|
مات بتوقف القلب
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6785 - 2021 / 1 / 11 - 22:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إلى المنكوبين بموت أحبتهم
باتت المصادفات في سورية تنافس البديهيات المستقرة. المصادفة التي تجعل السوري المطلوب إلى فرع الأمن لشرب فنجان قهوة، أو لسؤال وجواب، يقضي خمسة عشر عاماً في السجن، أو ربما يقضي في السجن، تقابل البديهة التي تقول مثلاً "الأسد للأبد"، أو تلك التي تقول "أنا بعث وليمت أعداؤه"، على سبيل المثال وليس الحصر. هكذا تتقارب المصادفات مع البديهيات. مثلاً الكائنات البشرية التي شوهدت في شوارع المدن السورية، يوماً ما، وهي تصيح بعبارات مناقضة للبديهيات المستقرة و"المقيمة ما أقام عسيب"، وصلت، بمصادفة تشبه البديهية، إلى منعزلات مجهولة تشكل مرحلة ما بعد السجون في سورية. المنعزل، على خلاف السجن، مجهول من حيث المكان ومن حيث عدد المنكوبين فيه، ومن حيث الجهة التي تتولى أمره. المنعزلات محلات ناجعة للدفاع عن البديهيات بما يفوق قدرة السجون، وهي مجهزة بكل ما يلزم وبكل السبل بما في ذلك صناعة المصادفات. مثلاً في الأمكنة المعزولة المجهولة حيث يسجن (نقصد يعزل) السوريون الذين تظاهروا يوماً ما من عام 2011، أو الذين تعاطفوا بشيء ما مع المتظاهرين المطالبين بتغيير النظام السياسي في البلد (بلدهم)، أو الذين قالوا شيئاً غير محمود بحق النظام السياسي القائم والمتربع في هذا البلد (بلدهم)، أو الذين خطر لهم أن يقولوا بكل وقاحة "لا للقتل"، أو الذين تجرؤوا على القول "نريد وطناً لكل السوريين" ..الخ، يصدف أن نكتشف أن معظم هؤلاء يمتلكون قلوباً مريضة تتوقف فجأة بعد فترة من الحجز. وقد يصدف أن يكون مصير هؤلاء العنيفين الأجلاف المتظاهرين أو المطالبين بوقف القتل، أشنع بما لا يقاس من مصير أولئك الداعشيين الوديعين الذين يصدف أن تنقلهم باصات مكيفة، وتحرسهم بنادق "صديقة"، ويقدم لهم الزاد الروحي والمادي بسخاء حتى يصلوا إلى مأمن، وكل ذلك محكوم لمصادفات لا راد لها. كما يصدف أن يصاب الجلادون (وهو ليس إلا الاسم الشعبي للمحققين المسؤولين عن تقصي وفهم دوافع هذه الكائنات العجيبة التي اختارات الخروج إلى الشارع والصراخ بعبارات غير مقبولة وتناقض البديهيات السورية)، بصدمة إنسانية شديدة أمام ظاهرة توقف القلوب هذه، فترق نفوسهم، الرقيقة أصلاً، ويختارون إخفاء الأمر عن الأهالي خشية على مشاعرهم، وعلى قلوبهم بشكل خاص. ولذلك فإن الأهالي لا يحصلون على أي دليل يقودهم إلى مكان احتجاز سجينهم (نقصد معزولهم) أو حالته، هل هو حي أم ميت، حين يراجعون ويسألون، ويدفعون جناية أعمارهم ودم قلوبهم، ويبحثون عن ضوء ولو من ثقب أبرة. يصدف، من ضمن المصادفات الكثيرة، أن يجد جميع الأهالي أنفسهم على قدم المساواة أمام جدار أسود أصم ليس خلفه ضوء، وليس فيه فتحة ولو بحجم ثقب الأبرة. يصدف أيضاً أن يكتشف أحد ما، أن الحقد الذي تكنه