإنسان _بشكل مستقل عن الإيحاءات الغيبية_ مباشرة وحسياً كأساس لحياته وموضوع لها.. فالطبيعة هي الضوء والكهرباء والمغناطيسية والهواء والماء والنار والتراب والحيوان والنبات والإنسان باعتباره كائناً فعالاً بصورة عفوية.. إن كلمة "الطبيعــة" لا تعني بالنسبة لي أي شيء آخـــر..!! إذن بهذا الفهم يتميز فيورباخ ويبدو أكثر عمقاً من فهم الماديين السابقين له.
ثالثــاً: آراؤه الاجتماعيـــة: لم يستطع فيورباخ أن يفهم مادياً الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي بكل تفاصيلهما، لقد وقف ضد التفسير الديني المثالي للحياة الاجتماعية، لكنه لم يرتفع إلى مستوى الفهم المادي للتاريخ وذلك لأنه يستعيض عن القوى الغيبية المحركة للتاريخ بالمشاعر والرغبات الإنسانية، أي بأشياء واقعية فعلاً لكنها "غير مادية" ؛ إنــه يعارض الفهم الديني المثالي للتاريخ العالمي بالنظرة الطبيعية Naturalistic”" التي تنطلق من الفهم الأنثروبولوجي للحساسية الإنسانية على أنها القوة الرئيسية والمحددة لسلوك كل فرد ولسلوك المجتمع ككل؛ فمثلاً موقفه من الحرية، يقول: "إن الطائر حر في الهواء، والسمكة في الماء، والإنسان حر حيث وعندما تسمح له ظروف حياته بتلبية نزوعه الطبيعي إلى السعادة.. وإلى تحقيق قدراته".. وهذا الفهم الطبيعي، الأنثروبولوجي المجرد للحرية الإنسانية شبيه بمطلب المنورين البورجوازيين في جعل ظروف الحياة الإنسانية تتفق مع الطبيعة الإنسانية.
إنه يرى في الحــب جوهر الحياة الإنسانية وهدفها؛ ويرى فيه القوة المحركة للتقدم الاجتماعي، والأخلاقي خاصة، لكن هذا التفاؤل الأخلاقي يصطدم لا محالة بوقائع التاريخ والحياة اليومية، والأمثلة في بلادنا كثيرة، كيف يمكن للإنسان الفقير المضطهد أن يمارس السعادة ويعرف الحب وهو على هذه الحال من البؤس والشقاء.. فكما هي الأخلاق نسبيه .. كذلك الحب وكافة المفاهيم الاخرى .
أخيراً، إن قيمة آراء فيورباخ الاجتماعية والأخلاقية تكمن في نفي التصورات الدينية، وفي أنها تشكل الأساس النظري للديمقراطية البورجوازية.. فالإنسان _الطبيعي_ السوي الذي يتكلم عنه فيورباخ، ويرى أنه إنسان المستقبل المتحرر من كل ما يشوه فرديته.. هذا الإنسان "المجرد واللاطبقي يبقى في نهاية الأمر صورة مثالية لإنسان النخبة في المجتمع البورجوازي.. أو على وجه الدقة المجتمع الطوباوي.
أهم مؤلفاته: "أفكار حول الموت والخلود" 1830 ، و "جوهر المسيحية" 1841، و "نقد الفلسفة الهيجلية" 1839 ، و "موضوعات لإصلاح الفلسفه" 1842، و "أُسس فلسفة المستقبل" 1843.
([1]) لجنة من العلماء والاكاديميين السوفياتيين – مرجع سبق ذكره - الموسوعة الفلسفة – ص366
([2]) المرجع نفسه – ص365
([3])جماعة من الأساتذة السوفيات – مرجع سبق ذكره – موجز تاريخ الفلسفة – ص 448
([4]) المرجع نفسه – ص 457
([5])جون لويس – مرجع سبق ذكره – مدخل إلى الفلسفة – ص 221
([6]) د.هشام غصيب – نقد العقل الجدلي – الناشر: التنوير – بيروت – 2011 .
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جون ستيوارت مل (1803 – 1873)
-
أوجست كونت ( 1798 - 1857)
-
آرثور شوبنهاور (1788 – 1860 )
-
نظرة على فلسفة القرن التاسع عشر
-
كارل ماركس ( 1818 – 1883 )
-
جيمس مِل (1773 - 1836)
-
جورج ويلهلم هيجل (1770 - 1831 )
-
يوهان غولتليب فيخته (1762 – 1814)
-
سان سيمون (1760 - 1825)
-
وثائق مؤتمرات الجبهة الى جانب المراجعة النقدية بوصلة الرفاق
...
-
وداعاً رفيقي وصديقي الغالي عبد الرحيم ملوح
-
جيرمي بنتام (1748 – 1832 )
-
جان انطوان كوندورسيه (1743 - 1794)
-
توماس بين (1737 - 1809)
-
جوتهولد ايفرايم ليسنغ (1729 - 1781)
-
عمانويل كانط ( 1724 - 1804 )
-
دي هولباخ (1723 - 1789)
-
اتيين بون ودي كوندياك (1715 - 1780) ([1])
-
رسالة إلى الرفاق والأصدقاء بمناسبة مرور 53 عاما على انطلاقة
...
-
ديني ديدرو ( 1713 - 1784 )
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|