أجهزة المخابرات السورية على المتظاهرين المطالبين بالحرية هو حقد مشروع، لأن المتظاهرين سرقوا من أجهزة المخابرات شعارهم "حرية للأبد"، وطالما أن الحرية لا يمكن قسمتها بين الشعب وأجهزة المخابرات، لأن حرية طرف تعني تقييد الطرف الآخر، فهذا يعني أن المتظاهرين والأجهزة الأمنية يتنازعان على الشيء نفسه، وأن المتظاهرين أرادوا أن ينتزعوا من الأجهزة حريتها الأبدية. ومع ذلك واجهت الأجهزة "الحرة إلى الأبد"، مصادفة توقف القلوب بإنسانية عالية، واختارت أن تخفف عن الأهالي وقع المصيبة بأن لا تخبرهم عن حال سجينهم (معزولهم). حتى أنه حين جاءت لحظة الحقيقة وصار لا بد مما ليس منه بد، أي إخبار الأهالي بقصص توقف القلب، ونظراً لخجل الأجهزة من عيون الأهالي، فقد وضعت بينها وبينهم ستاراً ناعماً اسمه دوائر النفوس. المصادفة الأخيرة (حتى الآن، لأننا لا ندري في الحقيقة إذا كان هناك نهاية للمصادفات) أن الكائنات المتظاهرة التي وجدت نفسها في المنعزلات المجهولة، أبدت خاصية أكثر غرابة من توقف القلب المفاجئ، وهي أن توقف القلب كان يليه تبخر مادي لا يبقي من الشخص سوى اسمه. وربما هذا ما حدا بالأجهزة المثقلة بإنسانيتها، أن تختار دوائر النفوس كستار بينها وبين الأهالي، ذلك أن النفوس في دوائر النفوس ليست سوى أسماء، وحين لا يبقى من الشخص سوى اسمه، كما حصل مع كائنات توقف القلب المفاجئ، يكفي أن يتحرك القلم الأحمر ليصنع إشارة ضرب على صفحته النفوسية، وينتهي الأمر. النفوس، في المحصلة، هي أسماء عليها إشارة ضرب حمراء وأسماء أخرى تقبع في صفحاتها بانتظار الإشارة الحمراء. هذه هي دوائر النفوس ببساطة، وكان يمكن تسميتها دوائر الأسماء لولا جفاف التسمية، وعجزها عن الاقتصار على دائرة الإنسان، فللأشياء كلها أسماء ولكن النفوس خاصية بشرية فقط. على الأهالي أن يعتادوا، مع انهمار المصادفات وتقاربها مع البديهيات، على التعامل مع الموت بطريقة الحذف الذهني. كان ثم اختفى. الاختفاء الأبدي لحبيبهم دون أثر، دون قبر يزورونه، ودون معرفة متى وكيف فارق الحياة، أي دون حقائق ثابتة يطمئنون إليها. اغسطس/اب 2018
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تبدل حال جمهور النظام السوري
-
الوجه والصورة
-
على خط التماس
-
القوة الغاشمة، أسيد الضمائر
-
تحت خط الوطن
-
في مساءلة خياراتنا وأهدافنا
-
لماذا نقبل السجن؟
-
تأثير السجن
-
ملاحظات على عقد عربي فريد
-
مشكلتي مع التعابير
-
المعارضة السورية في طور الهبوط
-
المأساة السورية وليمة صحفية (قراءة في كتاب الأسد أو نحرق الب
...
-
المنشقون والثورة السورية
-
العلويون في مهب السلطة السياسية 2
-
العلويون في مهب السلطة السياسية 1
-
ماذا نستفيد مما يحصل في فرنسا؟
-
هل السلطة السياسية أولوية؟
-
أمي والقضايا الصغيرة
-
-انا في سورية وأريد العودة الى وطني-
-
الصمت ليس حقا لمن لديه ما يقول
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|